نُشرت الصورة الأصلية على صفحة مجلس الوزراء على فيسبوك
صورة معدلة لرئيس الوزراء مصطفى مدبولي والمديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا، 28 أبريل 2024

هل وصلنا شاطئ النجاة؟ قراءة متبحرة في تقرير صندوق النقد عن مصر

منشور الأربعاء 1 مايو 2024 - آخر تحديث الأربعاء 1 مايو 2024

قبل أيام أصدر صندوق النقد الدولي تقريرًا عن مصر، بمناسبة إتمام مراجعاته الأولى لمدى التزامنا بالشروط التي وضعها في اتفاقه معنا سنة 2022، وأشار التقرير في طياته إلى أن مصر أصبحت ثالث أكبر مقترض من الصندوق، وهو ما يجعل من فشل برنامجه الإصلاحي مصدرًا للخطر على "سمعة الصندوق"(1).

تُذكرنا هذه الإشارة بما قاله عمرو عادلي أستاذ العلوم السياسية في مقال نشره في المنصة وقت امتناع الصندوق عن نشر هذه المراجعات في موعدها(2)، والذي كان مؤشرًا على خلاف عميق للصندوق مع الحكومة. وقتها قال عادلي إن الصندوق في ورطة وليس الدولة المصرية، وسيسعى للتشبث بكل الحلول الممكنة لإنقاذ الاقتصاد المصري.

وصدقت توقعات عادلي، حيث اندفع الصندوق لزيادة قيمة التمويل المخصص لمصر من ثلاثة إلى ثمانية مليارات دولار، في مارس/آذار الماضي، رغم أننا خالفنا الكثير من تعليماته، بل وبارك حزمة التمويلات الدولية التي واكبت هذا الاتفاق، والتي بلغت نحو 50 مليار دولار.

تمت مكافأة مصر إذن لأنها أكبر من أن تُترك للانهيار، على حد وصف صحيفة الإيكونوميست، وليس لأنها ملتزمة بالإصلاحات التي يطلبها المانحون، لكن ذلك لا ينفي أن الصندوق لا يزال متمسكًا بالعديد من شروطه محل الخلاف. 

يعكس تقرير الصندوق الأخير، الذي يتجاوز مائة صفحة، أن مصر لديها حاليًا إمكانات مالية تساعدها على الطفو فوق أزمتها المتفاقمة منذ ثلاث سنوات، لكنها لم تصل بعد إلى شاطئ النجاة. وهو التقرير الذي سنُبحر في تفاصيله خلال الفقرات التالية، في محاولة للتنبؤ بنقاط الشد والجذب بين الصندوق والدولة المصرية خلال الأشهر المقبلة.

سعر الصرف.. الخلاف الأبرز 

يصدمنا الصندوق وهو يتحدث في أولى فقرات التقرير عن أن مصر لم تكن ملتزمة بشرطه الخاص بالحفاظ على مرونة سعر الصرف منذ فبراير/شباط 2023، أي أننا لم نلتزم بترك سعر الصرف للعرض والطلب أكثر من شهر، وفق تقديره. 

كان البنك المركزي سمح خلال يناير/كانون الثاني 2023 بقفزة حوالي 5 جنيهات في سعر الصرف الرسمي للدولار، من نحو 25 إلى 30 جنيهًا، للتعبير عن التزامه بسياسة سعر الصرف المرن، لكنه ثبّت سعر الصرف بعد ذلك وحتى مارس/آذار الماضي، عندما سمح مجددًا بقفزة أكثر ضخامة ليصل الدولار الرسمي 50 جنيهًا. 

لا تعني القفزة الأخيرة أننا وصلنا لسعر الصرف المرن، أو هكذا يخبرنا الصندوق في تقريره، فهو يقول إن هذه المسألة ستظل محل مراقبة من طرفه، فما جرى في مارس كان مجرد تحريك لسعر الصرف، أما ما يطلبه الصندوق من مصر فهو سياسة تعويم مستدامة. شرح عادلي أيضًا هذه التفرقة في مقال ثان نشرته المنصة.

تتشبث الدولة بتثبيت السعر الصرف خوفًا على الأمن القومي

تشبث الدولة بتثبيت سعر الصرف خلال العام الماضي لا يعود لخلاف أيديولوجي مع الصندوق، ولكن ببساطة لأنها استشعرت أن ترك سعر الصرف للعرض والطلب يهدد الأمن القومي. لذا فالعودة للخلاف مع الصندوق بهذا الشأن تدخل فيها اعتبارات سياسية عدة، بجانب الاعتبارات الاقتصادية. 

لكي نحكم على فرص وقوع هذا الخلاف، علينا النظر للمعايير التي وضعها الصندوق لكي يحكم على مدى التزامنا بالمرونة وهي: 

1- تلبية البنوك للطلب المتراكم لديها على العملات الصعبة. 

2- غلق الفجوة بين سعري الصرف الرسمي والموازي.

3- ارتفاع معدلات التعامل بالدولار بين البنوك (الإنتربنك) إلى مستويات ما قبل قرارات مارس 2024.

باختصار، تعني هذه الشروط أنه مسموح لنا بالبقاء عند مستويات سعر صرف الدولار الحالية، لكن دون أن نؤثر في السعر عبر تعطيل أي واحدة من مسارات طلب الدولار. أبدت الحكومة نواياها الحسنة في هذا الشأن عبر إعلانات متكررة عن الإفراج عن البضائع العالقة في المواني، لكن الصورة الكاملة ما زالت غير متوفرة لنا إذا ما عادت حركة التجارة إلى طبيعتها أم لا!(3)

تحديات الالتزام بالمرونة؟

 تسببت أزمة الدولار في انكماش الواردات المصرية بنحو 17 مليار دولار، بين عامي 2021/2022 و2022/2023. أي أن لدينا طلبًا كبيرًا ومتراكمًا، ليس فقط على الواردات الاستهلاكية ولكن وارداتنا من المواد الخام وقطع الغيار، وهو ما تسبب في ضعف إنتاج/ارتفاع أسعار طيف واسع من المنتجات المحلية، ما تعكسه تقارير الأشهر الماضية لمؤشر "مديري المشتريات".

يعني ذلك أننا أمام تحدٍ لتوفير النقد الأجنبي الكافي لتلبية طلب متراكم وكبير من الفترة الماضية، وإلا لن يكون أمامنا سوى خياري مخالفة تعليمات الصندوق أو تخفيض جديد لسعر الصرف.

تزداد صعوبة هذا التحدي إذا ما نظرنا لطبيعة الموارد التي سنحتاجها لكي نسد "الفجوة التمويلية"، والتي يقدرها الصندوق بـ 28.5 مليار دولار حتى 2026/2027.

المطمئن في فجوتنا الضخمة أن الصندوق وضع خطة محكمة لتغطيتها عبر حزمة من القروض والخصخصة

وللتوضيح، فالمقصود بالفجوة التمويلية هو النقد الأجنبي الذي نحتاجه لكي نغطي كل طلبنا على العملة الصعبة، بعدما نستنفد كل مواردنا من الاقتصاد الحقيقي، مثل إيرادات الصادرات وإيرادات قناة السويس، أو من أنشطة مالية مثل شراء أجنبي لسند أو سهم مصري. ويتم سد هذه الفجوة عبر إجراءات من المفترض أن تكون استثنائية، مثل خصخصة أصل عام، أو الاقتراض من صندوق النقد، إلخ. 

المُطمئن في فجوتنا الضخمة هو أن الصندوق وضع خطة محكمة لتغطيتها عبر حزمة من القروض الدولية والخصخصة، لكن إذا ما عجز الاقتصاد الحقيقي أو المالي عن جذب الموارد المتوقعة سنكون في حاجة للاقتراض من جديد، أو سنسقط في دوامة قيمة الجنيه.

في هذا الصدد، علينا أن نلتفت إلى أن الصندوق يفترض أننا سننجح في خفض عجز الميزان الجاري بنحو 10 مليارات دولار خلال العام المالي المقبل، مع نمو قوي في الاستثمار الأجنبي في الأدوات المالية المصرية، وهو تحد غير هين.

ناهيك عن أن تحقيق أهداف الصندوق في الخصخصة مُعرض أيضًا لمخاطر التعثر، فهو يشير في طيات تقريره إلى أن أهداف الخصخصة السابقة تعطلت بسبب عدم الالتزام بسياسة سعر الصرف المرن. هي إذن دوامة إذا زلّت قدم فيها ستجر وراءها كل المشاكل الباقية.

خطة صندوق النقد الدولي لسد الفجوة المالية لمصر (بالمليار دولار)
2026/2027 2025/2026 2024/2025 2023/2024 2022/2023  
19.9 18.9 26.7 36.6 11.3 احتياجات التمويل الخارجي
21.5 21.7 20.4 39.4 12.6 مصادر التمويل الخارجي ومنها:
11.1 9.7 8.4 32.2 9.7 صافي الاستثمار الأجنبي المباشر
6.2 4.1 3.9 0.4 -4.1 صافي استثمارات المحفظة
5.4 8 3 12 4.8 الزيادة المستهدفة في احتياطي النقد الأجنبي
3.8 5.2 9.3 7.8 3 الفجوة التمويلية
1.8 3.1 3.5 4.8 3 تمويل الفجوة عبر قروض وودائع لدى المركزي
2 2.1 5.9 3.1 0 إيرادات الخصخصة ومصادر أخرى

تجدر الإشارة هنا إلى أن الصندوق يتوقع من مصر، وهي في خضم معركة الحفاظ على قيمة الجنيه، أن تلتزم بالمعادلة السعرية التي اتفق عليها مع الحكومة لتحريك أسعار الوقود.

صحيح أنه رصد عدم الالتزام بذلك خلال 2023، كما يقول في تقريره، وتسامح مع ذلك، بدليل أنه منحنا المزيد من المال، لكنه عازم على مراقبة هذا الالتزام في الفترة المقبلة، كما يؤكد في وثيقته الأخيرة، ما يضيف المزيد من تحديات الموازنة بين إرضاء الصندوق والقلق من الغضب الشعبي(4).

تحديات الشفافية والحد من الاستثمارات 

تضاف إلى التحديات المالية تحديات أخرى ذات طابع سياسي، تتعلق بمطالب للصندوق منذ إبرام الاتفاق الأصلي، في ديسمبر/كانون الأول من 2022 لم تتم تلبية العديد منها بشكل كامل حتى الآن.

تتعلق هذه المطالب أولًا بإنهاء الامتيازات الضريبية التي يمنحها القانون المصري لكافة الجهات العامة، بما فيها الجهات التابعة للقوات المسلحة، وهي واحدة من الآليات التي يرى الصندوق أنها ستضمن المساواة بين القطاعين العام والخاص في ملعب السوق، حسب تعبير مديرة الصندوق.

وكانت الحكومة استجابت لهذا المطلب في يوليو/تموز الماضي، مع إصدارها قانونًا يهدف إلى إلغاء المعاملة الضريبية التفضيلية للجهات الحكومية. لكن تطبيق القانون ظل معطلًا حتى صدرت لائحته التنفيذية في نهاية يناير/كانون الثاني الماضي.

بجانب ذلك، هناك العديد من المطالب التي تمثل نمطًا غير اعتيادي للدولة المصرية، فهو مثلًا يريد نشر كافة تعاقدات المشتريات الحكومية التي تتجاوز قيمتها 20 مليار جنيه، وتوفيرها أونلاين بحيث لا يحتاج أي مواطن لأي إجراء للوصول لهذه البيانات. كما يتوقع الصندوق من الدولة أن تصدر تقارير سنوية عن المعاملة الضريبية لكافة الجهات التابعة للدولة.

تأتي تلك المطالبات مع ضغوط الصندوق على الحكومة للحد من الإنفاق على الاستثمارات العامة، وتعزيز الرقابة على هذه الاستثمارات حتى وإن كانت خارج الموازنة، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، عن طريق الجهاز المركزي للمحاسبات. هذا إلى جانب ما أبداه الصندوق من انزعاج من اقتراض جهات عامة (لم يسمها) ما يساوي 765 مليار جنيه من البنك المركزي.

المطالب السابقة يمكن تلخيصها في تعبير استخدمه الصندوق في بيان له في مارس الماضي، عندما تحدث عن أهمية أن تستخدم مصر موارد النقد الأجنبي التي ساعدت على وقف نزيف الأزمة، مثل إيرادات صفقة رأس الحكمة، بـ"حكمة"، في إشارة للانتقادات المستمرة بأن توسع الدولة في الاستثمارات العامة كان أحد أسباب أزمة الدولار. 

لكن من جهة أخرى، فإن الكثير من مطالب الصندوق في هذا الشأن قد تنتهي إلى واقع محدود الأثر. على سبيل المثال لا يتوقع الصندوق أن تُحقق مصر إيرادات ضريبية من إنهاء الإعفاءات التي تحصل عليها الجهات التابعة للدولة إلا ما يساوى 0.3% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما ستساهم زيادات في ضريبة القيمة المضافة في جلب إيرادات بـ 1.5%، أي أن ما سيسدده دافعو هذه الضريبة قد يبلغ خمسة أضعاف ما ستقدمه الدولة.

إيرادات يتوقعها صندوق النقد الدولي من إصلاحات ضريبية في مصر (نسبة من الناتج المحلي الإجمالي)
الإجمالي 2026/2027 2025/2026 2024/2025 2023/2024  
0.32 0.09 0.07 0.01 0.06 عوائد إنهاء الامتيازات الضريبية للجهات العامة
1.57 0.5 0.8 0.2   عوائد تعديل ضريبة القيمة المضافة وإنهاء إعفاءات من هذه الضريبة

باختصار، فإن التنبؤ بمدى نجاح اتفاق الصندوق "المعدل" مع مصر بعد فشله خلال العام الماضي أمر غير هين، بالنظر للتحديات الاقتصادية والسياسية التي تقع على عاتق الدولة لتنفيذ شروط الصندوق. لكن في الوقت ذاته، لا يرغب الصندوق في فشل الاتفاق، للحفاظ على سمعة البلد الذي اقترض منه مبالغ ضخمة، وربما يكون مستعدًا لقبول بعض من التحايل على شروطه، كما يظهر في توقعاته لإيرادات إجراءات إصلاحية مثل إنهاء الإعفاءات الضريبية.

والأهم هو أن خطة إنقاذ تم بناؤها على أرضية سياسية بالأساس، من الصعب أن نتوقع فشلها لأسباب اقتصادية.