هاجر هشام
آثار غياب الصرف الصحي على جدران المنازل في ميت عفيف

الصرف الصحي في مصر: تبرع لتحصل على حقك الدستوري

منشور الخميس 28 يونيو 2018

 

لسنوات طويلة ظل بسام شلبي يتنقّل بين أعضاء مجلس المدينة والمسؤولين في مركز الباجور بمحافظة المنوفية، وهو يسعى لإدخال شبكة صرف صحي في قريته ميت عفيف. 

ورث شلبي هذا المسعى من والده كما ورث العمودية "إحنا بنتكلم عن الصرف الصحّي ده من أيام الوزير كمال الشاذلي الله يرحمه"، بعد سنوات من "الجري" كما يصفها في حديثه لـ المنصّة، جمع هو وأبناء قريته من أموالهم ثمن أرض تبرّعوا بها للهيئة القومية لمشاه الشرب والصرف الصحّي من أجل إنشاء محطة رفع صرف صحّي في قريتهم.

الحديث عن الصّرف الصحّي في ميت عفيف يفتح كل الأبواب المغلقة، يشيح الأهالي بوجوههم عن عدسة الكاميرا في البداية، ولكن مع بدء الحديث عن قضية الصرف الصحي، يوافقون على تصوير بيوتهم بعد تردد وخوف، يشيرون إلى مواضع تأثر حوائط منازلهم بمياه الصرف التي تفيض من وقت لآخر على شوارعهم وأساسات البيوت، ولا تفرق بين البيوت الريفية القديمة بطوبها اللدن وتلك الجديدة المبنية بالأسمنت، بركض الجميع نحو الكاميرا يطلبونها لتسجّل ما يعيشونه من قلّة خدمات.

أحد أهالي ميت عفيف المتضررين من مشكلة غياب الصرف الصحّي، تصوير: هاجر هشام

يعاني الأهالي، بحسب شلبي، مع شاحنات الكسح التي تجوب شوارع قريتهم وأزقتها بأسعار تبدأ من 50 جنيهًا للشوارع الواسعة، وتزيد تكلفتها كلما ضاق عرض الشارع لتصل إلى 100 جنيه "في ناس بتستلف عشان الخزّان بتاعها، لما بتيجي الكسّاحة لشارع الناس بتتخانقوا عليها".

ينتهي النزّاع على الشاحنة غالبًا، كما يحكي شلبي، بفيضان الخزّانات بما فيها على الشّارع، ليصبح القفز فوق الحجارة هو وسيلة الأهالي الوحيدة للتنقل من مكان لآخر حتى انتهاء شاحنات الكسح من عملها، قبل أن ترمي كل ما جمعته بجانب الأراضي الزراعية "هو بيرمي في أرضه (يشير إلى إحدى شاحنات الكسح)، لو كانت أرض حد تاني كان عمل معاه مشكلة"، يرى شلبي في شبكة الصرف ما هو أكثر من توفير خدمات تفتقر قريته إليها منذ سنوات "ييجوا يشتغلوا في الصرف الصحّي بدل ما الناس تتخانق مع بعضها".

بعد أن تحول إدخال الصرف الصحي إلى ميت كفيف أمرًا حيويًا بعد أن باتت البيوت مهددة، لم يعد هناك بد من أن يتبرع أهالي القرية لشراء أرضٍ والتبرع بها للدولة "فيه اللي دفع خمسين وفيه اللي دفع 200 واللي دفع 500، وفيه اللي دفع أكثر عشان أهله بلده ما يقعدوش كده من غير صرف" بحسب شلبي.

وتعاون المسؤولون مع أهالي القرية بالإشارة إلى أفضل قطعة أرض يمكن للأهالي شراؤها.

عمدة قرية ميت عفيف وهو يحادث امرأتين من القرية في منزله، تصوير: هاجر هشام

صرف صحيّ بالتبرّعات

الأرض التي تبرع بها أهالي ميت عفيف واحدة من خمس أراضٍ أصدر مجلس الوزراء قرارًا بتخصيصها للهيئة القومية لمياه الشرب والصرف الصحي خلال شهر مايو/ أيار الماضي، من أصل 64 قرار تخصيص أرض صدرت خلال نفس الشهر لهيئات حكومية خدمية مختلفة.

الأراضي الخمس التي صدرت القرارات الحكومية بتخصيصها للهيئة، جاءت كلها من تبرّعات المواطنين، وتوزعت في محافظات كالبحيرة والمنوفية وبني سويف، وهي محافظات بحسب معلومات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تفتقر كثير من قراها لخدمات الصرف الصحّي.

بحسب الجريدة الرسمية، أصدرت الدولة خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2018، 268 قرارًا بتخصيص أراضٍ للمنفعة العامة، 35% من هذه القرارات تعلقت بأراضٍ جاءت من تبرعات للأهالي، مقابل 57% لأراضٍ مملوكة لهيئات مختلفة في الدولة. 

تبرعات الأهالي تنوعت قرارات تخصيصها بين الصرف الصحي والتعليم وإقامة الوحدات الصحية، أما الأراضي الحكومية فقد خصص معظمها لأعراض التعليم وبناء المدارس، وأتت بعدها الخدمات الشرطية والقضائيّة ومراكز الشباب، ثم المباني الإدارية، ومن بعدهم يأتي الصرف الصحّي والخدمات الصحيّة والبيطريّة.

ومنذ بداية 2018 صدر 49 قرارًا بتخصيص أراضٍ لمشروعات الصرف الصحي، ومن بين قطع الأرض الـ49 هذه، هناك 31 قطعة أرض تبرع بها السكان، بنسبة تصل إلى 63.2%.

نائب وزير التنمية المحليّة للتخطيط محمد السيد يؤكد في حديث هاتفي أن تبرعات الأهالي بالأراضي شرط للبدء في مد القرى بشبكات الصرف، موضحًا "وزير الإسكان مصطفى مدبولي إدى تعليمات إن اللي مش هيوفّر أرض مشروعه مش هيتنفّذ".

تعليمات مدبولي، الذي أصبح لاحقًا رئيسًا للوزراء إلى جانب كونه وزيرًا للإسكان، تتعارض مع قرار رئيس الجمهورية الذي صدر في فبراير/ شباط 2018، بضرورة التزام الجهات صاحبة الولاية على أراضي الدولة بالمخرجات الواردة باستراتيجية التنمية المستدامة 2030، هذه الاستراتيجية تحمل في طيّاتها إيصال الصرف الصحّي لكل قرى جمهوريّة مصر العربية بحلول 2030، لكن وبحسب ما قاله السيّد لـ المنصّة فإن الحكومة المصرية تنوي تحقيق هذا ببناء الإنشاءات من القروض، وتوفير الأراضي من جيوب المواطنين. حاولت المنصّة التواصل مع هاني يونس المتحدّث الرسمي باسم وزارة الإسكان، لكن لم يصلها أي رد منه. 

من وجهة نظر السيّد فإن كثرة تبرّعات الأراضي في القرى سببها حب القرويين للخير وتقديرهم لثقل المسؤوليات على عاتق الحكومة، وإن كان ما حدث في ميت عفيف يوضح جانبًا آخر للقصة، فالتبرع كان هو الخيار الأخير لإنهاء سنوات العيش بلا صرف صحي. 

حكومات متنصّلة

يرى بشير صقر، الخبير والمهندس الزراعي وعضو لجنة التضامن الفلاّحي، أن المنهج الذي يتبّعه الأهالي في قرى الريف المصري بالتبرّع بالأراضي من أجل المنفعة العامة هو أحد نواتج سياسة الحكومات المصرية المتتابعة، منذ عهد الرئيس السادات، والتي ترفع يدها عن قضايا تنفيذ أحكام الأراضي خاصة في الرّيف الذي تقل فيه المساحات المتاحة للاستخدام العام.

ويقول صقر لـ المنصّة عبر الهاتف إنه "مع تكاثر أهالي الأراضي المصرية القديمة (الدلتا)، بقى صعب تلاقي مساحات للاستخدام العام، الريف مافيهوش خرم إبرة، بعكس الأراضي خارج المساحة دي".

يفسّر صقر بقوله هذا التفاوت في نسب الأراضي المُتبرّع بها من الأهالي من أجل مشروعات خدمية في الدلتا عن تلك النسب في المحافظات الحدودية كمطروح والوادي الجديد والتي تقام كل المشروعات العامة فيها على أراضي الدولة.

ويتابع أن قلّة الأراضي المتاحة للاستخدام العام يجعل من الصعب بقاء أرض أو مساحة خالية تنتظر صدور قرار من أجل تنفيذ مشروع ما. "لو فيه مساحة فاضية ما اتبنتش عشان الصرف الصحّي، هتتبني عشان تبقى مساكن أو ملاعب كورة أو سوق، خاصة مع زيادة نسب الموظّفين والطلبة مقابل المزارعين في بعض القرى، ويوضح أن ما يحدث عادة هو أن الأهالي من ملاك الأراضي يتقاسمون المساحة المطلوبة للمشروع، ويقوم الأهالي بجمع الأموال اللازمة مقابل هذه المساحات "كل واحد بيتخلى عن حتة صغيّرة من أرضه، والناس بتجمّع فلوس وتديلهم ثمن الأرض بسعر السّوق".

أغلب الأراضي التي يتم شراؤها بحسب صقر هي أراضي من متيسّرين يملكون مساحات كبيرة "لو رحتي لفلاّح عنده ست قراريط قلتيله هاتلي قراطين، هيقولك اخبطي دماغك في الحيط"، لا يذكر صقر الحكومة ونزع الملكيّة في المعادلة، فالحكومة، كما يرى، ليست طرفًا في الأمر منذ سنوات.

يلجأ الأهالي لجمع تبرعات من بعضهم، أو الاتكال على أحد الميسورين في قراهم لتوفير أثمان الأراضي في محاولة حل مشكلة افتقارهم للمرافق العامة، فحسب محمود الحصري، مراسل جريدة الوطن في محافظة المنوفية، فإنه وخلال عمله كمراسل لأحد عشر سنة، وحتى قبل عمله كصحفي، تعتمد المؤسسات الحكومية على الأهالي في توفير الأراضي التي لا تستطيع المحافظة توفيرها مما تملك"الأهالي هي اللي بتوفر الأرض في المدارس والصرف وأي حاجة منفعة عامة لما يلاقوا إن مشكلة الأرض هي اللي معطّلة الدنيا".

غياب الصرف الصحي يؤثر على كل الجدران، تصوير: هاجر هشام

يفسّر الحصري لـ المنصّة "صرف صحّي أو غيره، لو عندي مشكلة مع الجهات التنفيذية، لو ما جريتش أكثر من مرة وألحيت وعملت مشاكل أو اعتصمت وتظاهرت، محدش هيحلها"، مسألة توفير الأهالي للأراضي كتبرّعات للجهات التنفيذية الحكومية صارت بمثابة العرف في محافظة المنوفية، بحسب الحصري، هو بنفسه غطّى في قصة صحفيّة تأخر الحكومة المصرية عن بناء عدد من المدارس في المحافظة، كلها تم توفير الأراضي المخصصة لها من تبرّعات الأهالي.

أغلب الأراضي التي يوفّرها الأهالي، بحسب الحصري، هي أراضٍ زراعية لرخص سعرها مقارنة بالأراضي داخل حيّز (كوردون) المباني، يتبرّع الأهالي بالأرض بعد استصدار موافقة وزارة الزراعة عليها "يتساوى في ده الغني والفقير، مااعتقدش إن فيه إحصاء رسمي، بس في مساحات كبيرة بتوفرها الأهالي للمنفعة العامة".

تنص المادة 177 من الدستور المصري على أن "تكفل الدولة المصرية للوحدات المحليّة المعاونة العلمية، والفنية، والإدارية، والمالية، وتضمن التوزيع العادل للمرافق، والخدمات، والموارد، وتقريب مستويات التنمية، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين هذه الوحدات، طبقا لما ينظمه القانون"، وهو واجب على الحكومة المصرية لا تطبّقه في القرى مقارنة بالمدن.

وبحسب نص المادة، فإن تكاليف إنشاء المرافق العامة من واجبات الدولة، كما يتوجّب عليها ضمان عدالة التوزيع بين محافظات مصر في إمداد أهلها بالخدمات، لكن بحسب حديث نائب وزير التنمية المحلية للتخطيط مع المنصّة، فهو أمر لا تقوم الحكومة على الإطلاق.

يقرّ محمد السيد حقوق أهل القرى في الحصول على خدمات أساسية دون مقابل يدفعونه في إنشائها، لكنه يرى في أهل القرى "ميزة" تستغلها الحكومة المصرية جيّدًا، يقول السيّد"كل الأراضي في المدن نزع ملكيات، لإن التركيبة الديموغرافية في المدن غير الرّيف، الرّيف بطبيعته خيّر ومعطاء، بيقدروا وبأقل حاجة بتأثر فيهم، لو بس في الجامع خطبله خطبة كويسة، يخلي نص القرية يتحرّك معاه، المدن فيها لامبالاة"، يشرح السيّد أن عدم ميل أهل المدن للتبرّع بالأراضي سبب في رفض العديد من ميزانيات المشروعات لهذه المناطق، على عكس الرّيف.

ميت عفيف، تصوير: هاجر هشام

الخير والعطاء في توفير الأراضي وصل إلى مليار ونصف في محافظة كالبحيرة، التي أعلنت محافظتها نادية عبده نهاية مايو/ أيار الماضي أن تبرعات الأراضي كان هدفها إنشاء 30 مدرسة في المحافظة متّسعة المساحة، معربة عن "شعورها بالفخر" أثناء تجميع أرقام التبرّعات.

يقر السيّد في الاتصال الهاتفي الذي أجرته معه المنصّة أن ما يحدث يمثل إجحافًا، على حد تعبيره، لكن الدولة مثقلة الكاهل "حطّي نفسك مكاننا إحنا داخلين على حوالي 7 مليار جنيه أو 8 مليار تعويضات نزع ملكية (في الطرق الاستراتيجية اللي الدولة أنجزتها خلال الفترة الماضية)، كده المواطنين بيخفّوا عن كاهل الدولة".

محافظة عبده كانت أيضًا المحافظة الأكثر عطاءً في قرارات تخصيص شهر مايو 2018، والتي جمعتها المنصّة من الجريدة الرسمية، فبالتزامن مع شهر رمضان، تبرعت ست قرى بأراضٍ لأجل المنفعة العامة، وكانت في المركز الثاني بعد المنوفيّة في التبرّع بالأراضي من أجل مشروعات الصرف الصحّي، لكن حتى هذا الحل لايضمن انتهاء المشكلة، قصّة قرية الجزيرة الخضراء، محافظة كفر الشيّخ، والواقعة على حدود محافظة البحيرة توضّح ذلك.

تعاون مفترض

خلال شهر رمضان، ملأت إعلانات جمعية أصدقاء المبادرة المصرية ضد السرطان عن مشروعات البنى التحتية التي تعمل عليها، قنوات التلفزيون والراديو المصرية.

إحدى تلك القرى كانت قرية الجزيرة الخضراء التابعة لمحافظة كفر الشيخ، يحكي الإعلان عن تقرير تلفزيوني أذيع عن مشكلة القرية وما يعانيه الأهالي، لتتحرك المبادرة بعدها وتتواصل مع الجهات الرسمية التي ستتعاون مع المبادرة لتحقيق "حلم القرية بصرف صحي".

مجدي الصبّاح، أحد سكّان القرية يحكي قصّة مختلفة عن "تعاون الدولة" معهم.

يحكي الصبّاح (35 سنة) لـ المنصّة عبر الهاتف أنه ولد ليجد مشكلة الصرف تلازمه طيلة عمره "كل حاجة بالجهود الذاتية، بدأنا الأول بإننا نعمل خفض منسوب، وماكانش بيفلح والمجاري كانت بتطفح برضو"، شارك أهل القرية في تجميع ثمن أرض من أجل إنشاء محطّة رفع صرف صحّي، لكن هذا لم يكن إيذانًا بحل مشكلتهم، ظلّت الأرض خاوية إلى أن تواصل أهالي القرية مع المبادرة التي قامت بالإنشاءات "إحنا تعبنا عشان نجمّع ثمن الأرض ديه".

على عكس ما يعتقده مسؤول وزارة التنمية المحليّة الذي هاتفته المنصّة، يشعر الصبّاح بإهمال الدولة على كل المستويات لهم، على حد تعبيره " أنا عاشرت الناس اللي هي أكبر مني سنّا لحد ما وصلت لسنّي ده، واحنا بنعمل مناشدات وشكاوي ونرفع للمحافظة ونرفع لوزارة البيئة ونرفع للمجالس المحليّة ومجالس القرى".

أحد الأهالي بجانب منزله الجديد، والذي تظهر على جدرانه آثار غياب الصرف الصحّي

تجذّر المشكلة لسنوات في قريتهم كان له أثر على أجساد أبناء القرية، كجسد الصبّاح وإخوانه الذين تتنوع إصاباتهم بالأمراض الناتجة عن التلوّث بين الفشل الكلوي وفيروس C، يقول الصبّاح إن أغلب أهالي القرية، وهو منهم، من الصيّادين الذين لايملكون ثمن شراء فلاتر المياه وغيرها من الأدوات التي يمكنها أن تقي أبناءهم الأمراض التي وصلتهم من قبل "أنا لو مقتدر إني أطلع أسكن في مدينة تانية كنت رحت، مدينة مش قرية، المدينة فيها مية نضيفة وأكل وشرب ورقابة من الصحّة ومن كل الجهات، فيها رقابة".

بحسب ما يحكيه الصبّاح، لم تمد الدولة يد العون في أي من متطلبات ماديّة لمشروع الصرف الصحّي، الأرض من الأهالي ومحطة الصرف من المبادرة، يتّفق هذا وما يحكيه أحمد زعزع، الباحث والمصمم العمراني لـ المنصّة عن طريقة تعامل المسؤولين مع الجمعيات التي تستهدف التطوير العمراني "لما بنروح لرؤساء الأحياء نعرض عليهم مشروع، بيرفضوا، لما بنقولهم إننا هنصرف عليه بيوافقوا، ده اللي بيحصل بالظبط، بوش مكشوف".

تمكين في اتجاه خاطئ

يقول زعزع إن وجود كيانات بديلة للدولة، كالجمعيات الخيرية وبعض رجال الأعمال، تموّل مشروعات للبنية التحتيّة، كما في حالة الجزيرة الخضراء، تحوّل من صورة من صور التكافل إلى اقتصاد بحد ذاته "مدينة زي هرم سيتي مثلاً (رجل الأعمال نجيب) ساويرس ماكانش مضطر يبنيها، ده مش مشروع استثماري، هو مش هيكسب منّه حاجة، ده المفروض دور الدولة"، يضيف زعزع "ده دستوريًا بيبوظ دور الدولة لأنها المسؤولة عن توفير سكن وخدمات وبنية تحتية ورعاية اجتماعية للمعاقين والمتعطّلين وكبار السن".

يقول زعزع إن منهج الحكومة هو امتداد للخطاب الذي استمر الحكومات المصرية المتعاقبة في تصديره للمجتمع حتى من خلال الأفلام "لغاية النهاردة بقت في تصريحات رسمية للرئيس إن الحكومة مماعهاش تصرف على كل ده، فاللي جاي معاه قرشين إحنا تحت أمره، هو ده بقى الواقع، الحكومة بتتنصل من أية مسؤوليات، بحجة إحنا ماماعناش فلوس، إحنا فقراء".

يتّفق صقر مع ما قاله زعزع لـ المنصّة، يقول إنه ومنذ عهد السادات وتأثرًا بسياسة صندوق النقد الدولة والبنك الدولي للإسكان والتعمير ومنظمة التجارة العالمية "الدولة فضّت إيديها من العمل التنفيذي في قضايا الزراعة والإسكان"، بداية تطبيق هذا المنهج كان على استحياء في عهد السادات، ومن ثم بشكل أكثر جرأة ووضوحًا في عهد مبارك، بحسب صقر، إلى أن وصلنا للوضع الحالي، ما يقوله صقر يتّفق وما يحكيه السيّد عن كواليس تنفيذ مشروع شروق الخاص بتنمية الرّيف وتحمّل الأهالي جزءًا من تكلفة إنشاء مشروعات البنية التحتيّة في قراهم.

ذكر محمد السيّد البرنامج القومي للتنمية الريفية الذي بدأ في عهد مبارك عام 1994، كنموذج ناجح لتنمية الرّيف، كان الأهالي يشاركون في اختيار أولويات مشروعات التنمية، إضافة إلى تكاليف المشروع "100% من أراضي المشروع ده كانت من تبرّعات الأهالي"، ما يحكيه السيّد عن المشروع يشير إلى أن الأهالي كانوا يتحمّلون ما هو أكثر حتى من تكلفة الأرض.

يقول السيّد "فإحنا كنّا بنقوله عشان ننفذلك مشروع مية ومشروع تاني، إيه رأيك نوردلك إحنا المواسير أو المواد اللي بفلوس وإنت شارك معانا في أعمال الحفر والردم والتركيب فكان الأهالي يجيبوا سبّاك من القرية وهم اللي يحفروا، هم أصلا فلاحين وديه مهنتهم وهم يحفروا الشبكة تحت إشراف الإدارة الهندسية في الوحدة المحليّة ويركبوها".

بحسب حديث السيّد فإن كل مشروع يوجب تكلفة مختلفة على الأهالي "المية هم يحفروا ويردموا واحنا نجيب المواسير، صرف صحي إحنا نعمل الرئيسي وكل شارع يلم من بعضه ويجيبوا المواسير الصغيّرة والوصلات ويعملوا الصرف".

الثقل الاقتصادي لتحمّل مشروعات البنى التحتية كانت العقبة التي كررها السيّد ثلاث مرّات في مكالمته مع المنصّة التي استغرقت أكثر من 11 دقيقة، يقول السيّد إن التبرّعات تقلل تكلفة المشروع بحوالي 40% وتزيد من سرعة إنجازه "نزع الملكية ده لازم له إجراءات والقرار من رئيس الوزراء، والتبرّع ده أفضل كمان من نزع الملكية ومشاكله".

يقول السيّد إن نظام التبرّع شيء إيجابي ويساعد على جعل المواطنين أكثر مبادرة  "بتخلّي المواطنين كلهم يتحرّكوا مع بعض بدل واحدة واحدة"، زعزع يظن ذلك أيضًا بوصفه نوعًا من أنواع التمكين الاجتماعي، لكنه يرى نتائجه ستكون عكسية في وجه الحكومة، يضرب مثالاً بعشوائيات القاهرة أو السكن غير الرسمي الذي لا تعترف به الحكومة، لكن الأهالي استطاعوا  "ما الأهالي خلاص بنوا بيوتهم ووفروا خدماتهم، لأ يبقوى انتم مالكوش دعوة بينا، الاستقلال بقى".

أثر الصرف على جدران المنازل في ميت عفيف، تصوير: هاجر هشام

يضيف " تبعيات ده مزيد من الفقر، لو الأهالي قادرة تمول ده فهم مش قادرين على إدارته ولا التأكد من جودة الخدمات اللي بيقدمها لأنهم مش متخصصين". يقول زعزع إنه وحتى في حالة تلك المناطق التي كان الأهالي يوفرون أغلب الخدمات لأنفسهم، فإنهم كانوا يحتاجون موارد الدولة في النهاية "كابل كهرباء أو صرف، هم بيشوفوا أقرب مصدر من الدولة وبيمدوا منه الخدمات بشكل عشوائي"، وهو أمر يؤيّده السيّد ويثني عليه بشدّة.

البيوت من الداخل، تصوير: هاجر هشام

ردًا على البيانات التي جمعناها من الجريدة، قال السيّد إن الطبيعي أن تكون نسبة التبرّعات أكثر من 50% "إحنا اللي لسّة مش قادرين نفعّل المشاركة المجتمعية بشكل كافي"، مشيرًا إلى البرنامج القومي للتنمية الريفية، وإليه هو شخصيًا كواحد من أهالي إحدى القرى بطنطا الذين بنوا محطة رفع الصرف الصحّي الخاصة بهم على أرض بتبرّعات الأهالي "جمّعوا نص مليون جنيه في أسبوع".

يقول السيّد "كانت جاية منحة من الإمارات وطلب عدم دفع تعويضات نزع الملكية من الأموال المقدّمة، فطلبت من الأهالي تجميع مبلغ وأنا كان عندي حتّة أرض اتبرعت بيها عشان المشروع يتعمل"، يضيف السيّد "القرية كلها بتجيب مقاول وعاملين على كل بيت أو فرد نسبة معيّنة من الفلوس، بيجمّعوا مثلاً في حدود 2 مليون وجايبين مهندس يصمم الشبكة وعلى أقرب محطة صرف صحّي ويعملوا مشروع الصرف بتاعهم ويوصلوها بيه (أقرب محطة صرف صحّي)".

ادفع عشان الصّرف

عندما سألنا السيّد في المكالمة الهاتفية عن حقوق الأهالي الذي يتحمّلون عبئًا اقتصاديًا إضافيًا للمرة الثالثة، قاطع السؤال الذي لم يكتمل قائلًا "إحنا مش عايزين نتحرك في الجزئية ديه، عشان ما نظبطش همّة الناس ويبقى ده قاعد ومنتظر الدولة، خلي بالك لما بتخلي المواطن قاعد كده متلقي الخدمة لما تقوليله إن ده حقك إن انت ما تعملش، (المواطن) ما بيهتمّش".

حتى 2017 تم إيصال 9% من القرى المصرية بشبكات الصرف الصحّي، والتي هي جزء من العوامل التي ساعدت في ارتفاع مصر أربعة مراكز على مؤشر التنافسية العالمي في جودة البنية التحتية بين العامين 2017 و2018، وذلك في إطار خطّة مصر لإيصال جميع القرى بشبكة الصرف الصحّي في عام 2030. مشروعات قال عنها السيّد إن تنفيذها مرتبط بتوفير الأهالي في مناطق الرّيف للأراضي.

لم يُبلغ بسام شلبي بشكل واضح بأن على الأهالي توفير الأرض من أجل البدء في إيصال ميت عفيف بشبكة لصرف الصحي. يقول شلبي إنه عرض عليهم لتسهيل المشكلة المزمنة، الحل الذي تنتهجه وتسعى إليه القرى المحيطة بميت عفيف.

لا يجد شلبي غضاضة من التعامل مع فكرة التبرّع لحل مشكلة الصرف، هي بالنسبة إليه أفضل من النزاع على عربات الكسح التي ترتفع أسعارها باستمرار تبعًا لارتفاع أسعار المحروقات "كلهم بيلموا من بعض عشان بلدهم لأنهم بيعانوا من ده (الصرف الصحّي)، بيقولوا لو هيعملوها على حسابنا بس الناس تيجي وتشتغل".


شاهد: صرف صحي بالتبرّعات