فيسبوك
واجهة مكتبة تنمية

المغضوب عليهم: جولة داخل مكتبة تنمية

منشور الخميس 23 يناير 2020

 بين شوارع وسط البلد وفتارين الملابس والمقاهي الشعبية التي تتصدر نكات الحديث عند المثقفين، وتحديدًا في شارع هدى شعراوي، يقف فرع تنمية بواجهته الزجاجية التي لا تخفي خلفها عالم الكتب الفريد، المُغري حتى لتلك الفتاة التي أخبرتني أنها قارئة حديثة، لا تتبع أخبار المكتبات والإصدارات، ولكن المنظر المريح للعين، والمهيب بشكل ما، هو الذي دفعها للدخول وإلقاء نظرة على العناوين.

 

واجهة تنمية فرع وسط البلد

لسنوات طويلة اعتاد القرّاء انتظار معرض الكتاب، أملًا في الوصول إلى إصدارات دور النشر العربية التي ندر وجودها على مدار العام، وإن وجدت لكانت أسعارها مرتفعة جدًا، نظرًا لتضمينها أسعار الشحن وما شابه. منذ ظهور تنمية، تغيّر الأمر رويدًا رويدًا حتى صار الجميع يعتبرها بمثابة "معرض الكتاب الدائم"، دنيا واسعة من الإصدارات الحديثة، الموثوق في محتواها، فالقائمين على تنمية اعتمدوا مبدأ الذوق الانتقائي المحترف المثقف الخبير فالشباب العاملين فيها هم في الأصل قُرّاء متخفين في زي بائعين، لا تسأل أحدهم رأيًا أو ترشيحًا أو معلومة، وتجد منهم تخاذلًا، أو فتوى ثقافية متقعّرة.

يوم في تنمية

يقف الشاب الواعي في المكتبة بانتظار العميل القادم، يصحبه إلى الكتاب الذي يطلب ويقف مجيبًا عن أسئلته، حتى يحيّره أحدها فيلجأ لصاحب المكتبة، المثقف النشط، الذي يدري عن مكان كل كتاب من بين الأرفف العريضة، فيجيب عن توفّره من فوره، ويمد يده ساحبًا إياه، أو قافزًا بنشاط على كرسي قريب حتى يطوله على رف علوي، يرشّح للحاضرين والسائلين، ويطلب من الفتاة الرقيقة الجالسة على جهاز الكمبيوتر أن تبحث عن عنوان ما أو موضوع ما، أثاره سؤال أحد العملاء، في قاعدة بياناتهم العريضة والمحدّثة دائمًا.

 

رفوف تنمية 

لا يتبعك في زيارتك أي من العاملين إلا إن طلبت، فيمكنك تصفح ما تشاء، أو الانتقال ما بين العناوين متعرفًا على الإصدارات الجديدة.

في غمرة انشغالهم، يخطو إلى المكتبة رجل طويل يتحدث بلكنة غير مصرية، يبدأ في الانتقال بعفوية بين العناوين، وعلى وجهه ابتسامة عريضة لا يدري أحد منبتها. أتبعه في محاولة لسؤاله عن سبب زيارته لـ تنمية على الأخص، وبحضور صاحب المكتبة يبدأ الرجل اللطيف في قص الحكاية وابتسامته الظافرة لا تفارقه؛ "كنت في زيارة منذ عامين للمكتبة مع فنان تشكيلي من أصدقائي المقربين، وقد عرّفني على المكان وارتحت جدًا لأجوائه الحميمية، ولما احتواه من كنوز الإصدارات العربية والأجنبية، ولقلة خبرتي بالقاهرة، فقدت الطريق في السنوات الماضية وحرت في الوصول إلى المكتبة دون فائدة، حتى اليوم، وبينما مررت بالمنطقة لزيارة جاليري قريب، فوجئت بوجودها، فدخلت مشتاقًا سعيدًا، كالمهتدي بعد طول غياب".

 

حمزة الصيرفي (إلى اليمين) مع المؤسس المشارك لـتنمية، محمود لطفي

سار  حمزة الصيرفي في أروقة تنمية فاحصًا كل زاوية، وقد ظهر من حديثه إلمامه بالفنون عمومًا وبعموم مجالات الأدب بشكل خاص، وبدأ في سؤال مالك المكتبة عن عناوين بعينها وعن ترشيحات في مجالات مختلفة، وكان يحصل على إجابته الشافية الوافية في كل مرة، ويبدأ في رص الكتب في سعادة متناهية، بينما لا يتوقّف عن إبداء سعادته باكتشافه المكان في هذا اليوم تحديدًا، وبتلك القصص التي كان يحكيها لأصدقائه عن إصدارات تنمية، ووعوده لهم بإهدائهم نسخ منها، وخصوصًا ما أطلق عليه "فكرة رقيقة لا تنقصها العظمة"، قاصدُا سلسلة قصائد محمود درويش التي أصدرتها المكتبة في صورة كتاب بقطع عريض مصحوبًا برسومات للأطفال.

معرض الكتاب وتنمية 

بدأت تنمية الاشتراك في معرض القاهرة الدولي للكتاب  داخل صالات العرض منذ عام 2010، وقد أثبتت قدرتها على تمثيل الوسط الثقافي والعاملين بمجال النشر والطباعة حتى عام 2012، حيث بدأت المشاركة بجناح خاص رئيسي على بوابات المعرض (في مقره القديم بأرض المعارض مدينة نصر) مباشرة، وقد حقق الجناح نجاحًا وحضورًا قويًا بالمعرض منذ ذاك الحين، حتى صار لـ تنمية ثلاثة أجنحة في المعرض في العامين الأخيرين من إقامته في مدينة نصر.

نعرف أن تنمية مُنعت من الاشتراك في المعرض العام الماضي، في مفاجأة غير سارة للوسط الثقافي والمتابعين لدورها، وقد اعتبر الجميع أن الأمر مجرد صدفة سيئة بتضارب في مواعيد استخراج الرسومات أو ما شابه، وانتظرنا أن يأتي هذا العام بالعوض، وقد تكرر الأمر هذه السنة أيضًا وأعلنت تنمية عن عدم مشاركتها في معرض القاهرة الدولي للكتاب بدورته الحالية (من 22 يناير/ كانون الثاني إلى 4 فبراير/ شباط).

السبب المعلن للقائمين على تنمية هو أن الأمر يعود لنقص أماكن العرض، ومشاكل خاصة بالأوراق الثبوتية، وذلك على الرغم من استيفاء المكتبة لكل الشروط هذا العام، وزيارة المسؤولين في المكتبة لمكاتب القائمين على تنظيم المعرض مرارًا، محاولين الوصول لنقطة التقاء وتفاهم.

 

منشور على فيسبوك للمؤسس المشارك لـ تنمية محمود لطفي، يشرح فيه منع المكتبة من المشاركة في المعرض

وكانت محكمة الطعون العليا العسكرية أيدت في ديسمبر/ كانون اﻷول الماضي حكمًا بالحبس خمس سنوات ضد مدير تنمية الناشر خالد لطفي، بتهمة نشر أخبار كاذبة وإفشاء أسرار عسكرية.

وأُلقي القبض على لطفي في أبريل/ نيسان 2018 على خلفية توزيعه طبعة عربية من كتاب "الملاك" الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون اللبنانية، وقُدم للمحكمة العسكرية التي أصدرت حكم أول درجة بحقه في أكتوبر/ تشرين اﻷول 2018، وأيدته محكمة استئناف عسكرية في 13 فبراير/ شباط الماضي.

خسارة مشتركة

وفي محاولة لتفادي الخسائر في تبعات هذا القرار، أقامت تنمية بفرعيها في وسط البلد والمعادي، معرض كتاب موازٍ بخصومات ومسابقات، حفزَّت القرَّاء على زيارتها امتنانًا لدورها طوال العام في إمدادهم بالعناوين التي اعتدنا أن نقرأ عنها ولا نملك إليها سبيلًا. انتعشت حركة البيع في تنمية قليلًا مؤخرًا نتيجة إقامة معرضها، خصوصًا في الشهور الثلاث قبل وإبان المعرض (ديسمبر، يناير، فبراير)، وهي فترة الركود الطبيعية في المكتبات.


اقرأ أيضًا: سجن يشبه صخرة سيزيف: عن خالد لطفي ورعب العقاب


بدأت تنمية منذ فترة طويلة في تطوير دورها كمكتبة تعرض إصدارات دور النشر المختلفة، حتى صارت وكيلًا لمعظم دور النشر العربية الشهيرة في مصر، وهدفت لتوفير تلك الإصدارات على طول العام بالإضافة لهدفها الأصيل في محاربة تزوير النسخ، أو ما اصطلح على وصفه في وسط الناشرين بالـ"مضروب"، فعقدت صفقات مع العديد من دور النشر العربية بتوفير إصداراتها في مصر على مدار العام في تنمية بخصم 50%، ومنها الرافدين، وأثر، وممدوح عدوان، وغيرها.

ومنذ الوقت التي قررت فيه تنمية دخول مجال النشر، وأصدرت بالفعل بعض إصدارات مهمة في مجال الأدب والترجمة، بالإضافة للفكرة المذهلة التي استحدثتها بإصدار طبعة مصرية من الإصدارات العربية بسعر يتناسب وميزانية القارئ المصري، ولا يقارن بالسعر الأصلي للطبعة في نسختها العربية، ومنها رواية سعود السنعوسي الأخيرة ناقة صالحة، وحارس سطح العالم لبثينة العيسى، وقريبًا مقتل الكومنداتور، الرواية الأحدث للكاتب الياباني الأشهر هاروكي موراكامي.

 

أحد إصدارات دار نشر تنمية

اعتادت تنمية أثناء اشتراكها في معرض الكتاب اتباع طرق حديثة في عرض الكتب، وذلك بتجميع مؤلفات الكتّاب الأشهر والتي قد يحرص القارئ على متابعتها، غير عالم بأي من دور النشر يقصد لمتابعة آخر مؤلفاتهم، فبينما يمكنك البحث بين أروقة دار المتوسط، ودار المدى والمركز القومي للترجمة للحصول مثلًا على مؤلفات الكاتب الأمريكي بول أوستر، توفّر زيارة تنمية الرحلة، فتجدهم جنبًا إلى جنب، يُفتيك عنهم العاملين بالمكان وعن محتواهم تتبعًا لاستفساراتك.

بالنظر لدور تنمية في إثراء الحركة الثقافية في مصر، واعتداد دور النشر العربية بها كواجهة ثقافية مشرّفة لمصر، وبكل الترحيب والدعوات المهمة التي تتلقاها تنمية للمشاركة في معارض الكتاب الدولية حول العالم، فبالتأكيد يستحق الأمر إعادة نظر من إدارة المعارض بالاحتفاء بهذا النمط الواعي من الكيانات الثقافية في مصر، والفخر بكونه يحمل الهوية المصرية ويؤصل لدورنا الثقافي في المنطقة.