صورة برخصة المشاع الإبداعي
لاعب التنس المصري ياروسلاف دروبني

ياروسلاف "المصري" وطقوس المنفى

منشور الأحد 23 فبراير 2020

هذه قصة للاعب تنس مصري تشيكوسلوفاكي، يقدمها الكاتب والمخرج خالد يوسف على ثلاثة أجزاء


"منذ مغادرة تشيكوسلوفاكيا لا توجد صداقات، زمالات فقط. كنت أنا وتشيرناك كقمرين صناعيين تائهين في السماء، يدوران في فلك لا يتغير، دون أي تواصل مع المركز. دون تواصل مع أي مشاعر حقيقية"  ياروسلاف دروبني لاعب التنس المصري، مؤقتًا، متحدثًا في سيرته الذاتية التي حملت اسم بطل في المنفى عقب بطولة ويمبلدون للتنس نسخة عام 1952 عن حياته بعد ثلاث سنوات من الهروب من موطنه الأصلي تشيكوسلوفاكيا برفقة فلاديمير تشيرناك زميله في فريق التنس التشيكي نهاية الأربعينيات.

ياروسلاف دروبني (1921- 2001) يكره الصمت، إنه يذكّره بحاله على مدار السنوات الثلاث تحديدًا، والصمت في هذه الغرفة الفيكتورية بذلك الفندق يجعل من المكان قبرًا أنيقًا. إرسال التليفزيون الذي انقطع فجأة في نفس اللحظة التي رأى فيها نفسه في المرآة، متدربًا على الكلمة التي سيلقيها عقب تسلم الدرع في اليوم التالي. الصمت وضعه وجهًا لوجه أمام هذه الحقيقة: أنه ممسك بطبق فضي من طاقم الغرفة، وأنه مجرد ابن عامل في نادي التنس بجزيرة ستنافشي القابعة في نهر فلتافا الذي يخترق قلب العاصمة التشيكية براج، الصمت يذكّره بأنه الوحيد من بين لاعبي النادي خارج دائرة رفاقه الأرستقراطيين، وأنه السلافي الوحيد المتبقي في نصف نهائي ويمبلدون إلى جانب مجموعة التنمر التقليدية من نظرائه الأمريكيين والأستراليين. 

الشيء الوحيد الذي أنقذ دروبني من الصمت هو صوت المروحة المعدنية ذهابًا وإيابًا مخففة الحرارة الاستثنائية التي حولت ذلك الشهر إلى يوليو الأكثر حرارة في لندن منذ عقود. إرسال تلفزيوني ولكن دون صوت، عطر منثور في محاولة لتخفيف رائحة العرق الناتجة عن محاولات دروبني التدرب على رقص الفالس دون نجاح كبير ، آثار الخطوات تكسو السجادة ذات الطابع الشرقي، رقصة تخيلية مع هواء، يحييها فقط شبح الفتاة التي تنير الشاشة الآن: تتأهب للعب الإرسال الكفيل بحسم النقطة والشوط والمجموعة والبطولة الخاصة بفردي  السيدات، موريين كونلي في سن الثامنة عشرة على وشك قهر مواطنتها لويز بورو أسطورة سنوات ما بعد الحرب، بطلة أمريكا المفتوحة تسع مرات حتى ذلك التاريخ، وحاملة درع ويمبلدون ثلاث مرات، آخرها عام 1950.

لويز تبدو في حالة يأس وقدر من الإحراج وهي على وشك الخروج بلقب الوصيفة فقط أمام مراهقة تصغرها بعشر سنوات. دروبني يعلم تمامًا ذلك الشعور الذي يصنعه التنس للاعبه في وقت ما من المباراة، أشبه بهروب خيط من الرمال من بين كفي يدك بعد أن كنت ممسكًا به قبل ثانية واحدة، بأن اللحظة هربت وأن الانهيار مسألة وقت حتى لو كنت متقدمًا بمجموعتين نظيفيتين.

لاعبة التنس الأمريكية مورين كونلي

صوت ذهاب وإياب المروحة لا  يمكنه إزالة صوت ذلك الانهيار بالنسبة لدروبني، أمام نفس منافس الغد الأسترالي فرانك سيدجمان. نفس الكابوس الذي داهمه أمام نفس المنافس قبل عامين في قبل نهائي ويمبلدون 1950، صوت الانهيار بالنسبة للفتى السلافي كان متمثلًا في تمزق أحد أوتار مضربه الخشبي، في منتصف المجموعة الثالثة، وتر قطع شعورًا طاغيًا بأنه لا يمكن إيقافه، خاصة بعد حسم المجموعتين الأولى والثانية لصالحه بنفس النتيجة 6- 3 .

مرت ثلاث ساعات أخرى وكان دروبني يصافح سيدجمان كخاسر بثلاث مجموعات متتالية 3- 6، و5- 7، و2- 6 ، مأساة دروبني الحقيقة أن سحقه لسيدجمان في نصف نهائي رولان جاروس في العام التالي 6- 0، و6- 3، و6- 1 لم يسهم في محو كل أصوات أوتار مضربه المقطوعة التي طاردته لشهور طويلة بعدها. 

سرير متأثر بأرق الليلة السابقة في انتظار خدمة تنظيف الغرف. بدلة خضراء في منتصف السرير في انتظار الكيّ. دبوس على صدر البدلة عليه علم أخضر فيه هلال وثلاث نجوم هو علم "بلاده الجديدة"، مصر، وطنه الثالث خلال أقل من ثماني سنوات. لون وتصميم البدلة يروقان له، و لكنها تذكره طوال الوقت بأنه صعلوك أعزب يقطن فنادق الخمس نجوم. مجرد مشرد لا يعلم أين سيكون مبيته في الليلة التالية، يقتات من ضرب الكرة ووجبات الرحلات العابرة للقارات.

في يوم هو ضيف شخصي على الملك جوستاف بعد الفوز ببطولة ستوكهولم، وفي اليوم التالي محبوس على مقعد في طائرة خاصة متهالكة تتزود بالوقود في مطار متواضع في صحراء الأردن. بعدها بأسبوع الأرق يجبره على الاستماع لأذان الفجر في كراتشي الباكستانية، في الوقوف تحت شمس حارقة اليوم التالي أمام 6 آلاف متفرج بملعب كريكيت خصص لإقامة بطولة لاهور الاستعراضية للتنس، وبعدها بليلتين يصاب بنزلة برد حادة أثناء تغيير ملابسه بنادي الجزيرة، المفضل له في قلب القاهرة.

في الشهر التالي هو جالس في حسرة على مائدة لاعبي بطولة بورنموث البريطانية، محدقًا في طبق وجبة الغداء المقرر لكل لاعب والبالغ 5467 سعرة حرارية في اليوم، والذي يتسق مع حجم "التعيين التمويني" للبريطانيين في سنوات ما بعد الحرب. بعدها بأسبوعين هو على مقعد خشبي في انتظار الانتهاء من إجراءات الجمارك والهجرة في مطار نيويورك، بعدها بساعتين يفترش مقعدًا في الصف الأخير بسينما بلازا وسط مانهاتن، غاطسًا في نوم عميق على صوت التكييف المركزي، محاولًا الحصول على أرخص قسط من الراحة قبل خوض  بطولة أمريكا المفتوحة. 

هو واحد من أكثر لاعبي ما بعد الحرب موهبةً في نظر الوسط التنسي. صعلوك، طبقًا لعنوانه البريدي. مرتزَق في عيون خصومه. خائن في ملفات وتقارير مكاتب الحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا. هارب في نظر الصحافة الأمريكية. منفي سياسيًا حسب الأوراق التي يقدمها سعيًا لقبوله لاجئًا، ولكنه ينظر إلى نفسه أنه نفس الشخص الذي قرر الهرب من جاشتاد السويسرية عندما كان مدعوًا لبطولتها المفتوحة برفقة فلاديمير تشريناك زميله في المنتخب التشيكي لكأس ديفيز في يوليو حار أيضًا من عام 1949.

أوراق منتهية الصلاحية

دروبني التشيكي، لاعب دولة بوهيميا ومورافيا، أو ياروسلاف المصري، اعتاد على طقوس النفي الحافلة بأوراق متهاكلة منتهية الصلاحية، مشاعر الإهانة الممزوجة بالنقص أثناء محاولته الحصول على الجنسية الأسترالية، أو قبول قواعد اليانصيب التي ستجعل منه مادة للحديث بين محمد بك سلطان رئيس اتحاد التنس المصري والملك فاروق في جلسة غداء بنادي السيارات، بعدها بساعات كان الصعلوك السلافي يجلس في مكتب السجلات القاهري منتظرًا تسلم جواز سفره المصري الأخضر في أسرع عملية حصول على جنسية عرفها لاعب تنس في ذلك التاريخ يوم 30 مارس 1950، التاريخ الذي اعتبره دروبني بمثابة "نهاية لفترة وجود مهينة على أوراق رسمية هزيلة، بلا وطن، جواز السفر الوحيد لي ولزميلي تشيرناك كان قدرتنا على ضرب كرة مطاطية بمضرب خشبي على نحو أفضل من معظم الناس، وبشكل به بعض الجادبية لجمهور من المتفرجين، كانت تلك الجاذبية هي بوليصة التأمين الوحيدة لنا"

طقوس النفي بالنسبة لياروسلاف المصري كانت تتضمن الاعتياد الدائم على التناقضات، أو كما سماها في سيرته الذاتية "قوانين المد والجزر التي تربط حياة لاعبي التنس بكوكب الواقع، بين المنافسة الضارية داخل المستطيلات الجيرية وبين البرودة الإنسانية خارجها. العيش مع تناقض الصداقات الحميمية بين الجنود التي تبنيها الحروب وتمتد عمرًا كاملًا، وبين جفاء أوقات السلم التي تجعل من اللاعبين مندوبي مبيعات متنقلين يجوبون العالم، يمارسون وظائفهم، يتبادلون التحيات، لكن نادرًا ما يتعلقون بشيء ما، قلة فقط منهم تنجح في عقد بعض الصداقات العابرة، وقودها الأساسي هو الشعور بالوحدة".

طقوس النفي تتضمن الشعور الدائم بالذنب، أشقاء تم هجرهم، خطيبة انتظرت في براج طائرة فارغة عائدة من سويسرا، وندوب قد لا تعرف التضميد أبدًا، وصوت عجلة الدراجة النارية الخاصة بالأب وهي تدور في الهواء، مقلوبة على رأسها بعد ارتطامها بحاجز خشبي قرب براج، طقوس النفي تشمل استقبال نبأ الوفاة في كولن الألمانية، على بعد 200 كيلومتر من موقع حادث الأب قرب براج، تشمل العجز عن عبور الحدود، تشمل قبول حقيقة وجودك في مجرة موازية لمجرة الأسرة، دون ضمان للقاء مجدد أبدًا.

أبطال هاربون ونازيون

على حائط الغرقة وطبقًا لأعراف الفندق بوضع صور أبطال ويملبدون السابقين، ها هو هنري كوشيه يقبع بابتسامته الشهيرة، ملقيًا نظراته الثابتة تجاه دروبني، والذي يدرك أنه فعليًا ينتمي لتلك الفصيلة الملعونة، سلسلة الضحايا من الأرواح المبتورة. كوشيه بطل ويمبلدون لعامي 1927 و1928، أحد الفرسان الأربعة الأشهر في التاريخ، والأسير الفرنسي لدي الألمان في غزو 1940، والمدرب المجبور لفريق شباب التنس بحكومة فيشي الفرنسية التابعة للنازي، منسق فريق العاملين قسرًا في معسكرات الألمان.

إلى جانب كوشيه تتواجد صورة الفارس الثاني جان بوروترا بقبعته الباسكية بطل ويمبلدون عامي 1924 و1926 من قدامى محاربي الحرب العالمية الأولى، ومنسق التعليم والرياضة في حكومة فيشي.

لاعب التنس الفرنسي هنري كوشيه. الصورة: تنس فيم- مفتوحة المصدر

الأسير الفرنسي المقبوض عليه من الجوستابو، السجين لاحقًا في معسكرات العمل النازية إيفون بترا بطل ويمبلدون 1946 بعد أربع سنوات فقط من إطلاق سراحه كسجين فرنسي في معسكرات النازيين.

ايجناتس تلوكتزينسك، رفيق تدريباته الذي قد يطرق باب غرفته في أي لحظة، واللاجيء البولندي الهارب من النظام الجديد في بلاده.

جيورجيو دي ستيفانو الوصيف الإيطالي لرولان جاروس 1932 حامل لقب بطولة ليبيا 1931، وعضو المقاومة الشعبية للفاشية التي تم القبض عليه بالخطأ من قبل القوات البريطانية.

الألماني كوتفريد فون كرام وصيف ويمبلدون ثلاث مرات في الثلاثينيات وأحد أبكر أبطال دروبني عندما كان طفلًا جامعًا للكرات في أندية براج، فون كرام المناهض للنازية وفتى الغلاف لدعايتها في مجالات التفوق الرياضي، السجين المستقبلي لستة أشهر في سجونها لكونه مثلي الجنس، ثم الإلحاق قسرًا بأحد كتائب الجيش الألماني مع إندلاع الحرب.

دروبني اكتشف أنه أضحى نسخة تشيكية من أقرانه الألمان الهاربين من جحيم النازي، أو مَن أطلق عليهم جيل المنفى (الإكسيليتور). البقاء كان يعني التعرض مثلًا لما عاشه لاعب ريال مدريد الإسباني المنتمي للجمهوريين بيريكو سكوبال، الذي كان عليه التحايل كسجين في سجون الفاشيين أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، لشراء نضارات شمسية تقي عينيه من العمى في ظل استخدام دائرة السجن كشافات الضوء العملاقة داخل الزنازين. 

دروبني كان عليه استعياب أهم طقوس النفي، وهو الاعتياد على العبث كروتين يومي، تمامًا مثلما يتعامل رفيق الجولات العالمية فاديسلاف سكونيكي الهارب البولندي إنه حرفيًا رمز التفاؤل غير المشروط، وهو المعدم الذي كسب مليون فرانك خلال نصف ساعة على طاولات القمار في الريفيرا الفرنسية، قبل أن يخسر ثلاث أرباعها في الخمس دقائق التالية. إنه العبث الذي لاقاه وجهًا لوجه ، عندما خسر أمام ريتشارد جونزاليز بصيف عام 1947 مباراة استعراضية في منزل نجم السينما الهوليودية إيرول فلين وفي حضور تشارلي تشابلن، ليقوم فلين بتسليم دروبني ظرفًا بداخله 500 دولار مكافأة، قبل أن يدرك التشيكي/المصري أنه كان مجرد أداة لرهان شخصي بين تشابلن وفلين، كسبه الأخير بـ 5 آلاف دولار. 

دروبني أدرك أيضًا أنه لدي مغادرته قصر فلين كان عليه التفكير في عرض قدمه الحكّام الجدد في تشيكوسلوفاكيا بقبول وظيفة ثابتة في شركة باتا للأحذية مع توفير سيارة في عرض يسيل له اللعاب، كان عليه قبول العبث بنسخته الطوباوية عندما رافق زميله اللاعب السويدي في رحلة قطعت ساحل كالفورنيا الغربي بأكمله، في بروفة مبكرة لرحلات كيرواك لاحقًا خلال الخمسينيات، مارًا بين ثنائيا البيج سور، Big Sur، إلى سان فرانسيسكو ثم العودة إلى سان دييجو للتعرف على لاعبة ناشئة في الثالثة عشرة من عمرها اسمها مورين كونلي.

الرقصة المنتظرَة مع مورين

صوت التلفاز عاد ليغزو الغرفة، مورين فازت بنقطة المباراة والبطولة أمام لويز بورو، وسيكون على دروبني التغلب على سيدجمان ليحظى بفرصة الرقصة التقليدية لبطلي فردي الرجال والسيدات لويملبدون.

يوليو 1952 مجرد رقم آخر في رزنامة الجولة العالمية السنوية. 5 يوليو يوم آخر في حياة هؤلاء الصعاليك المهرة. أمطار غزيرة بالخارج، مع احتمالات تراكم سحب وهبوب رياح شديدة يوم المباراة، أي كل الظروف التي يكرهها دروبني. يحاول قطع حبل تلك التغيرات المزعجة بالتفكير في علاقة جديدة بلاعبة زميلة قد تلوح في الأفق، تصبح مثل الصمغ الذي مازال يربط أجزاء نظارته الطبية الحافلة بالخدوش بعد عقدين كاملين من الاعتياد على اللعب بها. 

جسد مرهق ممدد إلى جانب البذلة الخضراء للوطن البديل، مصر. مع العجز عن إيقاف الأفكار المتواصلة بخصوص ذلك اليوم من عام 1949، جالسًا في مكتب وزير الرياضة التشيكوسلوفاكي الجديد، مستمعًا لعرضه السخي بالوظيفة والشقة والسيارة مقابل كتابة تقارير بخصوص رفاقه في منتخب كأس ديفز.