منى الشيمي في حوارها  مع المنصة. الصورة: نورا زين

مع منى الشيمي: من أين تأتي بهذا الشجن؟

منشور الخميس 24 سبتمبر 2020

تأخر اللقاء مما جعل الأسئلة في رأسي تشتعل وفجأة تخمد وتقع، وتظهر أسئلة أخرى. كيف أبدأ الحديث مع روائية أعرفها جيدًا على الرغم من أن هذا اللقاء سيكون الأول بيننا. أعرفها من سطورها وكتابتها وكنت أسأل نفسي هل ستكون كما أتخيلها أم لا؟ وعندما جاء الموعد وذهبنا إلى وسط المدينة ثم إلى وزارة الأوقاف، ومنها إلى شقة الروائية والقاصة منى الشيمي وزوجها الصحفي والكاتب أسامة الرحيمي، أحضن في كفي اﻷيسر الورود التي اخترتها لها بعناية، والكف الثاني أحمل فيه المحبة.

عندما فُتح الباب وجدت امرأة جنوبية تفتح ذراعيها لاستقبال الأبناء. ومن رائحتها شعرت أنني أعرفها من قبل، أعرفها جيًدا. تشبه القمرية (اليمام) لها صوت يطرِب وصدق مريح. على الحائط ثلاث لوحات من بورتريهات الفيوم، وهي لوحات واقعية لشخصيات رسمت على توابيت مومياوات مصرية في الفيوم في فترة الوجود الروماني في مصر.

جلست على كنبة طويلة وجلست هي أمامي، وبابتسامة متبادلة بدأنا الحديث بشكل بسيط وشبه تقليدي عن بدايات الكتابة ولماذا تكتب، لكني كنت أنتظر الرد منها بلهفة حتى نبدأ بعدها الحديث عن الرسائل.

تبسمت وهي تقول لي "بدأت كتابة ﻷن حالة من الاغتراب امتلكتني، في البداية عن عائلتي ثم عن المجتمع، وأذكر أول مرة جلست للكتابة كانت مثل جلسة السجود فأظن أنني سجدت للكتابة. وكتبت لون هارب من قوس قزح، وبشكل أو  بآخر القصة لا تشبهني، ومن ثم أعجبت بفكرة الخلق في حد ذاتها فاغتويت ودخلت الكتابة من قبل أن أعرف تقنياتها، وكانت محاولة للتجريب وقبلها كنت أهلك نفسي في أشغال يدوية كالتريكو والرسم على السيراميك. كنت أشعر بطاقة ضخمة لم يستوعبها المجتمع ولا حتى نفسي، فكنت قلقة وخرج هذا على صورة كتابة، وهي أكثر ما أراحني في النهاية. كنت أجرب الكتابة، وعندما دخلت المجال وخلقت أشخاصًا وجعلتها تسعى فملأت حياتي وفضاءاتي؛ اغتويت بعدها بالكتابة".

تأثير كورونا

لعل هذا القلق هو ما جعلها تلجأ في عصر كورونا إلى أن تكتب الرسائل لزوجها الذي فصلته عنها المسافة الجبرية للأزمة أكثر من شهر، فبدأت فكرة الرسائل عندما كانت في الغردقة لتخليص أوراقها وزوجها الكاتب أسامة الرحيمي  هنا في القاهرة، ثم ارتبكت الأحداث بسبب كورونا، فكانت تفتقده بشدة، كما ذكرت هي "كنت أريده أن يأتي إليّ دون أن أطلب منه ترك عمله. كنت أريده دون أن أقول له: تعال".

وعندما استمرت بالحكي قالت إنها عادة لديها "فعندما يكون في جريدة الأهرام وأشتاق له،أتصل به وأقول له إن الغذاء جاهز مثلًا،  فقلت له في الهاتف "أسامة أنا كتبت لك رسالة" فطلب مني إرسالها له لكنني رفضت، ومن ثم اقترح عليّ نشرها على فيسبوك، لكنني أرى أن فيسبوك غير مناسب للبوح الشديد مثل الورق لأننا سنكون معرضين حينها لبعض التعليقات السخيفة ويظهر المُكفّرين والمُكفّرات".

 

غلاف الكتاب

نشرت منى الرسالة الأولى على فيسبوك في الغردقة 22 مارس/ أذار 2020، وأثناء تجهيز الرسالة الثانية للنشر وجدته يهاتفها ليقول لها إنه في طريقه إليها. وكتبت أربع رسائل وهو معها في الغردقة وبعدها توقفت لسبب ما وأكملت "عندما سألني أسامة شرحت له الأسباب ولكنه رفضها، وحاول إقناعي بالاستمرار في الكتابة لكنني لم أكتب، فكتب هو رسالة لي وبعدها الرسالة الثانية ليطلب مني العودة لكتابة الرسائل مرة أخرى، وبعدها عدت للكتابة ولكنني بالمناسبة فعلت شيئًا ما، حذفت الأجزاء الحميمية من الرسائل وجعلتها تصلح للعامة وللنشر على فيسبوك، واحتفظت بالرسائل كاملة معي وكنت أرسلها لأسامة وهي التي تجدينها في الكتاب الورقي رغم أنني لم أفكر في نشرها إلا بعد الرسالة العاشرة، بعدما تواصلت معنا أكثر من دار".

سطح البوتاجاز

توقفت عن الحديث وأصرت أن تقدم شيئًا لنشربه، وشربت أنا الشاي بينما جاءت بمج النسكافية الذي يشبهها تمامًا، به كسر بسيط من الحرف لكنه أنيق وبسيط، ضحكت عندما لمحت مشاهدتي له، وقامت بتجهيز السيجارة وقالت "نكمل". وعدنا إلى الرسائل مرة أخرى وقلت لها "ذكرتِ أعمال المنزل كثيرًا في رسائلك وكأنها حملًا ثقيلًا تريدين التخلص منه، ورسالة مهمة تحاولين بثها من خلال حديثك البسيط عن المواعين والغبار والردة التي تملأ سطح البوتجاز أحيانًا".

حينها تبدلت ملامحها، وهي تتحدث عن تلك النقطة وبدا الأمر مهمًا بشكل حقيقي بالنسبة لها وقالت "تلك هي قضيتي التي من الممكن أن أترك الكتابة من أجلها، في البداية لم يكن لدي مشكلة مع اﻷعمال المنزلية، وبعدها اكتشفت أنها كارثة حقيقية في حياة المرأة لأنها بتخلص عليها بشكل مبكر، لأن المرأة الطبيعة وحدها جعلتها مسؤولة عن شيء صعب جدًا وهو الولادة التي تأخذ من صحة الجسد وتسحب منه كل الكالسيوم والفيتامين ومن العمر نفسه، وشغل البيت لا يمكن اعتباره رياضة، لأن الرياضة لها قواعد لكنه يهد المرأة ويأخذ من صحتها".

وأكملت حديثها بتساؤل عمن "أصدر الحكم في أن شغل البيت مسؤولية تقع على الست فقط"؟ و"من المسؤول عن هذا الموروث الذي بدأنا نشعر من خلاله أن نظافة البيت أو عدم نظافته مسؤوليتها وحدها؟" وهو ما يجعلها تحذّر ابنتها صاحبة الـ 29 سنة من الوقوع في هذا الفخ.

"هل يعقل أن المرأة تعمل ومن ثم تعود لنظافة البيت ولتجهيز الطعام، وتكون زوجة وعشيقة؟ فهذه كارثة. أريد أن يربى الجيل الجديد من الفتيات على أساس أن اﻷعمال المنزلية ليست جزءًا من جينات المرأة، ولا من بين مسؤولياتها أن يعود زوجها من العمل ليجد البيت نظيفًا ومرتبًا والطعام ساخن. بل علينا تربيتهن على فكرة أنهن مستقلات، لم يأتين إلى هذه الدنيا لكي يخدمن أحدًا، وإنما ليشاركن. الجيل ثلاثين سنة؛ لذلك نحتاج ثلاثين سنة نربي فيها الفتيات بهذه الطريقة، وهذا ما كنت أركز عليه في الرسائل وأريد أن أجعله مشروعي الحقيقي".

وذكرت الشيمي أن الفتاة في الصعيد مثلًا من الممكن أن تخدم في بيت أبيها وبيت وأهل زوجها، وهذا بالطبع بالإضافة إلى مسؤولية بيتها، وفي الأرياف بشكل عام وليس في الصعيد فقط، كما أنها ذكرت أن الرجل مقهور في مجتمعنا بلا شك خاصة في وضع مصر الحالي لكن لا بد من النظر للمرأة بشكل أكثر أهمية في تلك النقطة.

 

إحدى صور شادي غاديريان. من صفحتها على فيسوك

كما أنها معجبة كثيرًا بالفنانة والمصورة اﻹيرانية شادي غاديريان، التي صورت المرأة برأسها مكواة أو مكنسة، وكتبت عنها منى الشيمي مقالًا في جريدة العربي في 2014 تحت عنوان رأسي مكنسة واشتكت فيه من إرهاق عمل المنزل ولجئت لمشروع غاديريان في الفن التشكيلي للتعبير عن غضبها.

في الرسائل ذكرت رواية وطن الجيب الخلفي، مقتبسة منها حكاية عمة البطلة حياة، التي حبسها زوجها لأنها كانت تفضحه بالحكي عن شجاره وفشله، وعندما عاد إلى البيت سمعها تضحك وتغني، وعندما فتح الباب وجدها صنعت تمثالًا من الطين والماء الذي تركه لها واستمرت في الحديث والشكوى إليه فضربه بقدمه، فتناثر منه الدود، وقالت له إن هذا الدود كان سيكون فيها لو لم تجد من تتحدث معه.

في الحكي خلاص

من هنا بدأنا نتحدث عن الحكي وتأثيره، فباحت منى الشيمي بأن الحكي أنقذها في رواية بحجم حبة عنب، لأنها لم تكن سيرة ذاتية عن أسرتها فحسب، بل كانت للتخلص من آلامها في تجربة علاج ابنها زياد، رحمه الله، فقالت "كنت أكتب يومياتي طول فترة العلاج، التي استمرت 20 شهرًا رغم تأكيد اﻷطباء أن أصحاب هذا النوع من الورم مستحيل أن يعيشوا أكثر من ستة أشهر، فنحن كسرنا هذا الحاجز. لأن زياد كان يحب الحياة".

ثم أكملت حديثها بعد أخذ نفس عميق يجعل قلبك يتألم، وقالت "كنت أكتب اليوميات لا لأي شيء سوى أنني كنت أسجلها، وبعدها بدأت في كتابة الرواية وانشغلت فيها بالكتابة عن الحزن نفسه، لم أنكر أني أدخل في نوبات اكتئاب حادة لكني أظن أنها كانت ستكون أكثر بكثير لو لم أكتب بحجم حبة عنب، فنعم لم ينقذني شيء بقدر الكتابة.

في الرسائل ثمة شكر لزوجها أكثر من مرة بأنه أتاح لها الحرية "شكرت أسامة لأنه وهبني الحرية في الواقع،  الرسائل لم يكن بها حرية أكثر من الرواية بل من الممكن أن تكون أقل، لكنني أشكره دائمًا ﻷنه أول رجل في حياتي ذات الخمسين سنة، يهبني الحرية كاملة، ويتركها لي وحدي، أختار من الحياة ما يناسبني". وضحكت وهي تقول "باستثناء اختيار اللبس".

 

منى الشيمي. الصورة: نورا زين

وواصلت الحديث "تركني أحدد كل شيء، كالأصدقاء والتعامل معهم، و إبداء اﻵراء وطريقة التعامل، حتى معه، وهذا هو منتهى الليبرالية والاتساق، وأنا في ظني أن الشخص المثقف والكاتب لا بد أن يكون صادقًا مع نفسه، وهذا ما وجدته في أسامة، فهو متسق تمامًا مع نفسه، فما يكتبه ويقوله هو نفسه ما يفعله، وأنا لم يكن عندي الثقة الكاملة أنني سأرى شخصًا بهذه الصفات".

عندما عاودنا الحديث عن الحرية قالت "هو أن تختاري ما يناسبك، والذي لا يؤذي الآخرين بالطبع، وأن تكوني من يختار ويتحمل مسؤولية ذلك. للحرية معنى إيجابي عظيم جدًا وهو أن تفعلي الشيء الصحيح الذي تقتنعين به، كفكرة الحجاب مثلًا بالنسبة لي، فأنا حرة في اجتهادي واعتقادي بها، فعقابي عند الله وهذا اختياري وسوف أحاسب عليه يوم القيامة"، ومن ثم أكملت بأن النضج في معنى الحرية بالنسبة لها جعلها تترك أولادها يتخذون قرارتهم بمفردهم، وسواء كانت صحيحة أو خاطئة فهم يتحملونها، ففكرة الحرية مملوؤة بالسلام لمن يفهمها.

 محبتها للتاريخ كانت مؤثرة في كتابتها حتى في الرسائل، وعندما بدأنا في سيرة التاريخ وقصصه ومن يقع في غرامه، وهي من أكثر العاشقين له، قالت "لدي ثلاث روايات في سياق تاريخي، وليست روايات تاريخية، ما عدا الكفة الراجحة التي كانت تتحدث عن حتشبسوت، فالدراسة أثرت على الرؤية".

ووضحت لنا أنها لجأت في الرسائل للحديث عن التاريخ، لأنها كانت في نفس الوقت تجمع المادة الخاصة بالرواية الجديدة عن البرنس يوسف كمال، وبالصدفة القصر الخاص به يقع بجانب منزلها في نجع حمادي، ولعل هذا ما جعلها تتساءل من هو الشخص الذي بنى هذا الصرح الرهيب في وقت كل المباني فيه مختلفة تمامًا، ولماذا هو مهمل لهذه الدرجة؟ فكانت تتبع الخيوط في الرسائل حتى اكتشفت أنه هو الذي بنى نجع حمادي بالكامل. فآثرها ذلك أكثر.

من أين تأتي بهذا الشجن يا منى؟

سألتها؛ هل تحني إلى النجع؟ أسندت ظهرها إلى الوراء ومن ثم نظرت لي قائلة في حماس وحنو "أنا مولودة في نجع حمادي، فأنا من طينته، بداخلي جزء لا يتجزأ من الجينات اسمه نجع حمادي، هو الذي خلق عادات داخلي حتى لو كنت أرفضها، فهو جزء مهم لدي ودائمًا ما أحن له مهما كان لدي تحفظات عنه، وعندما أعود أشعر بشجن غير عادي. حتى المفردات وهي شيء خاص جدًا بالإنسان والقاموس الشخصي لدي هو قاموس نجع حمادي، فأنا من قرية الرئيسية، التي ولد فيها فهمي عمر".

وتتابع؛ "عندما أُسئل من أين تأتي بهذا الشجن يا منى؟ فأقول هو شجن أرض نجع حمادي، وأذكر مشهدًا من رواية لإيزابيل الليندي، أخذت فيه جزءًا من تربة اﻷرض التي ولدت فيها، وفي كل مكان تذهب إليه تزرع نبتة في تراب هذه الأرض". ثم قالت "أنا أحمل تلك التربة داخلي وتطرح دائًما وهي تربة نجع حمادي.


اقرأ أيضًا: الرحلة التي تبدأ من المقابر "في أثر عنايات الزيات"

 

رحلة عائلة عنايات الزيات إلي القناطر الخيرية. الصورة بإذن من إيمان مرسال

دار بنا الحديث عن كتابة الرسائل، وهل كانت تلك هي المرة الأولى لها، فابتسمت منى الشيمي وهي تقول "كانت أول الرسائل لأسامة، لكن في الماضي كنت أكتب رسائل بسيطة للأحباب، وأخرى كنت أعاتب فيها الله، وعادة ما كنت أشعر أنني شخصين فكنت أكتب لنفسي رسالة؛ المتمردة تكتب للمقموعة، والمقموعة تكتب للمتمردة، وكنت أسميها يوميات، ودائمًا مايكون عندي أجندة، وتلك عادة مقدسة بالنسبة لي، لكنني لم أفكر في نشرها أبدًا على الرغم من أن معظمها خرج في كتاباتي للروايات بشكل أو بآخر".

أما عن المشاريع المفتوحة فهي كثيرة كما ذكرت، لكنها تحدثت عن مسألة أنها ستكون جدّة،  وكيف جعلتها تلك الفكرة مشوشة بشكل كبير  "أفكر في مجيء ليلى (حفيدتها المنتظرة)، ووجودها في حياتنا، وأظن أنها وحدها أعظم مشروع رواية في حياتي وأهمها، ولكني لدي رواية غير محررة وأتمنى أن أجد الوقت لتحريرها. سيكون اسمها البدل الزرقاء، وأعمل أيضًا على رواية قيامة الطيوف الخاصة باﻷمير يوسف كمال، كما ذكرت من قبل".

وهكذا انتهى الحديث ولم ينته الوصال. أخذت نفسًا عميق وهي تبتسم ونستعد أخيرًا للتصوير، وبعدها تركنا خلفنا منزلهما البسيط المريح لكني أشعر بالتربة التي تحدثت عنها منى الشيمي، وكأنها تركت داخلي طرحًا ما. ربما نبتة محبة تصلني بها وتجعلني أبتسم وأنا أكتب عنها، وأريد دائمًا للأشياء أن تكون بخفتها وجمالها، وأن يجمعنا لقاء آخر يبدأ بصباح الخير يا منى.