تصميم: يوسف أيمن- المنصة

سامر الفن والسلطنة: في أثر الكف وإيقاعه

منشور السبت 2 يناير 2021

لا يبدو أن الأمور سارت على ما يرام، ما بين رشاد عبد العال، ملك الفن، كما يحلو للمستمعين تلقيبه، وزميله أب درويش، في تلك الليلة البعيدة من ليال الحنة بقرية بنبان في أسوان.

انتزع رشاد الميكرفون من أب درويش اعتراضًا على خروجه عن "الدور"، كان يجب على الأخير إذا أراد الاستمرار في أدائه أن يلتزم بارتجال "خانة" عن القضية الفلسطينية ليجاري ما ألقاه الكفاف من أبيات شعرية قبل البدء في رقصته، وهو ما لم يفعله أب درويش الذي تمسك بإلقاء خانة بعيدة عن الغرض، لكن كل شيء انتهى، أو عاد إلى سياقه، وسط هتاف المستمعين واستحسانهم، بعد أن زجره ملك الفن بحسم "يا فنان في خانة نازلة في السامر تقول عليها.. عاجز مش قادر تقول أنا كفيلها".

في تلك الليالي البعيدة، كان ثمة تقليد يجري، ولا يزال قادرًا على الحياة حتى اليوم؛ أن يخرج شاب وسط ستة من أقرانه أو يزيد، فيصطفّوا بالعرض، ثم يلقي من الشعر خانة في موضوع بعينه تتراوح من ثلاثة إلى ثمانية أشطر مقفاة، يكون على المغني أن يرتجل ليكمل، على وزنها وفي موضوعها، أغنية تستمر طوال الرقصة التي يتحكم في حركتها قائدها الشاب صاحب الخانة الأولى، وكأن ثمة مباراة جمالية تجري بالتوازي، بين مغنٍّ يستعرض قدرته على ارتجال الشعر وتلحينه، وراقص ماهر يستطيع ضبط فريقه إلى آخر الرقصة، ليكوّنوا مجتمعين ما يعرف بـ"ليلة الكف"، التي شهدت إحداها إبداع واحدة من أشهر أغاني الصعيد على الإطلاق: نعناع الجنينة، التي أعاد الفنان محمد منير وغيره من المغنين تأديتها لاحقًا.

عن الفن

الكف من الفنون الشعبية القولية المشهورة في صعيد مصر، التي تحتل مساحة واسعة من جلسات السمر والمناسبات العامة مثل الأعراس وليالي الحنة وغيرهما، ويقوم في أغلبه على ارتجالٍ أشبه بتحدٍّ فني، بين شباب أو رجال القرى المختلفة الذين تتسع لاستضافتهم مثل تلك الجلسات من جهة، وفنان الكف الذي حضر لإحيائها من جهة ثانية، وهو التحدي الذي غالبا ما يبدأ بعد تقدم أحد الشباب لإلقاء أبيات شعرية ألفها تسمى خانة، أمام المغني الذي يجلس على المسرح بصحبة العود والإيقاع والناي في بعض الأحيان، ويكون عليه أن يستكمل أغنيته وفقًا لموضوع تلك الأبيات وبحرها الشعري، طوال ليلة عرفت بين الناس باسم "ليلة الكف" نسبة إلى الرقصة التي يؤديها هؤلاء الشباب على إيقاع كفوفهم.

أما ساحة الرقص، فتكون غالبًا بين رجال يفترشون الحصير أو يجلسون على دكك خشبية، فيما يقف الراقصون (تتقدمهم النساء في حال لم تقتصر الليلة على الذكور فقط) في مجموعة من ستة أشخاص على الأقل، بينهم الكفاف الذي يبدو في هذه اللحظة بمثابة المايسترو المتحكم في إيقاع الرقصة؛ يميل فيميل معه أقرانه أو يجلس فيجلسون، وهكذا تنتقل موسيقاهم إلى الفنان/ المغني على المسرح الذي يحفظ ما كرروه من أبيات ذات أوزان شعرية محددة ليكمل "الدور" بناءً عليها، إلى أن تنتهي الرقصة، فيصيح مناد في الميكرفون على صاحب الدور التالي في الرقص من القرى الأخرى، كأن يقول مثلا "دور قرية الجعافرة"، فيدخل شبابها بأبيات شعر جديدة في موضوع ولحن مختلفين.

وغالبًا ما يشتبك ما يؤلفه هؤلاء الشباب أو ما يرتجل عليه الفنان لاحقًا مع موضوعات حيوية تشغل الشارع، مثل القضية الفلسطينية في حالة رشاد وأب درويش سالفة الذكر، أو أحداث مسلسل ذئاب الجبل الذي شغل المجتمع المصري وقت عرضه، ومن ذلك ما نجده في قول ملك الفن "يا سلام سلم.. يا سلام سلم/ علوان في الغدر بقى معلم/ قتل مهجة وخنق ياسين وخلى البدري يتألم/ الشرف لما يجيب العار يبقى أقوى من كي النار/شوفوا خلى الشيخ بدار مات من غير ما يتكلم"، أو ما استجد مؤخرًا من انتشار لجائحة كورونا في قول الفنان ياسر رشاد "من ضمن الدول ناس في المرض ذكرونا/ وبقينا القدوة في صبرنا شكرونا/ واللي زاد وغطا فيرس الكورونا".

ويقول فنان الكف المعاصر، ياسر رشاد، للمنصة إن الكف "فن من واقع المجتمع والحياة اليومية الخاصة بنا جميعًا، الذي يترجمه أهل الفن لخانات ومن الخانات للمذاهب، وتكون المذاهب مقفاة، والكفاف هو من يقول المذهب أو الخانة للفنان، فيرتجل الأخير عليها في التو واللحظة، لأن فن الكف هو فن اللحظة والحال، ولا يبدأ الفنان نفسه بقول المذهب بل ينتظر الكفاف حتى يصرح به".

والخانة هي مقطع من الشعر يتكون من أربعة أبيات أو خمسة أو أكثر، يبني فنان الكف عليها أغنيته/ دوره وفق الوزن والقافية نفسيهما في صور منها؛ المتلوت (تتكون خانته من ثلاثة أشطر) ومنه الموال الشهير للريس حفني عن شفيقة ومتولي، المربوع (أربعة أشطر)، والمسبوع (سبعة أشطر)، والمتمون (ثمانية أشطر)، بالإضافة إلى الجنزير، وهو عبارة عن سلسلة من الأبيات الطويلة مضفرة في تناغم، تؤدى في إيقاع متسارع، وغالبًا ما تستخدم في الأعراس عند دخول العريس والعروس إلى مكان الفرح، وأبرز من اشتهر باستخدام ذلك النوع الفنان أب درويش.

 

Beedo_beedo · موال شفيقة ومتولى كامل - الريس حفنى حسن

 

ما بين الكف وغيره من فنون القول

ويوحي الأداء الشعري في تلك الليالي بتشابه فن الكف مع فنون القول الصعيدية الأخرى مثل النميم، لكن الأخير يختلف عن الكف في تخليه عن الموسيقى في أداءه، في صورة تشبه الإلقاء الاعتيادي للشعر وإن زاد عليها أنه يؤدى ملحنا، لكن ذلك لا يعني استغناء الكف عن النميم في بنائه، حيث يشير ياسر رشاد إلى أن "فن الكف يستخدم النميم ويستفيد منه، لكن النميم أقدم من الكف وأصعب، ويختلف اختلافًا كليًا عنه من حيث البناء".


اقرأ أيضًا: "يا لولي طيب": مع قوالة النميم في مدينة المحبة


ويوضح للمنصة أن "النميم عادة ما يكون أربعة أبيات محكمة طويلة الجمل، قد يتضمن البيت الواحد ست كلمات، في حين أن الكف شطره أقصر، ويؤدى بصحبة العود".

ومن أشهر أبيات النميم ما يقول الليثي أحد أبرز فنانيه "الخالقك ولا خالق بنات كيفيكي (أي كيفك/مثلك)/بعد ما خلقك بكل شيء موافيكي/كاملة مكملة وإيه اللي ناقص فيكي/ ربك يسعدك ويزيدك على الكيفكي (أي أمثالك)".

كذلك يختلف الكف عن الواو، في اعتبار الأخير قصد شعري خالص، تعتمد طريقة القول فيه على التداخل الصوتي من حيث التقطيع والاتصال الذي يحافظ على القوافي المنطوقة لا المكتوبة، مثل ما نجده في قصائد السيرة الهلالية، ومنه قول الشاعر "أبو زيد ياللي أنت هلالي/ أمك خضرة الحجازية/ أركب المهرة وتعالالي/ الليلة ليلة الهلالية"، وقد يصاحب إلقاءه آلة الربابة، على عكس فن الكف الذي تكون آلته الأساسية هي العود.

أساطين الفن

يشتهر الكف في محافظات أسوان والأقصر وقنا على الترتيب، وهي المناطق التي ازدهر فيها على أيدي الرواد من أبنائها، الذين اندثر أغلب تراثهم، من أمثال زيدان أبو غالي ومحمد بيليك وصادق ومدني أبو زرار، بحسب ياسر رشاد.

 

لكن الجيل الأحدث على هؤلاء الرواد، كان إنتاجهم أوفر حظًا، حيث حفظته الجهود الفردية من الضياع عبر تسجيله على الكاسيت والفيديو، كما ساعده ذيوع صيت أصحابه في الانتشار، حتى كثر تداوله للحد الذي دفع فنانين آخرين لإعادة إنتاجه باعتباره من التراث النوبي، دون نسبه إلى مبدعه الأصلي، ولعل أشهر تلك الحوادث ما جرى مع نعناع الجنينة للفنان سيد ركابي، التي أعاد محمد منير وغيره غنائها باعتبارها من التراث النوبي، ما دفع الفنان رشاد عبد العال للتعليق على ذلك عبر واحد من أدواره "نعناع الجنينة المسقي في حيضانه/ شجر الموز طرح ضلل على عيدانه/ نعناع الجنينة منيتي ومطلوبي/ أحيانًا أشربه أحيانًا أزين توبي/ غناها منير متألفة ومكتوبي/ وغلط لما قال دي من التراث النوبي".

ملك الفن

ومن أكثر الذين يتردد اسمهم بين فناني الجيل الثاني من فناني الكف، رشاد عبد العال، المولود في قرية الرغامة التابعة لمركز كوم أمبو بمحافظة أسوان، الذي منحته الجماهير لقب "ملك الفن"، وكانت وفاته في عام 2008 بمثابة فاجعة، حيث لقي حتفه في حادث سير هو وعازف العود الخاص بفرقته أثناء توجههما لإحياء إحدى الليالي.

كان رشاد، يشبه العرب القدامي، في خصال كثيرة منها الفصاحة والثقة الزائدة بالنفس، حين يجلس على المسرح ممسكا سيجارته، ينقلها والميكروفون بين يديه، بينما يغني شعره المرتجل، الذي يحرص دائمًا أن يلتزم بموضوع الكفاف، كما يتضح من حادثته السالفة مع أب درويش "أنا راجل بتاع كف، ماقولش اللي على كيفي، أنا بيحكمني موضوع".

وقد حاز رشاد على شهرة واسعة تجاوزت حدود الوطن إلى أوروبا، وكان أكثر ما يفضله الناس في شعره التزامه بما يدور في الشارع من قضايا، تتضح فيما ذكرناه سلفًا من أدواره.

وز الفن

ولا ينبغي التحدث عن رشاد، دون ذكر أب درويش، الذين اشتركا معًا في إحياء ليال كثيرة، وخاضًا الكثير من المباريات الفنية إن صحت تسميتها.

كان أب درويش، الأسمر ضئيل الحجم، والمولود في مركز دراو التابع لمحافظة أسوان، مشهورًا بعاطفته واندفاعه وذكاءه الشعري اللافت، وهي خصال أثرت في مستمعيه الذين لقبوه بـ"وز الفن"، وحرصوا دائمًا في تعبيرهم عن استحسانهم لأداءه بالهتاف "يسلم أب درويش.. يسلم".

وانعكس صدق أب درويش، الذي لم تكن تفارق السيجارة يده، في عادته الغناء جالسًا على الأرض ومنسجمًا في حالة من الوجد، ومن أبرز أغنايته، ما كتبها له الشاعر الأسواني نجم الدين موسى وفق أسلوب الجنذير، وتقول "حلوة عن أحلى فواكه/ زينة عن فل وياسمين/ باش خولي مين اللي سقاكي/ عصير فراولة من البساتين/ رمان ده إيه مانجا وقشطة/ أو برتقان أو يوسفي أو تين/ طلعتك تضوي الدنيا/ بنور يخلي الناس عاشقين/ ياللي القمر بيغير منك/ لما يشوف جمال الخدين/ اللولي من داخل فمك/ ع اللستين بنظام سالمين/ الشعر ناعم متدلي/ حرير طبيعي فوق الكتفين/ تلعب معاه النسمة وتجري/ تقول صلاة النبي ع الزين".

صاحب الجنينة الأصلي

أما سيد ركابي، الذي عانى كثيرًا من انتحال أغانيه دون نسبتها إليه، فينتمي إلى قرية الجعافرة التابعة لمركز دراو في محافظة أسوان، وقد اشتهر صيته على نطاق الجمهورية وتجاوزها أيضًا إلى أوروبا، التي قدم فيها حفلات متعددة.

وليست نعناع الجنينة أغنيته الوحيدة التي أعيد إنتاجها مرة أخرى، فله كذلك أغنية بتناديني تاني ليه التي أداها كثير من المطربين ومن أبرزهم دنيا مسعود، واستخدمت أيضًا ضمن السياق الدرامي لفيلم لف ودوران من بطولة أحد حلمي ودنيا سمير غانم، والتي يقول في بعض منها "احنا أخلص حبيبن كنا/ والناس بإخلاصنا بتتغنى/ شوهتي كل صورة حلوة بنا/ والحب كله ضيعتيه/ روحي للي حبتيه/ أنسى غدرك والقسية/ ولا اللي فضلتيه عليا/ وقدام عيني بتلاغيه/ روحي للي حبتيه".

أبناء الجيل الحالي

وفي ترجمة للمثل المصري الشهير "ابن الوز عوام"، يواصل ابن "وز الفن" أب درويش مسيرة أبيه الفنية، وإن كان من خلال فقرات بسيطة يقدمها سريعًا في بعض الحفلات، لا تقارن بالمشوار الفني الذي بدأه زميله ياسر رشاد، نجل رشاد عبد العال، في عام 1993.

برز اسم رشاد مؤخرًا على السوشيال ميديا بعد أن تحول إلى تريند، بإعادته تقديم أغنية خطوة للمطرب مصطفى حجاج، لكن لرشاد الذي اعتاد والده أن يرسله لإحياء الليالي بدلا منه في وقت مبكر من حياته، أغان أخرى شهيرة مثل كله عايز يتغرب، التي يتحدث فيها عن رغبة أبناء الجنوب في الهجرة، ومن أبرز أغنياته كذلك لما هب النسيم، التي يقول فيها "عدد كل القلوب ما تريد/ وحكاوي الريد قديم وجديد/ وعدد ما اتغنوا بالريدة / وعدد ما شعرا نظموا قصيد/ وعدد ما بلسان اتقال/ عدد ما كان كتابة إيد/ عدد ما هدنت أشواق/ وأشواق تشتعل وتقيد/ عدد ما زادت الأعداد/ وريدك في حسابه يزيد/ وغايتي في الحدود حدت/ بريدك إنتِ بالتحديد/ بريدك إنتِ يا عمري/ بريدك يا صباح العيد/ بشوفك بسمة للأيام/ وبيكي أنا شوفت حالي سعيد".

قد يحتاج الكلام عن فن الكف ورواده حديثًا أكثر طولًا مما سبق، تمامًا مثل ليلته التي تطول حتى تدرك الصباح، من دون أن يمل الناس أو ينفضوا عن الساحة، فيما يتوافد عليهم أهل العرس أو الليلة بالشاي والقرقوش، لأن وقت الإفطار قد حان، دون أن تكف ريشة العواد عن العزف أو يكف الفنان عن ارتجال أشعاره، أو يتوقف الراقصون عن هز أجسادهم وإثارة الغبار من تحت أقدامهم؛ غبار أرض الجنوب القادرة ما تزال على طرح الخضار والفن والمعنى.