صورة برخصة المشاع الإبداعي.




من المعاناة إلى السلام الداخلي: كيف رأيت نفسي؟

منشور الأحد 2 يناير 2022

 

لستُ سعيدةً ولستُ حزينة، الأمرُ فقط أنني أشعرُ الآن أنني أقف مترنحةً على شفير بئرٍ وقدماي آيلتان للسقوط، وأعلم جيدًا ما يحدث عندما يتملكُني ذلك الشعورُ؛ تسقط روحي بداخله، أصبح خرقةً في يدِ المعاناة، انفصل كليًّا عن العالم المحيط بي، وأشعرُ بالهزيمة مائة مرة في اللحظة نفسِها، وفي النهاية أشعر أنني والمعاناة جئنا من الرحم نفسِه، ثم فجأة اندمج مع العالم من جديد وأتعامل كأنَّ شيئًا لم يحدث.

عشتُ ذلك الشعورَ مرارًا وتكرارًا حتى أصبح جزءًا رئيسًا من شخصيتي، ولكنني حقا مللتُ، ومؤخرًا هناك سؤالٌ واحد يراودني:  لماذا يعتريني هذا الشعورُ؟ بعد برهة طويلة، توصلتُ إلى الإجابة وهي أنني أعاني، توقفتُ قليلًا عند تلك الإجابة وحاولت أن أعرف مِمّا أعاني؟ حقًا لم أجد إجابةً صريحة لذا سألت نفسي سؤالًا آخر:  كيف يمكنني مواجهة المعاناة؟ حينها سألتُ جوجل فوجدتني أتشتت بداخل طرق كثيرة دون أن أصلَ لغايتي، فتوقفت.

في صباحِ اليوم التالي ظهر ذلك الاقتباسُ أمامي من منشور أحد الأصدقاء؛ وحدها معرفة النفس يمكن أن تؤديَ إلى السلام الداخلي، من كتاب فلسفةِ الزن لجان لوك تولا وترجمة ثُريا إقبال. توقفتُ كثيرًا أمام ذلك الاقتباس، ولأول مرة أشعر أن عقليَ هادئٌ، بل إن كلَّ شيءٍ بداخلي هادئ، وهناك صوتٌ فقط يخبرني بشكل متكرر "إذا استطعتِ معرفةَ نفسكِ جيدًا ستعرفين سببَ معاناتكِ، وبالتالي تواجهينها وتتخلصين منها"، فقررتُ التعرفَ على نفسي.

بالنسبة لي، الكتابةُ هي السبيل الوحيد للتعرف على نفسي ومعرفةِ ما تشعرُ به؛ لذلك قررتُ تدوينَ كل ما أشعر به، كتابة تشبه اليومياتِ مع البدء في قراءة الكتاب.

1: إلى نفسي

لا أعلم ما يحدث معكِ، لكنني أشعر أنه يوجد منكِ اثنتان ولستِ واحدة، أراكِ هناك على هذا الشاطئ البعيد منقسمةً إلى نصفين، النصفُ الأول: سعيدٌ للغاية، جميل حقًا، مبتهجٌ دومًا، ترتسم عليه علاماتُ السلام والرضا، ويشعر أنه يملك الكونَ بين ثنايا روحه. أما النصفُ الآخر: فهو عابسٌ على الدوام، ولا يشعر بالحزنِ بل بالكرب، ولا يشعر بالندم بل بجَلدِ الذات، والاكتئابُ رفيقُه الدائم، كما أنه واثقٌ تمامَ الثقة أنه لا يوجد لهذا العالم معنى.أنا بينهم أقفُ حائرةً ولا أعرف أيُّهما أنتِ؟ أنتِ النصفُ الأول بكل ابتهاجه؟ أم الآخر بكل عَبوسه؟ وهل تعرفين أنكِ في تلك الحالة تؤذينَني كثيرًا أم لا؟ أنتِ هكذا كمَن شنَّ الحربَ وبدأ الصراعَ على جانبِ الشاطئ وأنا بينكم أُسحق في المنتصف بين السعادة والكآبة في آنٍ واحد، وبين الفرحِ والكرب في اللحظة نفسِها حتى بِتُّ لا أعرف ما الذي أشعر به الآن؟

2: عن روحي

يوجد هناك شعورٌ دائم قابع بداخل روحي، أنا أحب هذا الشعورَ، أشعر معه أنني ولأول مرةٍ على قيد الحياة، وأنني حقيقة، وفيه، أجدني واقفةً على سطح إحدى البنايات العالية نازعةً عنى حجابي، ملقيةً جسدي من أعلاها ومِن ثَمَّ تتحرر روحي من جسدي قبل الارتطام بالأرض وتلوح ليّ وأنا هناك بالأعلى؛ فأرى سعادةً حقيقة تغمرها بالكامل، وأعتقدُ أنها بعد ذلك ستبحث عن جسدٍ أكثر هناءً وتستقر بداخله، هي تستحق ذلك.

 

 الصورة من موقع archive.org برخصة المشاع الأبداعي. 

أمس بدأت قراءة كتاب فلسفة الزن ولاحظتُ أنني أعيد قراءة الفقرة الواحدة أكثر من مرة حتى أستوعبَ ما الذي أمامي، ولا أعرف سببَ ذلك. أيرجعُ إلى أن الكتابَ أكاديميٌّ أكثر منه عمليًّا، فهو يتحدث عن نشأة الزن أكثر من تقديم حلولٍ للوصول للسلام الداخلي، أم أن عقلي فقد قدرتَه على التركيز والفَهم؟ لذا حاولت التركيزَ أكثر مِن مرة وتوصلت بصعوبة للتالي.

زن: تعني التأملَ والتبصر، وهي طائفةٌ من الماهايانا البوذية اليابانية ولقد استندتْ في أصلها إلى عبارة بوذا "لا أعلم إلا شيئًا واحًدا أيها المريدون ألا وهي المعاناةُ والخلاصُ من المعاناة". كما أنها أيضًا استندت في مفاهيمها إلى " فلسفة حقائقَ المعاناة الأربعة" التي قدمها بوذا، وأكدت أنه يجبُ على الشخص التفكيرُ في معاناتِه وهو يتأمل هذه الحقائق.

في "الحقيقة النبيلة الأولى" عرفتُ أن "الحياةَ تعني المعاناة" أيْ أن الجميعَ يعاني ولكن بدرجات متفاوتة، ولن تستمرَ مثلها مثل السعادةِ والحزن وغيرهم، وفي الحقيقة النبيلة الثانية توصلت إلى أن " أصلَ المعاناة هو الارتباط" والمقصودُ هنا أن السببَ الرئيسَ الذي يجعلنا نعاني هو الارتباط بالماضي، أو جروح قديمة، أو مشاعر سلبية عن أنفسنا والجميعُ يمر بذلك في مرحلة ما بحياته، أما الحقيقة النبيلة الثالثة أكدت أن " وقفَ المعاناة أمرٌ في المتناول" وهذا يحدث عن طريق الإيمان بوجود المعاناة والتركيز على مواجهتها، ومن خلال تلك الحقيقة توصلت للحقيقة النبيلة الرابعة، وفيها أقرّ بوذا أن "هناك طريقًا لوقف المعاناة" وهذا الطريقُ هو التأمل والانتباه لكل الأفكار التي تدور داخل العقل ثم التركيز على التحرر منها حتى يتمَ التحررُ من المعاناة.

3: عقلي

قبل تسعة أيام كنتُ أقرأ حقائق المعاناة الأربعة، ولاحظت في كل مرة أن عقليَ يقفز عند الحقيقةِ الثانية " أصل المعاناة هو الارتباط" وكأنه يُخبئ عليّ شيئًا ما، لكنني بالمراقبة اكتشفتُه، عقلي يُبالغ في التفكير، فهو يفكر كثيرًا في الماضي، في كل تلك الخيبات العاطفية، ولحظاتِ الضعف، والأذى غير المُبرر، والقراراتِ الخاطئة، ثم يقفز سريعًا نحو المستقبل وينتظر منه أن يعوضَه عن كل ذلك. المستقبلُ لا يفعل، فأجده عاد نحوي سريعًا مُشكِّلًا قذيفة كبيرة من الأحكامِ مصوبها تجاهي: أنتِ فاشلة، وحيدة، غبية. أطالبه أن يصمتَ فأجده يحول رأسي لساحةِ معركة تتصارع فيها الأفكارُ كما يحلو لها، ومهما أقاومه أجده يشتدُّ في صراعه أكثر، وللمرة الأولى في حياتي أكتشف أن هذا العقلَ مليء بالمشاعر السلبية، والمضحكُ أنها ليست تجاه مَن تسببوا لي في المعاناة، بل تجاهي أنا! ولا أعرف لكنني أشعر الآن أن الصورةَ ضبابيةٌ للغاية وأنني أركض بشكل مستمر ولا أعرف لماذا أركض؟ أو أين سأصل؟

بعد الانتهاء من اليومية السابقة وجدتني أعودُ سريعًا لكتاب فلسفة الزن؛ محاولة الوصول إلى إجابة حاسمة تساعدني فوجدت أن ما أمرُّ به الآن طبيعي، فأنا في مرحلة السامسارا أي المعاناة والتي نشأت، بناء على ما كتبتُه في يومياتي، نتيجةَ المِزاج المتقلب، الانفصال عن نفسي، الأفكار الانتحارية، الارتباط بالماضي، ومنها سأعبر إلى مرحلة النيرفانا (السعادة القصوى)، وتوصلت إلى أن الجميعَ يمر بهاتين المرحلتين في مرحلة ما بحياتهم.

يمكنني القول الآن إنني فهمت سببَ معاناتي، والخطوة التالية ستكون تطبيقَ الحقيقة النبيلة الرابعة، وهي ممارسة التأمل والانتباه للأفكار.

في اليوم التالي، اخترت وقتًا هادئًا، وجلست على وسادة مريحة، وحافظت على ظهري مستقيمًا، وبدأت اتنفس من أنفي، وأركز على تنفسي، وأدون ملاحظات لعدد المرات التي يتشتت عقلي فيها، وامتنعت عن الحكم على أفكاري، وبعد مرور خمسِ دقائق وجدتني تشتتُّ ثمانيةً وتسعين مرة، ولم أشعر بأي شيء بعد انتهاء التمرين، لكن هذا طبيعي حيث "لا يمكن إتقان أي شيء من المرة الأولى" هكذا حدّثتُ نفسي.

في اليوم الذي يليه والملاحق له ولمدة أسبوعين كاملين كنت أمارسُ التأملَ، لكن لم أشعر بأي شيءٍ، صدقًا الأفكار كانت تعصف بي أكثر، وشعرت أن عقلي واقفٌ أمامي مباشرة، يستهزأ بي، ويذكرني كما أنا موهومة، وأنني من أخترع فكرةً معينة، ثم سرعان ما ألهث وراءها، والنتيجة دائما تكون " الفشل"، ثم اقترب من أذني وهمس لي "لماذا لا تكونين مثل  جريجور سامسا بطل روايتك المفضلة المسخ لكافكا؟ هل سامسا فعل ما تفعلينه أنتِ الآن؟ ثم هل تعتبرين تلك معاناةً مقارنة بما عاني منه سامسا؟ تذكري دائما أنك موهومة، أما سامسا فهو البطل، هو من ترك نفسه كليًا للمعاناة فاحتضنته وجعلته يسبح في بحورها، ثم قذفته من تلك الحياة البائسة، بكل هدوء".

أكره حقًا ذلك الشعور الذي يعتريني عندما يتحدثُ عقلي معي مباشرة، حينها أرغب وبشدة في الإلقاء بنفسي بداخل ذلك البئر المظلم وأترك المعاناةَ تفعل بي ما يحلو لها. عقلي معه حق، أنا لا أعلم ما الذي يجب عليّ فعله الآن؟ هذا التأملُ الذي يتحدثون عنه مجرد وهمٍ، إنه فقط عبث، ماذا أتامل؟ فشلي؟ انسحاقي في هذا العالم؟ حقا كلُّ الطرق سواء كان التأمل أو زيارة طبيب نفسي أصبحت تؤدي إلى نتيجةٍ واحدة ألا وهي أن المعاناةَ والحزن لا مفر منهما في تلك المرة بالتحديد، سأتبع أبياتَ إيمان مرسال؛ لأنها الأقربُ إلى روحي وعقلي وليس وهمَ السلام الداخلي أو النيرفانا التي يتحدثون عنها.

لن أحاولَ اكتشاف طرقٍ جانبية

تساعدني على تفادي الألم

ولن أحرمَ نفسي من التسكُّع بثقة

وأنا أدرّب أسناني على مضغ كراهيةٍ

تقفز من الداخل

بقيتُ أيامًا عديدة تحت وطأةِ هذا الشعور، ووددتُ بشدة لو يستمر للأبد، لكنه الوهمُ مجددًا، الوهم الذي يخبرني أنني قوية وأستطيع العبور من هذا، ويجب عليّ الصمود، ومثل هذه الشعارات التي أمقتها وللأسف استمعت إليه لكنني لا أعرف ماذا أفعل الآن؟

تقول فلسفة الزن " المعاناة تنشأ في العقل وتنتهي في العقل"، وأنا الآن فهمت سببَ معاناتي، لماذا لا أفهم عقلي؟ هكذا سألت نفسي؛ لأجدَ الإجابةَ أن العقل هو عمليةُ وصفٍ للأنشطة والوظائف العليا في الدماغ، وأنه يجب فهم الدماغ نفسه؛ لفهم ما يدور داخل العقل، وبالتالي القضاء على المعاناة.

وجدتُ أن الدماغ يتكون من المخ، وجذعِ الدماغ، والمُخيخ.والمخ هو الجزءُ الأكبر بالدماغ، ويتكون من شِقَّين، شق أيمن وشق أيسر، وبأعماق كل شق توجد اللوزة الدماغية والفص الجبهي. 

اللوزة الدماغية هي مجموعةٌ من الخلايا على شكل لوزة، وهي التي تستوعب كلَّ المشاعر التي تحدث لنا، وتقوم بتخزين الذكريات، أما الفصُ الجَبهي فهو المسئول عن الانتباه والتركيز، والتنبؤ بالأحداث المستقبلية، واتخاذ القرارات، وتنظيم اللوزة الدماغية، لذا يجب أن يكونَ نشطًا جدًا، لكن عندما نتعرضُ لمشاعرٍ سلبية وصدماتٍ كثيرة ونتشبثُ بها يحدث العكسُ، تصبحُ اللوزة الدماغية نشطةً جدًا، والفص الجبهي أقلّ نشاطا وبالتالي نُصابُ بالقلق والتوتر والمبالغة في التفكير وجَلدِ الذات والاندفاعية، واتخاذ قراراتٍ خاطئة، ومِن هنا تبدأ المعاناة.

عندما توصلتُ لتلك المعلومة، وجدتني أقفُ أمام المرآة وألمس رأسي من جميع الاتجاهات؛ مُحاولةً البحث عن اللوزة الدماغية؛ كي أنتزعَها من مكانها وأُنهي كل ذلك، لكن بعد بُرهةٍ قصيرة شعرتُ أن هذا تفكيرٌ غير عقلاني بالمرة، وأنني خاضعة الآن تحت سطوتها، فجلست مكاني، وتساءلتُ:  كيف أُزيدُ مِن نشاط الفص الجبهي وأقللُ من نشاط اللوزة الدماغية؟ وبعد بحث طويل توصلت إلى مهارة اليقظة الذهنية "Mindfulness".

 

الصورة من موقع archive.org برخصة المشاع الأبداعي. 

وفقًا لجون كابات زين في كتابه حياة كارثية بالكامل هي تعلمُ التواجدَ في اللحظةِ الحالية عن طريق إنشاء جزيرةٍ بداخل العقل يتم فيها توقفُ كل شيء وعَيش اللحظة الحاضرة فقط، وفي تلك الجزيرة، وعن طريق مهاراتِ اليَقظة الذهنية سأتعلمُ كيفيةَ تخصيصَ وقتٍ لنفسي، حبَّ الهدوء، قبولَ الذات، مراقبةَ كل ما يدور في ذهني، مشاهدة الأفكار والتخلي عنها بدون مقاومة، وإيجادَ طرقٍ جديدة لرؤية المشاكل القديمة.

تأملتُ كثيرًا تعريفَ كابات، وشعرتُ أنه منطقيٌّ للغاية، فإذا أستطعتُ التواجدَ في اللحظة الحالية سأمتنع عن التفكير في الماضي والتفكير عامة وبالتالي تَقلّ نسبةُ نشاط اللوزة الدماغية وتزيد نسبة نشاط الفص الجبهي وسأصل إلى السلام الداخلي.

عندما توصلت إلى ذلك الأمر وجدتني مستلقيةً على أرضية غرفتي، متأملة الفراغ وبداخل عقلي تتصارع مليون فكرة في اللحظة نفسها، على افتراض أن ما توصلتُ إليه بخصوصِ اللوزة الدماغية صحيحٌ وأن مهارات اليقظة ستساعدني فإذا لم يحدث ذلك وتوصلت لنتيجة التأمل نفسها ماذا سأفعل حينها؟ وبعد تفكيرٍ طويل، شعرت أنني لو فشلتُ فلن يكونَ الأمرُ جديدًا علي، إذن سأجرب.

اليومُ الأول مع مهارات اليقظة

استلقيتُ على سريري، عقدتُ النية على الوجود في اللحظة الحاضرة، راقبتُ ولاحظتُ كلَّ شيء في غرفتي، بدأت أصف محتوياتِ الغرفة، ثم أغلقتُ الإضاءة، ومن هنا اندفع سيلُ الأفكار بداخل عقلي كأنني لم أفعل شيئًا، فتنفست سريعًا من أنفي، وأمسكت رأسي بكلتا يدَيّ، وبعد مرور خمسِ دقائق في هذا الوضع لمعَ في عقلي ذلك الفيديو الذي شاهدتُه منذ أشهر عن ممارسة تأمل ذكرى سعيدة قبل النوم، وأثره في التخلص من الأفكار.

أغمضت عيناي، وذهب عقلي إلى تلك الذكرى الوحيدة السعيدة في طفولتي، عندما كنت في السابعة من عمري، أعيش في قرية فقيرة معدمة، وبها كُشكٌ واحد يبيع حلوى لأبناء القرية فاجأنا صاحبُه ذات يوم بثلاث لُعَب؛ عروسة ومسدس وبيانو، أنا لم أكُن أملكُ أي لعبٍ من قبل، لذلك وقفت أشاهد بانبهار، وقررتُ شراء البيانو على الفور، لكن جملة "هاتي خمسة جنية وتعالي" التي سمعتُها من صاحب الكشك هدمت كلَّ أحلامي، مصروفي كان ربعَ جنيهٍ يوميًّا، ومن المستحيل أن أطلبَ كل هذا المبلغ من أبي.

عدتُ إلى منزلي، وبكيت طويلًا، وفي اليوم التالي لم أخرج في الفسحة المدرسية لشراء سكر النبات كما اعتدتُ، بل قررت الإبقاء على الربع جنيه لشراء ذلك البيانو، وبعد أربعة وعشرين يومًا كان بين يدي، في تلك اللحظة بالتحديد شعرت أنني أحلقُ في السماء. تذكرت تلك الذكرى بالكامل، وأنا مستلقيةً على سريري بعد أكثر من عشرين عامًا، ووجدتني أغفو سريعًا، وأصوات عزفي تحاوطني من كل جانب.

استيقظت مبكرًا، وجدت ابتسامةً خفيفة على شفتيّ، تركتُ السرير سريعًا حتى لا تهجمَ الأفكارُ دفعة واحدة، توجهت للحمام، نظفت أسناني ثم تذكرتُ أنني الآن لا أمارس مهارات اليقظة فعقدتُ النيةَ، وبدأتُ أنظف أسناني ببطء وأنا أراقب وألاحظُ ما أفعله، ثم ارتديت ملابسي، وقبل أن تطأ قدماي الشارع تذكرت قول كابات "يجب الشعور بالقدم أثناء حركة المشي وذلك عن طريق التركيز على الإحساس والانتباه لجميع الأصوات" ففعلت ذلك ومعهما، للمرة الأولى، بدأتُ أراقبُ وألاحظ البيوت الملاصقة لبيتي؛ فاندهشت من أنني أعرف أشكالهم وألوانهم للمرة الأولى في حياتي مع أنني أقطنُ هنا منذُ خمسة عشر عامًا.

وصلت للقطار حيث يقلني إلى مكان عملي في طنطا، وجلست بجوار الشباك، وبدأتُ أراقب وألاحظ الجميعَ من حولي، من دون إصدار أيَّ أحكام، كنت فقط أتأمل ملامحهم طويلًا، وتركتُ أُذُنَيَّ تنصتان لكل صوت، فلاحظت أن هناك أصواتًا عديدة متداخلة من الباعة الجائلين، الكمسري، بكاء طفل، همهمات غير مفهومة، أصوات يغالبها النعاس، أصوات متحمسة للشجار، إلخ، ثم تحرك القطار؛ فبدأتُ أراقبُ وألاحظ الحقولَ المجاورة له، فلاحظت أن جميعَها تحمل الزرعَ نفسَه، وأنه يوجد بيت صغير في إحدى الحقول محاط بأشجار فاكهة كثيرة، من البرتقال والكمثرى والجوافة، وأغصان الأشجار تغطيه بالكامل، أستقلُّ القطارَ منذ أربعِ سنوات بشكلٍ يومي، ولم ألاحظ ذلك البيت من قبل.

وصلتُ عملي، ومارستُ مهارات اليقظة طوال اليوم، وعندما كنتُ أفقد تركيزي عند عمل شيء كنتُ أعيده مرارًا وتكرارًا حتى أُجبِرَ عقلي على التواجد هنا في هذه اللحظة فقط، وعند عودتي كررت ما قمت به في الصباح. 


اقرأ أيضًا: الاكتئاب الدوري: أو الانكفاء داخل بطن الحوت

 


لمدة ثلاثة أشهر متتالية كنت أكرر اليوم نفسَه مع إدخال بعض الإضافات كتوقفي عن تناول السكر والمشروبات الغنية بالكافيين، أضفتُ الفاكهة لوجبة الغذاء، بدأت أنتبه وأصف كل الوجبات التي أتناولها، استغللتُ نصفَ ساعة بريك العمل في المشي وتأمل البنايات المجاورة، بدأت أنصت إلى كل ما يدور بداخل عقلي من دون التفاعل معه، مارست اليوجا لنصف ساعة يوميًّا، اشتريت كتاب التلوين الخاص بالأطفال وأقضي معه ساعة كل يومين، التحقت بدروسِ تعلم البيانو، دربتُ نفسي على الاستماع للآخرين أكثر من التحدث، قررتُ تكوين ذكريات جديدة سعيدة في الأماكن نفسها التي حصلتُ فيها على ذكريات سيئة، فمثلا سافرت الأحد الماضي لزيارة المتحف المصري حيث حصلت لوزتي الدماغية فيه على أسوأ ذكرى عندما صفعتني إحدى المُدرّسات وأنا أتأمل واحدًا من التماثيلَ لأنتفض من مكاني وأجدها تجذبني من ذراعي بقوة وتطلب مني ألّا أخرجَ عن الصف مجددًا، وبدأ بعدها زملائي يسخرون مني، مما جعلني أبتعد عن الجميع لدرجة أنني أنهيت المرحلة الابتدائية من دون أي صداقات.

وصلت المتحف، وفي البداية شعرتُ بمشاعرِ حزن قوية تجذبني للخلف لكنني تشجعت وقررت أن أتواجد في تلك اللحظة فقط وأتأمل كل شيء، وفي نهاية اليوم شعرت كأن صخرة قوية أزِيلتْ من داخل رأسي، وعند عودتي لمدينتي، مدينة زفتى، شعرت أن عَلاقتنا سطحية للغاية ولا يوجد بيننا أيُّ ذكريات سعيدة، فقررت اكتشافها بالمشي لنصف ساعة يوميا بعد العمل، ومن هنا اندهشت من أنني لا أعرف أسماءَ أغلب الشوارع، إضافة إلى أن لدينا نهرًا جميلًا للغاية، نعم كنتُ أراه من قبل لكنني كنت فقط أراه مجردَ نهر عادي وحتى لم ألاحظ أنهم حولوه إلى كورنيش وأصبح من الممكن الجلوس أمامه، لذلك قررت اكتشافَ شوارع زفتى ثم التأمل أمام النهر.

هل وصلتُ لنهاية الأفلام السعيدة؟

بالتأكيد لا، فمنذ أن بدأت ممارسة مهارات اليقظة، وحتى الآن أجدنى أكرر تلك الكلمات "نحن هنا، ركزي، لا نملك إلا تلك اللحظة، ما حدث قد حدث، نحن هنا"، إلى جانب أن الأفكارَ مازالتْ تتكاثر على رأسي دفعة واحدة وتطرحني أرضًا، لكن يمكنني القول إنني وصلت إلى نصف نهاية سعيدة، حيث إنني في هذه النهاية وبعد مرور شهر واحد فقط من الممارسة المستمرة وجدتني أتامل نفسي طويلًا في المرآة، وكانت تلك المرة الأولى التي أشعر فيها أن هذا الانعكاس هو أنا، هذه ملامحي، وهذا هو جسدي، وفي تلك اللحظة بالتحديد وددت لو أركض صوبَ الشارع وأخبر الجميع بصوتٍ عالٍ؛ أنني أراني، أنني هنا، أضف إلى ذلك أنني أصبحت أكثر خبرة في التعامل مع صراع الأفكار عن طريق الذهاب لغرفتي، والاستلقاء على الأرض وتأمل الصراع جيدًا من دون مقاومة حتى تخرج الأفكار وتَسطُع أمام عينيّ وبعد بُرهة قصيرة تتلاشى، حقًا وصدقًا كانت تتلاشى بعد ثوانٍ قليلة.

وأفضل ما حدث لي في تلك النصف نهاية السعيدة أمران: الأول عندما قابلتُ إحدى صديقاتي القدامى وأخبرتني عن الإنجازات الكثيرة التي حققتها مؤخرًا فوجدت عقلي يركض تلقائيًا إلى حياتي كلها باحثًا عن إنجاز واحد حققته ولم يجد فأخبرني على الفور أنني فاشلة، حينها، للمرة الأولى، وجدتني أتوقف تمامًا وأسترجع ما قمت به خلال يومي فوجدتني ذهبت لعملي وراضية عن أدائي فيه وساعدت رجلًا مسنًّا في تعلم سحبِ نقوده بنفسه من ماكينة الصراف الآلي وابتسم لي ابتسامةً لن أنساها أبدًا، كما أنني أجلست سيدةً حاملًا مكاني في القطار اليوم، وساعدت والدتي في أداء مهام البيت، وبدأتُ قراءةَ كتاب جديد عن مهارات Mindfulness وتفاعلت معه بكل حواسي، "إذن أنا لستُ فاشلةً كما تراني، ربما أكون عضوًا فعالًا في هذا المجتمع"، هكذا أخبرت عقلي ولم أتلقَ منه ردًّا، وكانت تلك أول مرة يصمت فيها.

 

نهر النيل بين مدينتي زفتى وميت غمر. تصوير: غادة مشرف

والثاني خلال جلسات التأمل الطويلة التي كنت أجريها على كورنيش زفتى وفيها اكتشفت أكثر من أمر:

الأول عندما بدأتُ التأملَ من قبل ولم أصل لأي نتيجة؛ كانت المشكلة مني وليس منه، فأنا كنتُ أشاهد فيديوهاتِ التأمل الكثيرة ولدي قناعةٌ راسخة أن هذا هراءً، وهذه الفيديوهات هراء بالتأكيد، فمن المستحيل أن يجلس شخص على الأرض ويغمض عينيه ويتنفس من أنفه وستنتهي كل مشاكله. لكن يمكنني القول إن المشكلةَ مني؛ لأنه كان يجب علي معرفة عقلي أولا ثم الذهاب للتأمل والذي من خلاله اكتشفت أنني طوال حياتي كنت منغلقةً على نفسي، ولا أرى أبعد من معاناتي، وكنت أنظر للآخرين من أعلى، وأراهم سطحيين وليس لديهم معاناة حقيقة، وهذا كان يوتر الحديث بيننا، ويجعلني أركز على  الجانب السيئ فقط فيهم، لكنني الآن تعلمت أن الجميع يعاني بشكل أو بآخر، ولا بُدَّ من الإنصات لهم ورؤيتهم بصورة كاملة، ومن هنا بدأت أرى الجوانب الجيدة في شخصياتهم.

إلى جانب أنه في إحدى الأيام داهمتني مشاعرُ ندم قوية وغضب تجاه نفسي بسبب فشل العَلاقة الوحيدة التي حملت فيها مشاعر صادقة فوجدتني أتأمل تلك العلاقة من بدايتها حتى نهايتها فوجدته هناك واقفًا أعلى دَرج عالٍ مصوبًا سبابته نحوي، حاكمًا عليَّ في كل موقف، ومنتظرًا فقط أن أخطئَ ليشعرني كم أنا سيئة، ورأيتني هناك، أسفل ذلك الدرج مقيدةً وألعب دورًا لا يشبهني في شيء حينها تركت ذلك الدرج وتأكدت أنني لن أعود إليه مجددًا، وأنني أريد الآن تفصيلَ ثوبٍ يشبهني.

وفي تلك الجلسات أيضًا شعرت للمرة الأولى أنني بدأت أحب اللهَ، أو بالأحرى بدأت أستشعر وجودَه وأن كل ما حدث لي كان يجب أن يحدث حتى أصل إلى تلك النقطة التي أشعر فيها أنني أنا، وودت حقًا لو أذهب لطبيبي النفسي السابق وأخبره أنه كان محقًا عندما طلب مني الاقتراب من الله ولكن طريقتُه كانت خاطئة، حيث إنه لا يجب على أي شخص في هذا العالم أن يطلبَ من آخر الاقتراب من الله؛ لأن تلك لحظة.. لحظة يشعر فيها المرء أنه يودُّ حقا شكرَ الله على كل ما حدث له.

4

أراني الآن على جسر طويل، لكن الرؤية ضبابية بعض الشيء لدرجة أنني أرى الأشياء بصعوبة، لكنى أشعر أنه ليس بقوة الضباب من ذي قبل كما أنني أسمع الآن صوتًا يردد كلمات جبران "أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك، فأغمض عينيك والتفت تراني أمامك" وأشعر أن هذا الصوت للسلام الداخلي وليس لجبران، وأنني على وشك الوصول إليه.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.