تصميم: المنصة

سهير البابلي: بكيزة هانم تصعد إلى السماء

منشور الاثنين 22 نوفمبر 2021

 

"يا قومي"؛ نداء يتردد في كواليس المسرح، يطلقه الممثلون الشباب ضاحكين في مزاح مع زميلتهم، لما رأوه من جدية وإتقان في أداء دورها في المسرحية التي ستصبح واحدة من علامات الكوميديا في تاريخ المسرح المصري.

في ذلك الوقت، أوائل السبعينيات، كان هؤلاء الشباب ما زالوا ممثلين مبتدئين، ولكنهم بفضل هذه المسرحية؛ مدرسة المشاغبين، سيصبحون نجومًا وتكتسب أسماءهم ثقلاً فنيًا، أما هي فكانت سبقتهم بمراحل وببداية مع المسرح القومي، كانت بها محظوظة بالعمل مع أسماء ممثلين كبار، استحقت التواجد بينهم كثمار جنتها لحلم أصرت لسنوات على تحقيقه علميًا وعمليًا، فصار لها اسمها الفني؛ سهير البابلي.

سينتقل هذا الاسم بشهرته من المسرح حيث كان لصاحبته جولاتها، إلى التليفزيون والسينما، وتصعد نجوميته بأعمال مميزة على مدار أعوام انتهت باعتزال لم يؤثر على التميّز.

شقاوة "مشخصاتية"

في منتصف فبراير/ شباط لعام 1937، ولدت الطفلة سهير حلمي إبراهيم البابلي، في محافظة دمياط، لأب يعمل ناظر مدرسة كان هو أول فرد في صفوف جماهيرها وهي الصغيرة التي تجيد تقليد الممثلين والمحيطين بها من أقارب وزوار للعائلة.

رأى الأب في الطفلة الشقية "مشخصاتية"، تملأ المنزل مرح؛ كما حكت عن نفسها لصديقتها الفنانة إسعاد يونس "الكوميديا ارتجال. دي طبيعتي. أنا كوميديانة. حتى في العيلة كوميديانة. حياتي ضحك ولعب وجد وحب"، قالت السيدة عن طفلة كانتها. طفلة صدّقها الأب؛ فشجعها على الاستمرار وتحقيق حلمها بالالتحاق بالمجال الفني، رغم رفض الأم ربة المنزل.

من دمياط، حيث الميلاد، إلى المنصورة حيث النشأة، انتقلت سهير التي عشقت التمثيل منذ كانت طالبة في الثانوية العامة؛ فصارت واحدة من الأعضاء الأساسيين في المسرح المدرسي؛ ومعه كان طبيعيًا ألّا تشبه في طموحها زميلاتها الطالبات، اللاتي كن منقسمات بين فريقين؛ أوّلهما يحلم بالالتحاق بمدرسة المعلمات أو كلية الطب، والثاني قرر الاكتفاء بالشهادة الثانوية قبل التفرغ لبناء حياة أسرية كربات بيوت.

اختلفت سهير، واختارت الفن بصورة عكست كم الحب لهذا المجال، فالتحقت في آنٍ واحد بمعهدين متخصصين في مجالين مختلفين، لكنهما فنيين، الأول هو العالي للفنون المسرحية والثاني هو الموسيقى.

انتهت الدراسة لتبدأ الرحلة الفنية في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، تحديدًا 1957، مع فيلمي إغراء وصراع مع الحياة، لتنطلق منهما إلى أعمال أخرى شاركت فيها نجوم ذلك العصر مثل عبد الحليم حافظ وسعاد حسني وفؤاد المهندس وغيرهم.

بعد ذلك وعلى مدار نصف قرن، صنعت سهير البابلي نجوميتها السينمائية من خلال المشاركة في العديد من الأعمال التي تحولت فيها من الأدوار الثانية إلى الواجهة بأدوار أهم، منها الكوميدي مثل أخطر رجل في العالم مع فؤاد المهندس، ومنها الجاد مثل حدوتة مصرية مع الاسم الأبرز بين مخرجي مصر يوسف شاهين، وغيرهما من عشرات الأفلام. لكن الحب الأكبر لسهير، كان دائمًا المسرح.

مسار واضح 

بعد سنوات دراسة في المعهد العالي للفنون المسرحية على يد أساتذة بارزين مثل عبد الرحيم الزرقاني، وحمدي غيث، بدأ الحلم يتحقق حين شجعها أحد هؤلاء الأساتذة وهو المخرج فتوح نشاطي لبدء المشوار وتحقيق الحلم، بالحصول على فرص في أعمال مسرحية، بعد ما لاحظه فيها من موهبة.

منذ تلك اللحظة، التزمت سهير مسارها الواضح عبر ساحتها المفضلة، ببداية مع المسرح القومي وسط أسماء كبيرة آنذاك، مثل أمينة رزق وسميحة أيوب وسناء جميل وشفيق نور الدين. ومعهم، أحبت عملها وتفانت؛ فكان وأن لمع اسمها كممثلة مهمة بأدوار تعددت بين مسرحيات على خشبة المسرحين القومي والخاص، حين لم يكن هناك اختلاف كبير بينهما.

فعلى خشبة المسرح القومي، كافأ الفن الشابة الحالمة به منذ الصغر، فشاركت في أعمال جسدت روايات عالمية مثل مسرحيتي بيت برنارد ألبا ويرما للشاعر الأسباني جارسيا لوركا، ومسرحية نرجس للروائي الفرنسي جان أنوي، وأخرى لمؤلفين مصريين مثل مسرحية القضية للطفي الخولي.

من نجاحها في هذه المسرحيات، وحين أسس فرقة "الفنانين المتحدين"، استدعى المنتج سمير خفاجي سهير البابلي للمشاركة في مسرحيته الشهيرة مدرسة المشاغبين عام 1973، والتي استمر عرضها سبع سنوات، اثنتان منها بصورة متواصلة، والبقية في صورة مواسم، بجانب تسجيلها إذاعيًا، قبل أن يتم بيعها في صورة شرائط كاسيت، فيما يمثل انعكاسًا لنجاح سيتكرر كثيرًا مع سهير، سواء في المسرح أو التليفزيون.

نجمة "الحكيم"

من مدرسة المشاغبين جاء النجاح والانتشار للفنانة ابنة المسرح القومي، التي لم تلفت انتباه خفاجي فقط، لكن من قبله لفتت نظر فنان آخر من أعمدة المسرح وهو جلال الشرقاوي، والذي حين كان مديرًا لمسرح توفيق الحكيم قرر الاستعانة بها في مسرحية من إخراجه وهي آه يا ليل يا قمر.

كانت بداية التعارف بين الفنانة الشابة والمسرحي القدير بهذه الفرصة التي جعلت منها النجمة الوحيدة لمسرح الحكيم. وبـ الليل والقمر بدأت العلاقة، لكن القفزة الأكبر كانت بمسرحية أخرى ما تزال تحظى بالشهرة حتى الآن، وهي عَ الرصيف في منتصف الثمانينيات، مع الشرقاوي والفنان حسن عابدين، والتي كانت محلّ احتفاء من سهير لما نالته من جوائز، أرجعت الفضل فيها للشرقاوي الذي كان لها بمثابة "سند"، على حد وصفها له.

والشرقاوي دعم الشابة في هذه المسرحية التي ألّفتها الكاتبة الصحفية نهاد جاد، والتي حين اختارت الشرقاوي لإخراجها، زارته ومعها زوجها الناقد المسرحي سمير سرحان، وبصحبتهما سهير، والتي قال عنها الشرقاوي إنه "وجدها المناسبة للدور".

حظ؟ ربما. فرصة أحسنت الشابة استغلالها؟ يجوز. المهم أن النتيجة واحدة وهي أنها وجدت نفسها تبدأ محاطة بأسماء كبيرة، وصولًا لعملها كبطلة مع اسم مسرحي كبير هو جلال الشرقاوي، الذي لم ير أنسب منها لمسرحيته ذات البعد السياسي والخالدة حتى اليوم. فالشرقاوي هو من رأى سهير "الأنسب"، وهو من  سبق وأن مدحها في تصريحات إعلامية استرجع فيها زمن المسرحية، فقال "قد كده متفانية وجادة وصادقة في شغلها. وقد كده خشبة المسرح هي بيتها الثاني، إن لم يكن بيتها الأول".

وهذه لم تكن مجاملات فنية، فالرجل المخرج شاهد وعايش بنفسه الممثلة وهي في إحدى الليالي ترفض وقف حجز التذاكر ورد الأموال للجمهور، وأصرّت على الوقوف على خشبة المسرح رغم حالة الإعياء الشديدة التي أصابتها قبل العرض بنصف ساعة فقط، لتدخل إلى خشبة المسرح متكئة على زملاء، لكن بمجرد الوقوف عليها دبت فيها الحياة.

ذلك الموقف، وغيره مما عايشه معها طيلة سنوات، ربما كان ما دعا الفنان والمخرج الكبير لوصفها بأنها كممثلة مسرحية "نادرة الوجود"، حسبما قال في تلك الحلقة نفسها من البرنامج.

عشرة عُمر

التفاني وحب المسرح، جزء من خلطة نجاح أجادتها سهير البابلي، ومقابلها حصلت على العديد من الجوائز عن مسرحيات، ربما أشهرها بالنسبة للجمهور ريا وسكينة، تلك التي رأت سهير نفسها محظوظة فيها، فقط لوجود اسم هذه السيدة في المسرحية، شادية.

تقول سهير عن تلك الأيام "أنا كان بيجي لي ضربات قلب. والله. أول ما سمعت من سمير خفاجى. وقال إيه رأيك لما نجيب شادية؟ أنا اتخضيت. شادية سوبر ستار السينما". حينها امتزج شعور القلق والخوف بالسعادة والتكذيب في آن واحد. فهل تأتي شادية؟ وقد كان. أتت شادية وخرج للنور العمل المسرحي البارز.


اقرأ أيضًا| جميل راتب.. نرد بألف وجه

تصميم: المنصة

في ذلك الوقت كانت هي سهير الشابة، التي كانت بالنسبة لهؤلاء الكبار "صغيرة شعنونة" تحب زملائها، تنشر البهجة في الكواليس، أما على خشبة المسرح فلا يُمتعها أكثر من ضحك جمهور تراقبهل. لذلك كان طبيعيًا حين صارت بعدها بعقود فنانة قديرة عما إذا كانت اشتاقت للمسرح أم يكون ردّها "وحشني القلم اللي بيكتب ده علشان اطلع على المسرح. أنا عايزة الضحكة العالية".

تلك الضحكة التي سمعتها من جمهور مسارح الحكيم، والقومي، والأندلس، ومسرح الأزبكية الذي شهدت خشبته عرض مسرحيتها الناس اللي فوق، تلك التي قابلها فنانو المسرح الحُر بمسرحية الناس اللي تحت. لكنها ورغم المنافسة لم تصف الجميع إلاّ بأنهم "عِشرة عُمر".

سنوات بكيزة

على خشبة المسرح ومع أحد فنانيه الكبار، سيد راضي، قدمت سهير مسرحية الدخول بالملابس الرسمية حيث أدت شخصية الهانم، مع مَن ستصبح فيما بعد رفيقتها، إسعاد يونس. فمن دورهما في هذه المسرحية وُلدت شخصيتاهما الخالدتان: بكيزة وزغلول، في العمل الأشهر الذي حمل اسمي بطلتيه وارتبط به اسمها، لما أجادته من تجسيد لشخصية الهانم الأرستقراطية.

هذا العمل الكوميدي الذي ما زال حيًا ويبعث القدر نفسه من البهجة في النفوس، رغم أنه لم يبدأ إلّا كاقتراح من سهير لإنتاج عمل فني يشبه فيلم الأيدي الناعمة؛ فألّفته إسعاد يونس واتجها به إلى المنتج حسين القلا، ومن مكتبه في الزمالك خرج العمل الذي كان أشبه بكوميديا الكارتون، وهو ما كاد أن يقضي على العمل ويجهضه باستشارة من مستشار فني للشركة.

رأى المستشار في "بكيزة وزغلول" عملًا أشبه بـ"الكوميكس"، وهو ما لم تنكره الفنانتان، بل أكدتا أنهما تريدان الخروج للجمهور بمسلسل يشبه في تفاصيله علاقة توم وجيري وما بها من مشاكسات، ما زالت تضحك الجمهور حتى اليوم، بعد أن حقق النجاح وتفوق وقت إنتاجه على عمل آخر جاد كانت تنتجه الشركة وهو عصفور النار.

حدث النجاح رغم مخاوف بكيزة من الأداء التلقائي الذي كانت تشعر أنه لن يعجب جمهور يريد أداء المسرح القومي. لكن كذب الشعور، وكان النجاح الذي بدا في "الشوارع فاضية" وقت إذاعته، حسبما رصد وبشّرهما زميلهما الكوميديان المنتصر بالله وقت عرض ثالث حلقة.


اقرأ أيضًا| المنتصر بالله.. أو الإيفيه كرصاصة مباغتة

 

تصميم: المنصة

نجاح كان لابد منه، ليس فقط لما فيه من كوميديا ترك المخرج أحمد بدر الدين المساحة لتقديمها دون توجيهات، بل أيضًا للجدية والالتزام اللذين اتبعتهما سهير وإسعاد وزملائهما في تقديم هذه الكوميديا، والتي منها ما كان من أداء لسهير، بكيزة الهانم التي لم يحرمها فقرها من الاستمرار فيما هي عليه من غرور وتعال.

في هذا المسلسل لم يوجهها نص. فخرج العمل في صورة الكثير من العبارات المرتجلة، والتي وإن أضحكت كثيرين ومازالت في ذاكراتهم، إلاّ أنها لم تكن مبتذلة، بل طبيعية ومرتجلة خدمت النص وجعلت منه واحدًا من الأعمال الكوميدية المميزة في تاريخ الدراما المصرية.

ومثل العبارات كانت المشاهد طبيعية، فسهير، بكيزة هانم، هي مَن اضطرت في أحد المشاهد للتعامل مع عُمال بناء حقيقيين وليسوا كومبارس؛ فظهر المشهد واقعيًا وهم يتشاجرون معها ويلقون بها فوق أطباق طعام أعدته ورفيقتها زغلول في محاولة لكسب العيش. ضرب العمال بكيزة هانم، وفي سبيل الكوميديا يهون الكثير.

رغم ذلك النجاح، إلاّ أنها وفي حوار بعد سنوات عديدة مع رفيقتها، إسعاد يونس، استعرضت خلاله ذكريات المسلسل وكواليسه بمنتهى الحنين، قالت جملة واحدة بتأكيد "المسرح أقيم بكتير". وربما هذا هو ما جعلها بعد بكيزة وزغلول تستجيب بفرح لطلب المخرج سمير خفاجي لاستثمار نجاحهما؛ فكانت مسرحية بعنوان "نص أنا.. نص أنتي".

وقبل هذه المسرحية، كان هناك استغلال آخر لكن عبر السينما، وذلك بفيلم يحمل اسمي البطلتين وهو ليلة القبض على بكيزة وزغلول، وفيه شاركتهما مجموعة من أبرز فناني الكوميديا آنذاك، مثل وحيد سيف وأسامة عباس. وبالتالي لم يخل العمل أيضًا من الإيفيهات والمواقف الارتجالية، التي تليق بوجود مثل هذه الأسماء التي ساهمت في نجاح الفيلم الذي حقق مع شبيهته المسرحية وجذرهما المسلسل سنوات تألق بكيزة.

ماما سهير

كان النجاح المسرحي والسينمائي والدرامي، لكن وما أن حملت الفنانة لقب ماما سهير؛ كانت على قدر من الشجاعة جعلها تتخلى عن أي وكل شيء مهما كان. إذ رأت من التفرغ لطفلتها الوحيدة ضرورة وقرار اتخذته بحب، شعرت به وحدثت عنه وحيدتها نيفين الناقوري.

الابنة التي رأت في الأم "فنانة بطبيعتها تعشق الفن والجمال في  كل تفاصيل حياتها"، وبجانب الجمال، كانت بالنسبة لها الام "خفيفة الظل" التي يجد محبيها معها وفي حضرتها مواقف كوميديا ولو من أبسط التفاصيل. والام الفنانة التي ظلت حتى بعدما اعتزلت تمارس عادتها الطفولية في المزاح والمرح عند رؤية أعمالها وكذلك النقد للدور.

وعلى قدر ما أحبته، إلاّ أن الفن لم يشغل سهير البابلي عن  الابنة ولا أحبائها الذين تشاركوا معها أوقات كفنانة وصديقة وأم وربة منزل مفتوح دائمًا لهم؛ فكانت ذكريات حين استرجعتها سهير مع واحدة من أقرب هؤلاء الأصدقاء، إسعاد يونس، لم تقل عنها الكثير، فقط وبمنتهى العفوية قالت "حقيقي الصحبة حلوه".

ومثل هذه "الصحبة" في حلاوتها، كذلك الفن والتاريخ، اللذين صنعتهما سهير البابلي، فبقى اسمها في ذاكرة الجمهور رغم ما كان من غياب، سواء عن الفن بعد سنوات الاعتزال، أو عن الحياة بعد الرحيل اليوم.