تصميم: يوسف أيمن- المنصة

أبو تريكة والتصدي لـ"الشذوذ": أن تلعب مع الفريق الأقوى

منشور الأحد 12 ديسمبر 2021

بث مباشر لاستوديو تحليلي لإحدى مباريات الدوري الإنجليزي. كان هذا هو الحدث ببساطة، أمر عادي ومتكرر، لم يكن أي من متابعيه أو حتى مَن لم يتابعوه يتوقع ما سينتشر بعده من جدل، ليس بسبب خلاف حول أداء اللاعبين أو ركلة جزاء خاطئة أو هدف ملغي. بل بسبب تصريحات للاعب كرة القدم المصري السابق محمد أبو تريكة عن المثلية الجنسية، أو ما وصفه بـ"الشذوذ"، ودعوته إلى "التصدي" لناس "مابقتش بتختشي".

الجدل حدث بسبب انقسام المواقف حول أبوتريكة، بين قلّة رفضوا كلماته لما رأوا فيها من "تحريض على الكراهية"، وبين أغلبية دعموه ورفضوا أي انتقاد له باعتبار أن له "حُرية التعبير عن رأيه" ودعمه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل ومدحه بهاشتاجات منها ما وصفه بـ"فخر العرب الحقيقي"، وذلك رغم ما حملته كلماته من عنف وتحقير لبشر آخرين لهم نفس حقوقه.

لكن ما سر الحملة الأوروبية؟ ولماذا رأت الأغلبية خطاب أبو تريكة بكل ما يحمله من تحقير وتحريض وكراهية مُجرد رأي؟ هذا ما ستعرفه ونسوق أسبابه.

تمييز كروي 

بداية الحكاية كانت بإعلان فرق ورياضيين بريطانيين دعمهم لحملة Stonewall Rainbow وذلك بارتداء أشياء رمزية بألوان قوس قزح، مثل شارات الأذرع أو لون رباط الحذاء، وذلك من قبيل الدعم المعنوي لهذه الفئة والتعامل معها باعتبارها مقبولة مجتمعيًا.

وStonewall هي جزء من حركة عالمية للدفاع عن حقوق المثليين والمثليات وثنائيي الجنس ومُصححي جنسهم، تدعم أن "يعيشوا حياتهم على أكمل وجه"، حسبما تُعرّف الحركة نفسها في موقعها الرسمي الذي أعلنت فيه مواجهتها "تعصبًا متزايدًا، ينتقص من الحقوق التي تم الحصول عليها بشق الأنفس".

إذن الحملة ليست "تقليعة" ولا "ظاهرة" حسبما وصف أبو تريكة، بل ذات أهداف إنسانية.

فعلى الرغم مما في أوروبا من انفتاح نسبي على حقوق المثليين، يتنوع بين تقبّل وجودهم وصولاً إلى سن بعض دولها قوانين لتشريع زواجهم، فإن هذا القبول المجتمعي لا ينطبق على ملاعب كرة القدم، حيث ينتشر العنف ضدهم بصورة واضحة، ومنذ أعوام عديدة.

ففي دولة مثل ألمانيا تم تشريع زواج المثليين عام 2017، كما أنها حصلت في 2018 على نسبة 59% على مقياس رينبو يوروب، فيما يتعلق باحترام حقوق المثلييين، وهو العام الذي شهد إصدارها قرارًا بوضع خيار ثالث في السجلات الرسمية يسمح للناس بالتسجيل ضمنها على أنهم "متنوعون جنسيًا"، بل إنها اعترفت بما تعرّض له الجنود المثليون من تمييز وعقاب في الجيش بين عامي 1955 و2000، وانطلقت مبادرات رسمية لتعويضهم.

رغم ذلك، لا ينطبق ما في المجتمع الألماني على ملاعبه، خاصة تجاه المثليين أكثر من المثليات، حيث يواجه لاعبو كرة القدم تمييزًا باعتبارهم "أنصاف رجال" ولا يستحقون التواجد في هذه الساحات. ومن الأمثلة على ذلك ما حدث للاعب كرة القدم الألماني، هاينس بوم، الذي تكبد خسائر حين أعلن عن مثليته، انتهت به إلى إدمان الكحول قبل أن يُعثر عليه مقتولًا في مسكنه عام 1991.

وهذا الاتجاه العدواني في الملاعب مازال مستمرًا في الألفية الجديدة، وليس أدلّ عليه أقوى من تصريحات اللاعب الألماني توني كروس، الذي رغم تأكيده إيمانه بحرية كل شخص في حياته، حث اللاعبين المثليين على إخفاء ميولهم الجنسية خوفًا مما قد يتعرضون له من "متاعب"، ذكر منها تحديدًا "ردّ فعل الجماهير".

كل هذا في ألمانيا، مثال على ما يحدث في ملاعب أوروبا، القارة التي قد يجد المثليون في دولها مساحة لهم ولحقوقهم بصورة كبيرة إذا ما قورنت بأفريقيا حيث مصر، بلد أبو تريكة، والمنطقة العربية حيث قطر بلد إقامته، والتي خرج عبر إحدى شاشاتها حديثه عن العدائي للمثليين.

إنسانية مشروطة 

في أوروبا دعمت الحملة ومؤيدوها مواطنين لهم نفس الحقوق ويؤدون نفس الواجبات، لكنهم لطالما تعرضوا لهجوم وعنف. لكنهم لم يبدو كذلك بالنسبة لأبو تريكة، الذي قرر قطع حديثه الكروي للتعليق على هذا الحملة بكلمات لم تحمل سوى الكراهية والتحقير، حتى دون محاولة ذكر دواعيها، سواء عن جهل أو تجاهل.

 بل وحين قارن اللاعب بين هذه الحملة وغيرها من الحملات الحقوقية، ومدح حملات كالمناهضة للعنصرية، مؤكدًا رفضه لحملة دعم المثليين، كان بهذا يمارس هذه العنصرية التي يُشيد بمناهضتها. فأن تكون إنسانيتك انتقائية وتعاملك مع البشر مشروطًا بأمر لا يخص بالأساس سواهم، فهذا ليس إلاّ عنصرية منك ضدهم.

حسنًا، لا تدعمهم ولا تشارك في الحملة، لست مُطالبًا بهذا ولا هو مفروض عليك طالما لم تستشعره من نفسك. لكن أيضًا، لا تمارس الكراهية، التي خرجت في عبارات وكلمات كان أولها "الشذوذ" التي تحدث بها عن المثلية، التي وصفها بـأنها "ظاهرة".

هنا كان الوصف الخاطئ، ليس بسبب كلمة "الشذوذ" فقط، لكن أيضًا بكلمة "ظاهرة"، فالأمر ليست موضة ملابس لا تعجبك أو أعمال فنية تنتقدها، بل هو أمر واقع وجماعة تعيش بيننا منذ قرون، لها خصوصيتها وحياتها التي لا يحق لأي أحد التدخل فيها، خاصة وأنها لم تتعد على خصوصية أحد، بل إنها بحديثك قد تتعرض للخطر أو العنف.

تحريض صريح 

أبو تريكة طالب أي لاعب عربي أو مسلم في دوريات أوروبا بعدم المشاركة فيما يحدث في هاتين الجولتين. وهنا نتحدث عن تحريض صريح للآخرين على تبني معاداته للمثلية التي قال إنها "لا تناسب عقيدتنا ولا ديننا"، وهاجمها بعبارات تهديد ووعيد، عبر استشهاده بـ"قوم لوط"، وكيف أنهم "تعرضوا لأكبر عقوبة في التاريخ"، وهي "خسف الأرض بهم".

وهنا تفرض الأسئلة نفسها حول الرأي وحرية التعبير التي أكدت هيئة الأمم المتحدة في معلوماتها الأساسية أنها "حق أساسي من حقوق الإنسان". لكنها أيضًا، أكدت في المادة 12 من الوثيقة نفسها أنه "لا يجوز تعريضُ أحد لتدخُّل تعسُّفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، ولا لحملات تمسُّ شرفه وسمعته. ولكلِّ شخص حقٌّ في أن يحميه القانونُ من مثل ذلك التدخُّل أو تلك الحملات".

إذن، أين الرأي في تهديد الآخر؟ وأين الرأي في وصف ما تمارسه فئة في حياتها الشخصية باعتباره "ظاهرة فجّة"؟ وأين الرأي في إعلان الاستياء من "سكوت الناس" وما يترتب عليه من أن "الشواذ بيزيدوا فيها"؟ وأين الرأي في المطالبة بـ"وجوب التصدي" لهذا الأمر؟

أبو تريكة تحدث صراحة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستشهد عليه بآية قرآنية، ووصف الأمر بأنه "منكر" لابد من إنهائه، وقال صراحة "كل ما الناس تسكت، يقولك زيد فيها. لأ، مش زيد فيها". وهنا لا توجد أي علاقة بين ما قيل وبين الرأي، بل هو خطاب كراهية سرعان ما وجد مستجيبين له، أولهم محبي أبو تريكة منذ كان "الماجيكو" الذي يمتعهم بلعبه. 

فمنذ خرجت تصريحات أبو تريكة، وتصدّرت الهاشتاجات الداعمة له مواقع التواصل الاجتماعي، من قبيل "كلنا أبو تريكة" و"أبو تريكة يمثلني ليه" و"فخر العرب الحقيقي"، وذلك بعد انتشار أنباء عن تعرضه للوم من إدارة القناة وإعلانها عدم تبنيها موقفه، بعد ما تلقته من انتقادات من الصحف الغربية لهذا الخطاب.

الدعم موجود من جماهير الكرة، ليس فقط لما تتميز به هذه اللعبة من خشونة وذكورية تبدو في صور عديدة، أبسطها نفي الجمهور الغاضب من فريقه لصفة الرجولة عن لاعبيه الذين بالتأكيد لن يحبوا أن يتواجد بينهم "شواذ.. أشباه رجال"، بل الدعم موجود أيضًا لأن مَن تعرض للانتقاد هو "أمير القلوب" أبو تريكة.

الدعم أتى أيضًا ممن ذكرهم أبو تريكة في حديثه، الشيوخ، سواء من جهات رسمية كالأزهر الذي تناول الأمر في بيانات تحذّر من "الشذوذ"، أو من شيوخ معروفين بمواقفهم المتشددة وبأنصارهم ومؤيديهم ممن اتخذ بعضهم مواقف بالفعل ضد فئات دينية أخرى، كالشيعة، بلغت حد السحل والقتل وحرق المنازل.

لكنه "رأي"

على الرغم من التحريض والكراهية الصريحة، خرج مَن دافع عن أبو تريكة بقوله إن ما بدر عنه "رأي". لكن لماذا رآه هؤلاء رأيًا؟ السؤال يحمل كلمة السر وجزء من الإجابة نفسها.. "الأغلبية".

أبو تريكة، وبالنظر إلى سياقات حياته المجتمعية والفكرية، سنجد أنه يلعب ضمن الفريق الأقوى من كل الاتجاهات وبكل العوامل. فهو وحتى حين تعرض لمشكلات مع سلطات اعتبرته "إرهابيًا"، وجد من يصفه محبّة بـ"إرهابي القلوب"، وانتقل من القاهرة إلى الدوحة، حيث الأفكار والقناعات نفسها.

فهناك، وعلى المستوى القانوني، لا تعترف قطر بالمثلية، بل إنها تُجرمها وتفرض على المثليين عقوبات قد تصل إلى الإعدام، حسبما رصد مؤشر LGBTQ+ Danger Index .

في قوانينها تعتمد قطر على الشريعة الإسلامية كأساس، ومن بين هذه القوانين ما صدر عام 2004، وبموجبه تتعامل السلطات مع المثلية، تحديدًا بين الرجال بلفظ "اللواط"، نسبة إلى "قوم لوط" الذين تحدث عنهم أبو تريكة عبر الشاشة القطرية.

وهو ما يحيلنا إلى الأوضاع الإعلامية هناك، فحديث أبو تريكة خرج عبر قناة في بلد له موقف واضح على هذا المستوى من المثلية، فقطر هي من سبق وأن اشتكت صحيفة نيويورك تايمز من حذف المواد المتعلقة بالمثلية الجنسية من نسختها الدولية التي تصدر فيها، وهي من يحظر قانونها نشر "ما ينافي الأخلاق أو يخدش الآداب العامة"، كما تحتل المرتبة 128 بين 180 دولة على مؤشر حرية الصحافة الصادر عن منظمة مراسلون بلا حدود الدولية.

الدولة التي لم تعلن قبولها للمثليين في كأس العالم 2022 إلا بعد انتقادات دولية لها بسبب موقفها منهم؛ الذي كان يمثل تهديدًا بسحب تنظيمه منها، هي نفسها التي ثارت ضد مقال بقلم مثلي جنسيًا نشره موقعًا مازال محجوبًا هناك حتى اليوم.

الغريب أنه رغم هذه المرونة القطرية، وإن كانت برجماتية، فإن أبو تريكة، وحين تحدث في تصريحاته هذه عن كأس العالم، لم ينس التأكيد على ضرورة أن "يحترم القادمين إليه عاداته وتقاليده".

.. وله أنصاره 

كل هذا في قطر. فماذا عن مصر؟ الأمر واضح وبسيط. فرغم كل ما بين الدولتين من مشاحنات سياسية وتلاسنات إعلامية، فإن الاتفاق بينهما في هذه القضية، موجود بوضوح. وبصورة سيعجز معها حتى كارهي قطر من اعتبار ما خرج عبر شاشتها "إرهاب"، كما هو معتاد في أغلب التعاملات مع هذا البلد المستضيف للإخوان الهاربين من مصر.

فالسلطات المصرية تستهدف مجتمع المثليين والترانس، حسبما رصدت مؤسسات حقوقية دولية. كذلك. ووفقًا لقانون مُستمد من مبادئ الشريعة الإسلامية، حسبما نصّ الدستور المصري، ومع أن القانون لم يُذكر فعل "الشذوذ" صراحة، إلاّ أن السجن كان حاضرًا كعقوبة بموجب مواد في قانون العقوبات ضد "الفسق" و"الآداب العامة"، بجانب تعامل النيابة معه باعتباره "انحراف"، حسبما كان في قضية "علم قوس قزح" التي انتهت بإخلاء سبيل الناشطة سارة حجازي، قبل أن تُنهي حياتها.


اقرأ أيضًا| هل كان هذا وقته يا سارة؟

 

تصميم: يوسف أيمن- المنصة

ومجتمعيًا، مصر احتلت المرتبة 74 من بين 79 دولة فيما يتعلق بقبول مجتمع المثلية في استطلاع عالمي أجراه المشروع البحثي المعروف باسم استطلاع القيم العالمية، للتعرف على رأي الآلاف في مختلف البلدان بين عامي 2017 و2020 حول "المجموعات التي لا يرغبون في وجودها كجيران"، ومن بين تسع خيارات، كان المثليين اختيار المصريين بواقع 86% كمجموعة لا يرغبون في وجودها.

فهل سيقيم أبناء هذا المجتمع أي اعتبار للرأي العلمي الذي أكدته منظمة الصحة العالمية قبل عقود أن المثلية أمر طبيعي وأحد حقوق الإنسان؟

ما المنتظر من مجتمع تنظر أغلبيته لمن هم على نفس ديانتهم لكنهم يتبعون مذهبًا آخر باعتبارهم "كفرة"؟ ما المنتظر منهم حيال "شواذ"؟ هؤلاء الذين هاجمهم أبو تريكة شبه المُقدس لدى آلاف من أبنائه، ممن لن يروا أي كراهية في تصريحات أبو تريكة وبكل ما فيها من استعلاء ونظرة دونية للمثليين.

بمقارنة بسيطة بين حقوق الإنسان وبين ما قاله أبو تريكة الغاضب عن لزوم التصدي لـ"عالم مابقتش بتختشي، عكس الإنسانية، بتهين نفسها رغم تكريم الله والأديان لها"، سنجد ردّ الفعل المجتمعي واضحًا للغاية تجاه المثليين.

المجتمع المصري وقوانينه ليسا وحدهما في صف أبو تريكة، فهناك الأهم، كونه من أبناء الفئة الأغلب، المُسلمين، الذين تحدث بلسانهم وبآيات من كتابهم المُقدّس عن "الشذوذ" و"قوم لوط".

وما يدعم أبو تريكة أيضًا، بجانب الأغلبية الدينية ونصوص العقوبات والفكر المجتمعي، هو الإعلام، الذي تحتل به مصر، ومن بين 180 دولة، المركز 166 على مؤشر الحريات نفسه الذي سبقتها في قطر بـ38 مركزًا.

فالرأي الذي خرج عن أبو تريكة سرعان ما انتشر في وسائل الإعلام المصرية بعباراته نفسها، بل وأُتبع بتقارير أخرى حول "الشذوذ"، تلك الكلمة التي تستخدمها صحف ومواقع إلكترونية لا تعترف بـ"المثلية".

بعد كل هذه الدواعم، هل من المنتظر أن يوجه أي انتقادات أو قول يُعارض حديث "الخلوق" أبو تريكة؟ من سيغامر باسمه وسُمعته بمواجهته وهو لم يفعل أكثر من "نهي عن المُنكر" ودفاع عن أمور ليست سوى "قيم ومبادئ". نعم هي بمعايير ومقاييس حقوقية وقانونية، ومن قبلهما إنسانية، ليست إلاّ خطاب كراهية.  لكنها ستصبح "رأيًا" كما رأت الأغلبيات، الدينية والمجتمعية والإعلامية.

وهذا بعض من مميزات وامتيازات أن تلعب مع الفريق الأقوى.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.