تصميم: يوسف أيمن- المنصة

أطفال الاحتضان: كيف يختار الصغار أمهاتهم؟

منشور الثلاثاء 15 مارس 2022

 

في جانب من الحجرة يجلس زياد، لا يعرف أين يضع ملابسه أو كتبه المدرسية، أو كيف يقابل عبارات ترحيب سكان المنزل به. إنه في مكان يدخله للمرة الأولى، فهذا بيته الجديد.

عند احتضان رضيع، يكون التعامل معه أسهل نوعًا ما، ولكن وضع زياد يختلف كثيرًا، فصاحب السنوات السبع لم يعرف بيتًا غير دار الأيتام التي أقام بها سنون حياته، حتى بدأ فصل جديد من حياته مع أبوين لم يلداه، لكنهما اختاراه ليكون ابنهما بالاحتضان. 

رباب، الأم، حاولت خلال الفترة الأولى احتواء زياد نفسيًا كما وصفت، تشعره بأنها هي من تحتاج له "مكنتش بتكلم كتير علشان ميحسش بضغط، بس كنت بقوله إني محتاجاه وإني فرحانة وهو معايا وإني مش زعلانة علشان هو ساكت أو مش بيتفاعل معانا، وده لما سألت في أماكن مخصصة للتوعية بالاحتضان كانوا بيأكدوا لي إنه مع الوقت الجدار اللي بيني وبينه هيتشال ونتعامل من غير حواجز، كأي أم وابنها، والحقيقة إن الحاجز ده مكنش عنده هو بس، كان عندي أنا كمان، لأن زي ما هو بقى ليه بيت جديد، فأنا لأول مرة يكون ليا ابن".

اكتشف رباب صبحي صاحبة الـ31 سنة إصابتها بمرض بطانة الرحم المهاجرة، التي يصعب معها الحمل، ليصبح  أمامها خيار الحقن المجهري الذي فشل أيضًا بعد تجربته مرتين، لتفقد الأمل في أن تصبح أمًا، فاقترح عليها زوجها كفالة طفل "عمري ما فكرت في التبني أبدًا ولا جه في بالي، ولما فاتحني فيه حازم جوزي رفضته لأني متخيلتش إني هربّي طفل مخرجش مني، وقفلنا على الموضوع، وهو كان بيفتحه أكتر من مرة، وأنا رافضة، لحد مطلب مني نروح ملجأ حتى نشوف الأطفال نلعب معاهم شوية كنوع من التغيير، ووافقت بس وأنا مش مقتنعة خالص".

وافقت الزوجة على الذهاب لأحد دور الأيتام بصحبة زوجها، لم تكن نيتها احتضان طفل، كما أنها لا تهتم بتلك المصطلحات كما قالت "مبيفرقش معايا مصطلح زي كفالة ولا تبني ولا غيره، مكنش فاهمة الفرق بينهم ومش مهتمة أصلًا، روحت بس أشوف الأطفال".

في دار الرعاية وجدت رباب عشرات الأطفال بأعمار مختلفة، أطفال رضع وأكبر قليلًا، منهم من يبكي ومنهم من يلهو، ومن يجلس في جانب وحيدًا عن زملائه "مكنتش عارفة ممكن أكلم مين أو أتفاعل مع مين، وزعنا على الولاد شوية حلويات وقعدنا شوية وروّحنا، وجوزي قالي نروح تاني يوم بعد الشغل، نكسب ثواب علشان هما أيتام، وروحنا فعلًا وحكيت لمشرفة الدار عن محاولاتي في الحمل، وهي كمان عرضت عليَّ التبني، ملقتش رد أرده". عادت رباب منزلها وهي تفكر فيما طلبه منها زوجها وأثارته مشرفة الدار.

ربما ما عانته رباب في عمليات جراحية والبحث عن تدخل دوائي للإنجاب طوال سنوات جعلها تعدل عن الفكرة، ولكن رؤيتها للأطفال في دور الرعاية جعلها تفكر في الموضوع مجددًا "الموضوع مكنش راح من بالي أصلًا، أنا كنت هموت وأبقى أم"، لتعود للدار مجددًا ليس للعب مع الأطفال كالمرة السابقة أو إهدائهم الحلوى، إنما للبحث عن طفل لها.

الزوج توقع أن تتجه زوجته لاحتضان رضيع يكبر معهما لكنها اتجهت لزياد البالغ سبع سنوات "بصراحة هو صعب عليَّ لأنه كان دايمًا وحيد، وكمان أنا مريت بعمليات كتيرة، حسيت إني ممكن أهتم بيه أكتر لو قللت الجهد اللي ممكن يكون مع طفل أصغر وأقدر أزوده حنان وحب، وقدرت أقنع جوزي وهو مكنش فارق معاه غير وجود طفل في البيت".

الليلة الأولى

من الدار للمنزل لم ينطق زياد بأي كلمة لأسرته الجديدة، أمسكت الأم بيده ليصعد معها السلم، ودخل معها الغرفة التي أعدتها له "كنت فاهمة إنه صعب يقولي يا ماما في الأول، وبصراحة أنا كمان الوضع كان غريب عليَّ، وهو لأنه كبير وفاهم الوضع كان أصعب، فاتكلمت معاه وفهمته إن احنا هنبقى أسرة جديدة وزي ما هو محتاجني أنا محتاجاه".

تركت رباب زياد ينام بمفرده في الغرفة التي أعدتها له، وفي الصباح انتظر حتى دخلت إليه، كان قليل الكلام والحركة، ولكن لم يزعجها الأمر، فزياد يعرف أنه طفل محتضَن، وأن رباب وحازم زوجها ليسا والديه.

لم تسع الأم للقراءة عن تلك المسألة أو التعلم كما قالت، ولكنها تركت التجربة الواقعية تولي مهمة تعليمها التي أشركت فيها الطفل أيضًا "زياد فضل شوية مش عارف يقولنا إيه، ومش عارف يقول في المدرسة إن بقى ليه أب وأم ولا لأ، لأنه طفل كبير وبقى ليه شخصية، وأنا محبتش أفرض عليه حاجة".

بعد شهر نطق زياد بالكلمة التي انتظرتها رباب "ماما"، والتي خرجت منه تلقائية بعد التعود على البيت والأسرة، ومع الكلمة الجديدة طلب منها أيضًا النوم بجواره ليلًا، "مش فارق معايا تعريف الناس إذا كان ابني ولا لأ، ولو اتحطينا في موقف زي ده بسأله هو يحب يقول إيه، وهو لحد دلوقتي مش بيحث يقول للغرب غير إنه ابننا".

وزارة التضامن الاجتماعي حددت شروطًا للكفالة، ووفقًا لبيان صادر عن وزارة التضامن الاجتماعي في يوليو/ تموز الماضي، فإن عددًا الطلبات المقدمة للوزارة من الأسر الكافلة تخطت 2500 طلب منذ يونيو/ حزيران 2020، وهو على حد وصفها أكبر عدد طلبات كفالة قُدم في سنة واحدة في تاريخ الوزارة.

https://www.facebook.com/plugins/post.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2Fdhrougyomna%2Fposts%2F4454074861369168&show_text=true&width=500

الأوراق المطلوبة لاحتضان (كفالة) طفل. من مؤسسة "الاحتضان في مصر"


إقبال الأسر على الاحتضان في تزايد مستمر، بحسب يمنى دحروج، مؤسِسة مبادرة "الاحتضان في مصر"، التي دشنتها عقب احتضان طفلتها ليلى في 2018. وهذا الإقبال يؤكده محمود شعبان مدير الإدارة العامة للأسرة والطفولة بوزارة التضامن الاجتماعي، مضيفًا للمنصة أن زيادة الأعداد سببها زيادة الوعي، بجانب عرض تجارب لأسر حاضنة عبر منصات التواصل الاجتماعي، وكذلك التسهيلات في إجراءات الكفالة حاليًا، ومنها حق النساء غير المتزوجات في الاحتضان، و تسمية الطفل باسم الأب والحصول على لقب العائلة.

يمنى صاحبة المؤسسة التي تلقبها بالبيت الكبير الذي يقدم النصائح للمقبلات على تلك التجربة، ومنهن رباب، بدأت التفكير في تدشين صفحة أو مجموعة صغيرة على فيسبوك للرد على أسئلة المتابعين في 2018، عن طرق وإجراءات الكفالة، أطلقت عليها "الاحتضان في مصر" لتصبح مؤسسة مشهرة في 2021، كانت مهمتها في البداية نشر الوعي حول التجربة التي يخشاها كثيرون، مثلما كانت يمنى من قبل "أنا كنت برد على أسئلة الناس اللي كنت بدور على إجابات ليها من قبل كده، وعلى رأسها هو انتي هتقولي إن الطفل ده مكفول ولا ابنك؟ طيب هتواجهي المجتمع ازاي؟".

أمهات عازبات

المبادرة التي بدأت بمتابعة 300 شخص، أصبحت مؤسسة يتابعها 160 ألفًا، ويعمل بها 33 شخصًا بدوام كامل، ما بين رد على استفسارات، وإنتاج قصص مطبوعة للأطفال عن الاحتضان، وتقديم المشورة طبية والنفسية من متخصصين.

تتلقى يمنى يوميًا استفسارات من نساء متزوجات وغير متزوجات أيضًا، ومنهن هبة مصطفى أو "أم مهادا" كما تحب أن تُنادى، والتي تختلف قصتها قليلًا، فمنذ سنوات وتقدم هي وأسرتها كفالة مادية للعديد من دور الرعاية للأطفال، حتى عرضت ذات يوم عقب تخرجها في الجامعة كفالة طفل مقيم في المنزل، فعارض أبواها الفكرة، لأنها لم تتزوج بعد، وفقًا للاعتقاد السائد بأنه لا يمكن للمرأة غير المتزوجة كفالة طفل كما روت "الناس هتقول عليَّ إيه، ده اللي بيتقال، وساعتها كمان مكنش عندي دخل يساعدني أكفل طفل أو تنطبق عليَّ الشروط".

مرت سنوات وعدلت هبة عن فكرتها، واكتفت بالمساعدة المادية للأطفال، حتى العام الماضي، ليظهر أمامها وهي تتصفح هاتفها المحمول منشورًا حول شروط الكفالة، لتجد أنه أصبح حاليًا لغير المتزوجات فوق الـ30 سنة الحق في الكفالة، لتعيد فتح الموضوع مع أسرتها مرة أخرى ويتجدد الرفض "حاولت أقنعهم وأرد على أسباب رفضهم واللي كان منها إنه حرام، فاتصلنا بدر الافتاء اللي قالت لهم إنه مش حرام، فدخلت على السبب الأهم عند ماما إن ده هيخليني مش هتجوز، فأقنعتها إنه وجود طفل معايا خير، والجواز برضه خير فمفيش حاجة منهم ممكن تعطل التانية".

بعد سبعة أشهر، تمكنت هبة من إقناع أسرتها بكفالة طفلة "بعد إلحاح ومفاوضات ونقاشات وافقوا، وبدأت أقدم والورق كله اتقبل بسرعة، لقيت بنوتة كانت 8 شهور، بصراحة مكنش في في الأول أي حاجة ناحيتها أنا اتشديت لها لأن ظروفها كانت صعبة لقتها في الدار بترضع ببرونة مايه، وهدومها مبلولة وطفلة تانية في الدار هي اللي بتغير لها، فقررت تبقى هي دي البنت اللي هكفلها علشان آخد ثواب، وبدأت في الإجراءات".

لم تجد هبة في نفسها الشعور الذي وصفته من قبل من خضن تلك التجربة "استغربت نفسي قوي أنا ليه مش حاسة بأي مشاعر، لحد ماكنت في وزارة التضامن بخلص الورق لقيت تليفون تاني من دار تانية بيقولوا لي إن في بنت عندها شهرين، فقلت ليه لأ؟ أشوفها. ورحت قبل ما أخلص ورق البنت الأولى، ومسكت البنت وهي عمرها شهرين لقتها بتضحكلي، استغربت قوي إزاي دي طفلة لسه مش عارفة أي حاجة بتضحك كده، وسألتها هو انت بتضحكيلي أنا؟".

خرجت هبة من الدار الثانية بمشاعر مختلفة عن الأولى، شعرت حينها إن البنت هي من اختارتها، وأخبرت شقيقها التي قررت رؤية الطفلة في اليوم التالي "لما روحنا تاني يوم البنت ضحكت برضه لأختي، ووقتها رضعتها من خلال كورس إرضاع بيمكّني أرضعها حتى وأنا مش أمها، ونامت في حضني، عرفت ساعتها إن ولادنا هما اللي بيختارونا".


اقرأ أيضًا: صنعتني النساء: أمهاتي اللانهائيات

 

لوحة الأمومة للرسام البولندي Stanislaw Wyspianski، المتحف الوطني في كراكوف ببولندا

اختارت هبة متابعة كورس الإرضاع، وفيه تتناول المرأة أدوية تحفيزية لاستدرار اللبن من الثدي، حتى تشعر الطفلة أنها ابنتها "الرضاعة خلت البنت بنتي فعلًا، نايمة على صدري وحاسة بأمان"، ليقطع حديثها دموع منهمرة تصفها بأنها مماثلة لدموع الليلة الأولى التي قضيتها مع ابنتها "مش لاقيه توصيف للدموع دي غير إنها إحساس إن في كائن بيتعلق بيَّ وأنا مسؤولة عنه، أنا وعدتها ساعتها في أول يوم إن محدش في الدنيا هيضايقها، ولا في حاجة هتبقى أهم منها".

تحافظ هبة على وعدها لمهادا "أنا بتعامل دلوقتي مع الناس اللي بتحبها بس، واللي مش مقتنع بوجودها بيخرج من حياتي حتى لو قرايب، ولو هتجوز فهيكون علشان يكون ليها أب مش علشان حاجة تانية". تبلغ مهادا الآن سنة وأربعة أشهر، تعيش مع أمها بالوعد الذي يربط بينهما.

الرفض الذي قابلته هبة من والديها لم يصمد أمام مهادا، التي استطاعت كسره في اليوم الأول لها بالمنزل "أول يوم ليها استقبلت بابا وماما بنفس الابتسامة، ونسيوا خالص إنهم كانوا رافضين الفكرة".

هبة ورباب أكدتا أن الأطفال هي من تختار أسرها، لتتبدل الحياة بعد الاحتضان، فمع أن هبة طبيبة نساء وتوليد، تذهب للطبيب وتطلب منه أن ينسى أنها طبيبة ويعاملها كأم تخشى على ابنتها، وتنتظر كبرها لتروي لها قصة احتضانها، من خلال كتاب تدون فيه كل ما يحدث معهما يوميا، وكل خطوة خطوها سويا، وهو الأمر نفسه مع زياد الذي تلقبه رباب بـ"أول فرحتها"، ولم يعد اليوم يشعر بالغربة بعد مرور ما يقرب من ثلاث سنوات، وفي في نفس الغرفة التي كانت يجلس بها وحيدا مرتبكًا، تقف رباب تطلب منه ترتيب أغراضه وملابسه عقب عودته من المدرسة، فيهرب من طلباتها وهو يتحرك بحرية في أرجاء المكان، متعللًا برغبته في النوم أو الطعام، فتذهب لتعد له ما يحب من مأكولات، بعد أن أصبحت تعرف عن ظهر قلب ماذا يحب وماذا يكره.