تصميم: يوسف أيمن- المنصة

نهاية الكاريكاتير: السخرية لا تناسبها الأسقف المنخفضة

منشور الأربعاء 19 يناير 2022

 

على هامش تأبين رسّام الكاريكاتير جمعة فرحات، رئيس الجمعية المصرية للكاريكاتير (24 أبريل/ نيسان 1941- 24 سبتمبر/ أيلول 2021)، في معرض جماعي انعقد في ديسمبر/ كانون الأول 2021 بعنوان "وداعًا فارس الكاريكاتير" في بهو مؤسسة الأهرام بالقاهرة، جرى إشهار "الجمعية العربية لفنون الكاريكاتير" بحضور مصري وعربي كبير لفناني الكاريكاتير من سائر الأقطار.

وينطوي مانفستو إطلاق الجمعية الوليدة على الكثير من المخططات والأحلام العريضة، على رأسها: جمع شمل الفنانين العرب، والتقريب بين جمعيات الكاريكاتير المحلية المتناثرة في شتى الدول تحت مظلة واحدة، وتعزيز التعاون المثمر المدروس بين التيارات والثيمات الفنية العربية، والنهوض بفن البهجة والسخرية والانتقاد، والتصدي لأسباب تراجعه خلال السنوات الأخيرة، والسعي بقوة إلى انتشاله من تعثّره وركوده، واستعادة دوره وتأثيره كنبض للشعوب وفاكهة لوسائل الإعلام، مثلما كان في عصور نهضته وازدهاره.

وفي حقيقة الأمر، كما لا يخفى على متابعي المشهد وما يتضمنه من عشرات المعارض والكرنفالات الجماعية المنعقدة خلال الفترة الماضية فعليًّا وافتراضيًّا "أونلاين"، فإن مثل هذه الأهداف البرّاقة، وغيرها، تعكس شعارية ودعائية ومجافاة للواقع البائس ومبالغة فيما هو مأمول من تأسيس هذه الجمعية، التي لا تعدو أن تكون خطوة إجرائية تنظيمية لما هو قائم، حيث إن التعاون بين جمعيات الكاريكاتير العربية بعضها ببعض، كان جاريًا ومتحققًّا بشكل ملحوظ على الأرض، وأسفر عن إقامة معارض عربية كثيرة مشتركة خلال السنوات الأخيرة، من دون أن يسهم ذلك في تضميد جراح الكاريكاتير، وتخفيف أوجاعه، وإضاءة مصابيحه المطفأة.

لكن لعله من المثمر أن يصاحب إطلاق أهداف "الجمعية العربية لفنون الكاريكاتير" فتح الباب واسعًا أمام تساؤلات عميقة متشابكة بشأن الأزمات الحقيقية للكاريكاتير المصري والعربي في اللحظة الراهنة، وما الذي يمكن أن تبذله هذه الجمعية الجديدة من جهود مغايرة وتنجزه من أفكار مبتكرة، إزاء الفن الذي بات مهددًا بالقتل والانقراض؟

زخم حدّ الضجيج

من الناحيتين؛ الكميّة والتنظيميّة، وعلى الصعيدين؛ الرسمي والأهلي، فإن معارض الكاريكاتير المصرية والعربية، الفردية والجماعية، في حالة زخم حدّ الضجيج، فلا تخلو الجاليريهات والقاعات الحكومية والخاصة من معارض متتالية للكاريكاتير على مدار العام، إلى جانب المعارض الرقمية المنتشرة في فضاءات الإنترنت.

كما أن الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية وصفحات السوشيال ميديا وغيرها تضخ جديدها باستمرار في مجال رسوم الكاريكاتير للمبدعين المنتمين إلى أجيال متعاقبة، بالإضافة إلى تنامي المعارض الاستعادية للفنانين الروّاد والطليعيين، من الراحلين والأحياء، من أمثال صاروخان وحجازي وبهجت عثمان وجورج بهجوري وتاج وطوغان ورخا ومحمد حاكم وغيرهم.

المشكلة الجوهرية تكمن ببساطة في الكيف، الأدائي والتعبيري والجمالي، بمعنى أن التراجع في طبيعة فن الكاريكاتير ذاته، وماهيّته، نظرًا لأسباب تخص الفن المجرّد ونظرياته وجمالياته، وملابسات وشروط أخرى تتعلق بالظروف المحيطة والمناخات السائدة، بشكل عام، لاسيّما تضاؤل مساحة الحرية، التي هي روح فن الكاريكاتير، أكثر من أي فن آخر.

هي معارض كثيرة حقًّا، تنطلق هنا وهناك، لكنها منزوعة الدسم، خصوصًا في ميدان الكاريكاتير السياسي، حيث لم يعد الكاريكاتير فن التمرد والمغامرة والمشاكسة والانفلات والجرأة والغوص تحت الجلد وكشف سلبيات المجتمع والإفصاح عن هموم المواطنين والانحياز لهم ضد كل صور التسلط، والدعوة إلى الإصلاح والتغيير (كما في عصوره الذهبية ولدى مبدعيه الرواد)، وذلك بعد انحسار هامش الحرية في مصر والعالم العربي عمومًا إلى أدنى حد، وفرض القيود والقوانين على الصحف الورقية ومنابر النشر الإلكتروني وحتى صفحات السوشيال ميديا، وملاحقة المبدعين والتضييق عليهم رقابيًّا وأمنيًّا.

ومن ثم، جرى استئناس فنون السخرية الشرسة وتحويلها إلى فنون للضحك "الملتزم" والمرح "المشروط" والتعبير عن المناسبات والمواقف الأسرية مثلًا والاجتماعية ومفارقات الحياة اليومية وما إلى ذلك (خارج دائرة الخطر). فهي باتت فنونًا مقلّمة الأظافر، غير قادرة على المكاشفة والتصدي للأوضاع الخاطئة السائدة بصوت عالٍ مثلما كانت، وبالتالي فإنها فقدت أبرز مخالبها وخصائصها وسماتها، ويتضح ذلك من خلال الموضوعات "الآمنة" بكل معنى الكلمة، التي تدور حولها عناوين المعارض واللوحات، وإن رُفعت كلمة "لا" في بعض الرسوم، فإنها تكون "لا" للتحرش مثلًا، أو "لا" للتنمر، أو "لا" للغلاء، مع عدم تجاوز تلك الأسقف. وحتى المعارض الاستعادية للروّاد، يجري فيها الانتقاء بشكل مفرط في الحذر، وفلترة الأعمال المختارة بعناية رقابية، ووصاية فوقية.

معارض "احتفالية"

هي مناسبات متنوعة، متعددة، لكنها لا تعدو أن تكون احتفالية، فلا تحمل انتقادات حادة، ولا قضايا جادة، في أغلب الأحوال، ولا تُبرز فن الكاريكاتير في هيئته النقية وأبجدياته المكتملة. من ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، خلال الآونة الأخيرة، معرض "نجوم وكواكب" للجمعية المصرية للكاريكاتير في مركز طلعت حرب الثقافي (نوفمبر/ تشرين الثاني 2021)، التي اقتصر على بورتريهات المشاهير (نجيب محفوظ، أم كلثوم، محمد صلاح، الخ)، وموضوعات اجتماعية ساخرة. ومعرض "ضد الغلاء"، بالتعاون بين جمعية الكاريكاتير وجمعية "مواطنون ضد الغلاء" (ديسمبر 2021)، الذي انحصر في انتقاد ارتفاع الأسعار برسوم لفنانين عدة، منهم حسن حاكم وسمير عبد الغني وآخرون، ومعرض "المسحراتي" (أكتوبر/ تشرين الأول 2021) للفنان حسن فاروق، الذي تضمن موتيفات شعبية فكاهية، وبورتريهات كاريكاتيرية.

وكذلك، معرض "لوحات نادرة لصلاح جاهين" في بيت السحيمي بالقاهرة (يوليو/ تموز 2021)، الذي لم يتضمن من أعمال صلاح جاهين الشهيرة غير هزليات ورسوم مضحكة في إطار اجتماعي حول العادات والسلوكيات وانتشار الفقر وارتفاع الأسعار، متجاهلًا أعمال جاهين السياسية الجريئة، ومعرض "عيد الكاريكاتير" (ديسمبر 2021) في متحف محمود مختار بالقاهرة، بالتعاون مع قطاع الفنون التشكيلية، الذي ضم أعمال مائة رسّام كاريكاتير من الرواد الأوائل والفنانين المعاصرين، وكلها بلا استثناء في إطار كوميديا المواقف والاجتماعيات والبورتريهات، ومعارض تكريم الراحلين من أمثال محمد عفت وجمعة فرحات وغيرهما، التي دارت في مدارات إنسانية إلى جانب رسوم البورتريهات.

 

وهناك معرض "هي" النسوي لرابطة رسامات الكاريكاتير (مارس/آذار 2021)، الذي توقف عند قضايا المرأة من قبيل التحرش والتنمر وزواج القاصرات، وتناولت الرسامات من أمثال هويدا إبراهيم وهبة الطناحي ودينا عبد الجواد وغادة مصطفى وهيام عزت، وأخريات، مظاهر العنف ضد المرأة والقضايا الحقوقية، برعاية كيانات ومؤسسات نسوية، وظهرت الأعمال ذهنية صارخة، متمحورة حول الفكرة وتوصيل الرسالة المباشرة، مع إهدار المقاييس الجمالية والآليات التعبيرية والتصويرية، الأمر الذي بدا انتقاصًا من قيمة الفن بقدر كبير.

وهناك كذلك معرض "قضايا بعيون الفن الساخر" (يونيو/حزيران 2021) في جاليرى "إبداع" بالقاهرة، وعلى الرغم من أنه تضمن نماذج لنخبة من الرواد والطليعيين، من بينهم: رخا وطوغان ورجائي ونيس وحجازي وناجي كامل ومصطفى حسين وغيرهم، فإنه كالعادة انحصر في مجالات اقتصادية واجتماعية، فلم تر "عيون الفن" غير مسائل تعدد الزوجات والأسعار والتعليم وسوء حالة المرافق العامة وما إلى ذلك. وهناك أيضًا معرض رسوم حرب أكتوبر 1973 (أكتوبر 2020) بمشاركة حجازي وطوغان وصاروخان ومحسن جابر ومصطفى حسين وغيرهم، ومعرض رسوم ثورة 1919 الجماعي الاحتفالي، ومعرض رابطة رسامات الكاريكاتير بمكتبة القاهرة الكبرى بعنوان "فلسطين عربية أبدية" (يونيو 2021).

"تحت السيطرة"

كما تكرر انعقاد "الملتقيات العربية الدولية للكاريكاتير" حول ثيمات ولافتات ومجالات متنوعة، كلها "تحت السيطرة" بالضرورة، من قبيل: السخرية من العالم الرقمي الذي تحكمه الآلة والذكاء الاصطناعي، والتهكم على القيم التسليعية والمادية، والانتصار للكتاب كرمز للثقافة الأصيلة أمام هجمة التكنولوجيا. وكذلك، إحياء المناسبات الشعبية والدينية مثل المولد النبوي وشهر الصيام وخروف العيد، والتندر على وضعية البشر تحت وطأة كورونا والعزل الاجتماعي الإجباري، وأمور من هذا القبيل، بمشاركة فنانين مصريين وعرب، منهم المصريون: فوزي مرسي وخالد صلاح وسمير عبد الغني والسعودي أيمن الغامدي، والإماراتي خالد الجابري، وعمرو عكاشة، الذي كان له باع في الكاريكاتير السياسي الجريء في أوقات سابقة، كما في رسومه التي عارض فيها سيناريو توريث الحكم في عام 2009 في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، لكن أعماله الأخيرة تركزت حول القوالب الاجتماعية.

وفي الفلك ذاته، دارت أغلبية المعارض المحلية والعربية، في سائر الأقطار، كما في معرض جمعية الكاريكاتير الكويتية الأحدث (ديسمبر 2020) في إكسبو  دبي"، الذي تمحور حول معالجة القضايا الاجتماعية، ومعرض الفنانات الأردنيات (مايو/ أيار 2021) حول المرأة والطفولة وفلسطين بمشاركة غادة الجرمي وروان حماد ومرح حسونة ورؤى زيتون وأخريات.

أما ذروة تجليات تعمّد إخراج فن الكاريكاتير عن مساره الطبيعي، وتفريغه من أداء دوره، فتتضح عبر شواهد أكثر حدة وفداحة. من ذلك، عقد معرض بعنوان عريض للكاريكاتير السياسي، هو معرض "بهاجيجو وشركاه"، في جاليري "أوبونتو" بالقاهرة (يناير/ كانون الثاني 2021)، وعلى الرغم من أنه تضمن أعمالًا لأيقونات الكاريكاتير السياسي والانتقاد الحاد للسلطة، على رأسهم: بهجت عثمان وجورج بهجوري وطوغان وتاج ومحمد حاكم ومصطفى حسين وغيرهم، فإنه جاء معرضًا متحفظًا باهتًا بغير أنياب ومخالب، إذ جرت استعادة لوحات هؤلاء الفنانين بعد فلترتها وتصفيتها وتنقيتها من الإحالات والإشارات الجريئة والجادة، ليكون معرضًا للاجتماعيات والفكاهة والضحك من أجل الضحك.


اقرأ أيضًا: لؤي حازم: كوميديا "الحدود" محاولة للخروج من إحباط الربيع العربي

 

لؤي حازم يتصفح أول الأعداد الورقية للحدود- خاص للمنصّة

والمثير للشفقة أن المعرض الذي حمل عنوانه اسم بهجت عثمان "بهاجيجو" تجاهل تمامًا أعمال بهجت الشهيرة ومؤلفاته ذائعة الصيت مثل "بهجاتوس رئيس بهجاتيا العظمى"، و"الدكتاتورية للمبتدئين"، و"حكومة وأهالي"، و"ضحكات مجنونة جدًّا"، وغيرها من اللوحات والأعمال التي كان ينتقد فيها بحدة مملكة "بهجاتيا العظمى" وحاكمها الطاغية.

ومن الشواهد بالغة الفداحة كذلك على فقدان البوصلة تمامًا، إقامة معارض وكرنفالات ومناسبات كاريكاتيرية تحت مظلة "الكاريكاتير السياسي"، لكنْ بهدف أن تكون تأييدًا للسلطة وترويجًا للقرارات الحكومية ومهاجمة المحتجين والمعارضين، وفي هذا قلبٌ لتاريخ الكاريكاتير ومعناه، الذي هو نبض الشارع وصوت التمرّد والانفلات.

بين ذلك معرض الجمعية المصرية للكاريكاتير (أكتوبر2021)، لتأييد جهود الدولة وممارساتها، ومواجهة التيارات الهدامة، والمخرّبين والمتطرفين، والتصدي للإعلام البديل المُعادي للوطن.وفي السياق ذاته، انطلقت مسابقة بعنوان "الكاريكاتير في مواجهة الإعلام المُعادي" (يناير 2021)، للمحترفين والهواة على السواء، موضوعها لوحات كاريكاتير تتصدى لمن يستهدفون الدولة ومؤسساتها ورموزها من الأعداء والإرهابيين وذوي المصالح.

هل مات فن الكاريكاتير في مصر والعالم العربي؟ وفق تلك التوجهات، الساذجة والمغرضة، فإنه انزوى إلى ركن التحنيط بالفعل، وليس بحاجة إلى تدشين جمعية عربية للكاريكاتير، ما دامت القيود المفروضة والقوى المتحكمة والأجواء المحيطة على هذا النحو.

أما سبل النهوض الفعلية، فإنها تتبلور باختصار في استعادة الكاريكاتير ذاكرته غير البعيدة، كفنّ نضالي حر، يرفض الإسكات، ولا يقبل التوجيه، وتمسكه بأدواته التعبيرية والفنية والجمالية كصوت للضمير الجمعي في الأساس. ومهما تكن الجهود الفردية قليلة أو نادرة في هذا المضمار، فإنها بتلاقحها معًا ستكون أكثر إثمارًا من مشروعات مؤسسية فارغة تتوقف عند الكم، وتتجاهل التطوير النوعي والتثوير الكيفي.

كذلك، فمن الضروري استفادة الكاريكاتير الحديث أكثر من ثورة النشر الرقمي، التي تسهّل له تخطي كل الحدود واللغات، خصوصًا في حالة تأسيس مواقع ومجلات إلكترونية متخصصة في فنون الكاريكاتير.

وعلى مخططات التطوير أن تتماسّ كذلك مع مواكبة فنون أخرى صارت أكثر مصداقية وأقرب إلى ذائقة الشعوب، مثل الكوميكس والجرافيتي، وهي الفنون المتمردة التي تفاعلت مع الحراك الجماهيري، وعكست نبض المحتجين في الميادين، في مرحلة الثورات العربية، وما بعدها، واستطاعت أن تسحب البساط لتكون وقود التحدي والانفلات والتفجّر والانتفاض والشغف والرغبة في التغيير وتخطّي الخطوط الحمراء، إلى جانب المتعة الفنية والإدهاش والتجاوز بالمعنى الجمالي والتخييلي، فهل تتبنى "الجمعية العربية لفنون الكاريكاتير" هذه المنطلقات؟