الصورة من Pixabay - برخصة المشاع الإبداعي

كيف يستطيع دماغك البشري القفز بين اللغات؟

منشور الخميس 20 يناير 2022

في القرن التاسع عشر، أتقن كاردينال إيطالي يُدعى جوزيبي كاسبار الحديث بنحو 38 لغة، فأصبح متحدثًا رسميًا لبلاده يستقبل الوفود المختلفة، نظرًا لقدرته الهائلة على التواصل. ربما يكون هذا الكادرينال مذهلًا، لكن هناك شخصًا آخر يتحدث 58 لغة، هو هارولد ويليامز الصحفي والمحرر في صحيفة التايمز.

عام 1918 حضر ويليامز مؤتمرًا لعصبة الأمم بمدينة جنيف في سويسرا، وكان يستطيع التحدث مع كل وفد حسب لغته بطلاقة واضحة. ورحل عن عالمنا عام 1928. لكن جاء شخص آخر عبقري في اللغات أيضًا، إنه السيد زياد يوسف فزة، الذي ولد في ليبيريا عام 1954 وترعرع في لبنان، وقد أجاد التنقل بين 59 لغة. 

حسنًا، ربما يكون هذا الثلاثي (أقصد جوزيبي وهارولد وزياد) عباقرة حقًا في اللغويات، لكن هذا يفتح بابًا لكثير من الأسئلة فيما يخص قدرات الدماغ البشري على معالجة اللغات، وربما يحفز بعض الناس الذين يسعون لتعلم لغة ثانية، فالأمر ليس بهذه الصعوبة. لكن قبل ذلك، هناك سؤال مهم، هو:

لماذا يجد بعض الناس صعوبة في تعلم اللغات؟

إذا كنت تكافح لتعلم لغة جديدة، فابتسم لست وحدك، يجد العديد من الناس صعوبة بالغة في تعلم لغة جديدة مختلفة عن اللغة الأم، وتتنوع الأسباب وراء ذلك، منها: 

التهيؤ المسبق للدماغ

نعم، لدى بعضنا قدرات معرفية تهيؤهم لتعلم لغات جديدة بصورة أفضل من الآخرين، ما يفسر سبب تألق بعض العباقرة مثل السيد هارولد، وهذا ما تظهره دراسة نُشرت في The Journal of Neuroscience عام 2016، شارك فيها عدد من الأشخاص يتعلمون اللغة الفرنسية، واتضح أنّ الذين لديهم اتصال وظيفي أقوى لكامل الدماغ هم الأكثر قدرة على التعلّم عن غيرهم، لكن ذلك لا يعني ألا تحاول إذا لم تكن لديك تلك القدرة. 

عدم قدرة على التعلّم

يتعامل كثير من البالغين مع اللغة على أنها معضلة تعوق قدرتهم على التعلم، خاصة عند البالغين الذين يميلون للتحليل أكثر، بعكس الأطفال، الذين يمتلكون قدرة أكبر منهم على تعلم اللغات. لذلك يجب على كل شخص بالغ يريد تعلم لغات جديدة أن يتعامل معها كمهارة مهمة. بالطبع هناك صعوبات أخرى متعلقة بالصحة العقلية والنفسية وما إلى ذلك، رغم هذا، لا بأس من المحاولة مرارًا وتكرارًا، ولكن.. 

كيف يعالج الدماغ اللغة؟ 

هناك منطقتان في الجزء الأيسر من الدماغ (تكونان في الجزء الأيمن لدى الأشخاص العُسر) تعملان على معالجة اللغة وإدراكها، وهما: منطقة بروكا (Broca) ومنطقة فيرنيك (Wernicke)، لكن كيف يحدث ذلك؟ حسنًا، لنرى قصة كل منطقة.. 

 

صورة توضح موضع منطقتي بروكا وفيرنيك في الدماغ.

منطقة بروكا

ليس من الضروري أن تكون فصيحًا في اللغة مثل المتنبي مثلًا، يكفي أن تكون شخصًا عاديًا يتحدث جيدًا ويدرك الأخطاء النحوية والإملائية التي قد تظهر أمامه. هل تعلم أنّ هذا يحدث بسبب منطقة بروكا؟ نعم، هذا صحيح. تعرف عليها أكثر..

اكتشفها الطبيب الفرنسي بول بروكا في القرن التاسع عشر وسميت باسمه عام 1861، وهي تقع في الجانب الأيسر من الدماغ. تتميز منطقة بروكا بقدرتها على فهم اللغة وصياغة الجمل بسلاسة، واتضح أنها تُحدث نشاطًا متزايدًا عندما يقع خطأ نحوي، ما يعني أنها مسؤولة عن اصطياد الأخطاء النحوية، كما أنها تتحكم في حركة عضلات الجهاز الناطق واللسان والشفتين والحنجرة والبلعوم. (أعتقد أنّ هذه المعلومة مهمة للمحررين والمدققين اللغويين).

لكن مهلًا، هذا ليس كل شيء؛ إنّ حدوث أي خلل في هذه المنطقة (في حالات الحوادث مثلًا)، يسلب الشخص القدرة على التعبير عن نفسه، حتى إذا استطاع فهم كلام المُتحدث، إنه عاجز عن الرد أو تكوين جملة مفيدة. 

منطقة فيرنيك 

فقط تخيل نفسك لا تستطيع فهم شخص يتحدث أمامك بلغتك الأم التي كنت تتقنها بطلاقة. هذا ما قد يحدث عندما تُصاب هذه المنطقة بأي ضرر. 

تُسمى منطقة فيرينك نسبة إلى الطبيب الألماني كارل فيرنيك، الذي اكتشفها عام 1874، مفترضًا أنّ لها دورًا في إدراك الكلمات، أو بعبارة أخرى فك شفرة الكلمة وفهم معناها. وفي ستينيات القرن العشرين، جاء عالم الأعصاب الأمريكي نورمان جيشويند وتعمق أكثر في دراسة تلك المنطقة ووجد أنّ لها دورًا مهمًا في إدراك وفهم اللغة وبعض الخصائص الأخرى. 

من ذلك نخلص إلى أنّ اللغة تنشأ نتيجة تآزر هاتين المنطقتين، إحداهما تعالج اللغة والأخرى تساعدنا على إدراك معاني الكلمات. لكن هناك منطقة ثالثة مساهمة..

القشرة الحركية

انظر إلى غلاف أي كتاب حولك، سترى عنوانه واسم الكاتب ودار النشر وما إلى ذلك. بالتأكيد ستقرأ الكلمات بسهولة، لكن هل تساءلت لماذا تستطيع فعل ذلك؟ ذلك دور القشرة الحركية.

القشرة الحركية أقرب إلى شبكة عصبية تربط النصفين الأيسر والأيمن من الدماغ ببعضهما، فالجانب الأيمن يضم المراكز البصرية التي ساعدتك على رؤية الكلمات، ثم انتقلت هذه الصورة البصرية إلى مركزا اللغة (بروكا وفيرنيك) في الجانب الأيسر، وهناك تم فك شفرة الصورة وتحويلها إلى لغة مفهومة يدركها دماغك. طبعًا كل هذا يحدث خلال جزء من الثانية، أي بسرعة رهيبة، وهنا تبرز قدرات الدماغ الهائلة.

آلية عمل الدماغ عند التبديل بين لغتين

قد يظن بعض الناس أنّ المترجم الفوري الذي يترجم ما يسمع بسرعة ودقة ولغة سلسلة بسيطة هو شخص خارق للعادة، لكن الحقيقة أنّ دماغه مُدرب على هذا جيدًا. 

الإيقاف والتشغيل وما بينهما

هناك نشاط عصبي يحدث عند إيقاف لغة للانتقال إلى لغة أخرى مختلفة تمامًا. هذا ما كشفته دراسة أجرتها إستي بلانكو إلوريتا وآخرون، ونُشرت عام 2018 في مجلة PNAS

شاركت في الدراسة مجموعة من الذين يتحدثون لغتين، إحداهما الإنجليزية والأخرى لغة الإشارة الأمريكية (ASL)، واستخدموا تخطيط الدماغ المغناطيسي MEG، وهي تقنية تساعد في تصوير نشاط الدماغ. وطلبوا من المشاركين التبديل بين اللغتين، وكانت النتيجة التي أظهرها تخطيط الدماغ، أنه:

  • عند إيقاف تشغيل اللغة الأولى (Off): يزداد نشاط منطقة القشرة الحزامية الأمامية ACC، وقشرة الفص الجبهي الظهراني (DIPFC).
  • عند بدء تشغيل اللغة الثانية (On): لا يظهر نشاط واضح في نفس المناطق، أي أنّ الانخراط في لغة ثانية لا يُكلف الدماغ نشاطًا عصبيًا كثيرًا مثل في حالة إيقاف اللغة الأولى. 

 

الإيقاف والتشغيل - Pixabay

التنشيط الموازي 

الأشخاص الذين يتحدثون لغتين، تتمتع أدمغتهم بقدرة على تنشيطهما في الوقت نفسه، فيما يُعرف بالتنشيط الموازي، على سبيل المثال، إذا كنت تتحدث العربية والإنجليزية معًا، ماذا يخطر على بالك عند سماع كلمة "مرحبًا"؟ تلقائيًا سيُنشط دماغك كلمة "Hello" بالإنجليزية. وهكذا دواليك، ما يفسر قدرة المترجمين الفوريين على نقل الكلمات إلى اللغة الثانية خلال برهة من الزمن.

لأن للدماغ آلية تتجاهل انتقال اللغة

في بعض الأحيان، عندما أريد التلفظ بكلمة، أيًا كانت، قد يطرأ على ذهني المصطلح الإنجليزي أو الألماني أولًا، ثم يأتي المصطلح الموازي باللغة العربية. لكن العربية هي لغتي الأم، لماذا لم أفكر في الكلمة العربية أولًا؟ حسنًا، اتضح أنّ هذا أمرًا طبيعيًا، فقد يخلط الدماغ بين مختلف اللغات التي أجيد التحدث بها ويأتي بمصطلح يعبر عن المعنى المقصود، وذلك ببساطة لأن الدماغ لديه آلية توافقية لا ترى تحول اللغة. 

هذا ما أشارت إليه دراسة أجرتها سارة فيليبس ولينا بيلكانين، ونُشرت في 3 نوفمبر 2021 بمجلة eNeuro، وكان غرضها معرفة كيفية تفسير الأشخاص ثنائي اللغة للتعبيرات. شاركت في الدراسة مجموعة من المتطوعين المتحدثين باللغتين الإنجليزية والكورية، وركزت الباحثتان على قياس النشاط العصبي باستخدام تقنية تخطيط الدماغ المغناطيسي MEG لمراقبة ما يحدث عندما يشاهد المشاركون مجموعة من الكلمات والصور على شاشة الكمبيوتر. بعد ذلك، طُلب منهم تحديد مدى توافق الصور مع الكلمات، أي وضع الكلمات مع الصورة التي تعبر عنها. 

كانت الكلمات عبارة عن كلمتين أو زوج من الأفعال، وقد تكون من نفس اللغة أو من لغتين مختلفتين. وأظهرت النتائج أنّ أدمغة ثنائيي اللغة تستخدم نفس الآلية العصبية لتفسير التعبيرات، تمامًا كما تفعل أدمغة أحاديي اللغة، ما يعني أنّ الدماغ لديه حقًا آلية لا تكتشف تغيّر اللغة. 

لكن ما تأثير تعدد اللغات على الدماغ البشري؟ 

 

لغات متعددة - Canva

تنتشر العديد من النصائح التي تحفز على تعلم لغات مختلفة، لأسباب متنوعة، قد تكون للحصول على وظائف مرموقة أو فرص أفضل في الحياة عمومًا، لكن هناك أسبابًا علمية أخرى أكثر اقناعًا، ومنها:

تعزيز أداء الدماغ 

لا شك في أنّ أداء أدمغة الأشخاص ثنائيي أو متعددي اللغة مميز عن أداء الأدمغة أحادية اللغة، ويظهر ذلك جليًا في فترة الشيخوخة، حيث من الطبيعي أن تتراجع القدرات، لكن في حالة الدماغ المتعلمة أكثر من لغة، فالأمر يختلف، وهذا ما أظهرته دراسة نُشرت في عام 2014 بمجلة Annals of Neurology، بقيادة دكتور توماس باك، وهو عالم أعصاب في جامعة أدنبرة. قارن أداء 853 مشاركًا في عام 1947 عندما كانوا أطفالًا في سن الـ 11، ثم أعاد اختبارهم في عامي 2008 و2010، أي عندما كانت أعمارهم في بداية السبعينيات، وخلص إلى أنّ أولئك الذين اهتموا بتطوير مهاراتهم وتعلموا لغات أخرى، كان أداؤهم أفضل.

تعزيز مهارات التفكير والذاكرة عمومًا

عند تعلم لغة جديدة، نطلع على ثقافات أهلها الأصليين، فهذا يساعد في إدراكها بصورة أفضل، وبالتالي يصبح المُتعلّم أكثر انفتاحًا ويتطور تفكيره رويدًا رويدًا، حيث أظهرت إحدى الدراسات المنشورة بمجلة Frontiers in Human Neuroscience عام 2018 أنّ تعلّم لغة جديدة، واحد من أهم الطرائق لتعزيز القدرات المعرفية وتقوية الذاكرة، خاصة عند كبار السن. 

اتخاذ قرارات أفضل 

هناك قاعدة مهمة عند اتخاذ قرارات مصيرية، وهي التحرر من العواطف المليئة بالتحيزات، فالعاطفة قد تُجبر المرء على اتخاذ قرار لا يُرضي العقل، وهذا يحدث كثيرًا، لكن أظهرت دراسة أجراها مجموعة من الباحثين بجامعة شيكاغو أنه عند التفكير في اتخاذ قرارات بلغة أخرى غير اللغة الأم، تكون القرارات الصادرة أكثر عقلانية، حيث يساعد الانتقال إلى لغة أخرى أثناء التفكير على الابتعاد عن العواطف المرتبطة باللغة الأم. (ألا تلاحظ أنّ بعض الأشخاص يفشلون في بلادهم، وينجحون في بلاد أخرى يتحدث أهلها بلغة مختلفة؟).

تطوير لغتك الأولى 

نحن نتحدث كلمات كثيرة قد لا ندرك معناها بقوة، نقولها هكذا أثناء التحدث دون الوقوف عندها وتأملها. لكن عند تعلّم لغة جديدة، ستُلاحظ أنّ إدراكك للغتك الأم صار أقوى من السابق وأنَّك صرت أكثر فصاحة، فكل كلمة تتعلمها في اللغة الثانية، لها مرادفات في لغتك الأم، ربما تتعرف على مفردات جديدة لم تكن تعرفها من قبل. 

تصبح متعدد المهارات 

هل سمعت عن مصطلح متعدد المهارات؟ إنه ذلك الشخص الذي يتحدث في الهاتف أثناء مشاهدة التلفاز على طاولة الطعام، ويركز في المهام الثلاث في نفس الوقت، حسنًا، إن الأشخاص الذي يتحدثون لغتين أو أكثر، لديهم فرصة ممتازة لتعزيز قدرتهم على أداء مهام كثيرة في نفس الوقت. 

وأخيرًا.. ربما بعد قراءة هذا التقرير تكون قد فهمت كيف استطاع هارولد ويليامز التحدث بطلاقة في مؤتمر عصبة الأمم منذ أكثر من 100 سنة. أتفق أنه حالة فريدة وعبقري وقدراته عالية، هذا ما فهمته من سيرته الذاتية، لكن قصته تعطي أملًا لمن يريد تعلّم، على الأقل، لغة جديدة. لكن أي حال، إنّ التطور الهائل في السنوات الأخيرة، جعل تعلّم اللغات الجديدة أمرًا لا مفر منه للحصول على فرص عمل تحسّن من جودة الحياة، ولا خوف من ذلك، فقدرات الدماغ البشري هائلة يا صديقي.