فرقة موسيقية في حلب خلال العصر العثماني- الصورة من ويكيبديا برخصة المشاع الإبداعي

حناجر تلعب باللغة: رحلة الموال من لمة المحبة إلى ويلات الحرب

منشور الخميس 3 مارس 2022

لم يتركني صوت أبي الوادع كتميمة في روحي منذ أول موَّال سمعتُه منه، فشُعلة الخصب والجمال والألق استمرَّت كمتوالية لا تنتهي ولا تخبو.

قالولي الحلو مو جاية مع الجوّ

ألف دكتور لقلبي ما عالجوه

دخيلك حملني وعلِّيني بها الجو

أمانة شلحني بحضن الحباب

الجَمال في البساطة، في بداهَةِ المَشاعِر وصِدقها، في البقاء أمام مواشير بملايين الاحتمالات اللونية من الحب واللوعة والعتب والمناكفة، وبث الأشواق والغنج والترحيب والانتقاد، والفخر والمباهاة وغيرها من دون هدف غير الاستئثار بالقلوب، وإذكاء الروح بمزيد من كينونتها ذاتها.

الموال ليس قالبًا جامدًا في تراثنا الشعبي، على اختلاف تصنيفاته بين الرباعي البغدادي والخماسي الأعرج، والسداسي المرصع، والسبعاوي الشامي أو الحموي، ولا هو "فشّة خلق" عابرة لأحاسيس اختلجت في قلب شاعِرٍ، ولا حتى مُداعبةٌ للصوت العذب على مقام "صُنِعَ بِسحر"، بل هو استمرارية لمناهضة التعب، ومحاولة لمُداورة الألم، وتوثيقٌ لأزمنةٍ مختبئةٍ في حنايا الغِياب، ومجاراة الذِّكريات والخطوط البيانية لنبضات قلوب الشعراء وأرواح المُطربين عبر لَعِبٍ باللُّغة والحناجر معًا، وانجدال الصوت منذ أزلية المناجاة مرورًا بحاضر الأسى وحتى أبدية الطَّرَب.

الموال هو أركيولوجيا* الحزن البشري الحزن البشري، تجمع دأب الفلاح في صباحاته العتيقة مع طُلّاب التكنولوجيا المعاصرة ومُريديها، وتُوحِّد بين ورثة "اللَّمَّات الطَّيِّبة" على اختلاف تواريخ ميلادهم، فهو حفرٌّ في الزَّمن، الماضي، والحاضر، والحاضر المستمر، لمشهديات لا تُنسى، وسِجِلٌّ من حنين لا ينتهي، وفرحٌ متروكٌ في السَّنابِل وعرائش العنب وسِهامِ الرُّموش والتماعات الثَّغْرِ الباسِم، وضَنىً مديد مُعشّش في خلايانا كبراكينٍ من لوعة.

يا عمري ما نمتْ ليلة بلا هَمّ

حبابي طوَّلوا عليي بلاهُمْ

أنا كل ما يقول لساني بلاهُم

يصيح القلب ما عوف الحباب

بلاغة لا تقبل الجَدَل عند مُجيديه، وتكثيف مُتقن، كأنه عملية مونتاج لكل شيء فائض عن الحالة الشعورية المُراد إيصالها، والأهم في الموَّال هو تواضُعه واقتناعه بمنزلته العالية، ولو في قلوب مُحبِّيه فقط، إذ لا يُقارن نفسه بالأدوار والقدود والموشحات والقصائد وغيرها من تفريعات الشعر المُغنّى، ولا يسوؤه رغم عُمْقِه الزَّمني ألا يكون ضمن ديوان العرب، وأيضًا لا يأبه إن نبذته دور الأوبرا ومسارح المراكز الثقافية وقاعات النوادي الموسيقية.

 الموال فخورٌ بأنه صوتُ الذين لا صوت لهم، وبحَّتهم، وتهدُّجات آهاتهم، وبهجة جَمالهم، لذا لا يحتاج لأكثر من "لَمَّةِ محبّةٍ"، ومائدة جَمال، وحنجرةٍ صادِقةٍ تعرف الغوص في أعماق المعنى وموائمته مع اللحن، إنه مُكتَفٍ بذلك، حتى أصبح يُضرَب مَثَلاً بأن القليل مع القناعة به تُغني عن الكثير، وأقصد المقولة المصرية الجميلة "أقلّها موال ينزِّه صاحبه"، إذ إن قدرة المواويل على التطهير تفوق ما تحدَّث عنه أرسطو في كتابه فن الشعر، فَكَم من غصَّة تفتَّتَتْ بقدرة موَّال؟ وكم من غَمٍّ أُزيلَ عن كاهل صاحِبِه لحُسْنِ ملامسة المعنى لحالة المحزون فصاحَ "آآآآه" من عُمْق التَّعَبْ؟ وكم من غَزَلٍ تفوَّق على غزليات أساطين الشِّعر وروَّاده، خذوا مثلًا من الشاعر الحموي الرَّاحل إبراهيم وردة:

زيح الغطا عن جبينك يا مزخرف ورد

تذبح بلحظك وتقطع من الورد للورد

أنا عقلي وجسمي ارتجف لمَّنْ خيالك ورد

قاضي الهوى ذلِّني ظالم بحكمه جار

واعلم بأنك قريب من المنازل جار

ما تظنّ بسلاك لو حكمك عليي جار

أنا من بعد وردك ما شم أبد ريحة ورد

وبما أن الموَّال مُناصرٌ للجميع ومتغلغل في ثنايا المجتمعات التي تُغنِّيه، ولكثرة صِدْقِه، فإنه وَصَل في بعض الأحيان لأن يكون لاذعًا في نقدِه لمثالب ذاك المجتمع، ومثالب أفراده، ولعل أكثر مُطوِّعيه حيويةً هو المُبدع اللبناني زياد الرحباني، الذي آثر أن يترك بصمةً خاصةً كما في جميع أعماله، وكانت في ألبوم بما أنو مع المطرب الراحل جوزيف صقر، صاحب الصَّوت السَّاخر المُتماهي مع ما يبتغيه الرَّحباني في مواويله الناقدة ومنها:

شو صرلك يا حلوة تَ أنتِ

ما في أسلوب كذب إلا وتائنتيه

صار بدِّك شي إصبَعْ تي إن تي

يظبِّط كل ما تحوي سوا

نشأته وتطوره

والحديث عن هذا النمط الشعري الشعبي والمُغنى لا ينتهي، فمع أنه انبعث عمومًا من أرواح شعراء مجهولين بمعظمهم، لكنه سرعان ما نفذ إلى قلوب الشعب كله من دون استئذان، فتناقلوه كلامًا ولحنًا عبر الأجيال، وصحيح أنه نشأ في واسط العراقية سنة 187 هجرية، كما يؤرخ له صفي الدين الحلي، في كتابه سفينة الملك ونفيسة الفلك، وانتشر منها إلى بلاد الشام و جميع البلدان العربية، إلا أنه استطاع أن يستخلص خصوصية من كل مكان ترعرع فيه.

 

نستشعر تلك الخصوصية سواء من طريقة بناء الموال بالاعتماد على الجناس بشكل أساسي، بغض النظر إن كان رباعيًا أم خماسيًا أم سداسيًا أم سباعيًا...، أو من ناحية قافية الختام، والتي تختلف من منطقة إلى أخرى، وتلعب فيها اللهجات دورًا رئيسيًا، أو من ناحية النمط التلحيني الذي يندغم مع الكلام والبيئة الشعرية إن صح القول.

ولذلك وإن كانت نشأة الموال عراقية-شامية، وتشهد تفرُّعاته على غناه بين العتاب القائم على البحر الوافر، وفيه ثلاث كلمات متجانسة بالحروف مختلفة بالمعنى، مع قافية مختلفة للبيت الرابع،  وبين النايل الذي يُكتب على مجزوء البسيط عروضيًا ويتميز بحزنه الشديد ويحتل مكانة رفيعة بين الفنون الشعبية الفراتية، ومن أمثلته "مناحر فجوج الخلا يـا ريــم ويـن تريد.. هيمتنا ع الـــولف بأول ليالـي العيـد"، وبين الميجنا وهو من سوابق فن العتاب ويأتي عروضه على بحر الرجز ومثاله "ميجنا ويا ميجنا ويا ميجنا.. ضحكت حجار الدار طلّوا حبابنا".

وكطبع المصريين قاموا بتطوير الموال، فخففوا قواعد نظمه بالاكتفاء بالجناس الناقص بدلًا من التقيد بالجناس التام، وأجروا تبديلًا جوهريًا في بنية الموال بإضافة شطرة خامسة إليه من قافية مختلفة عن الشطرات الأربع الأخرى وسموها العرجة، بهدف الخروج عن القافية الأصلية.

 وفي الموال الخماسي تسمى الشطرات الثلاث الأولى البادية أو المطلع، وتسمى الشطرة الرابعة السند أو الردفة أو العرجة، بينما تسمى الشطرة الأخيرة باسم القفلة أو الطاقية. وكان لإضافة الشطرة الخامسة للموال الخماسي المصري، كما يرى النقاد، دورًا كبيرًا في تطور فن الموال ككل سواء في مصر أو خارجها، إذ ظهر الموال السداسي بجعل القافية الرديفة تتكون من شطرتين بدلًا من واحدة، أو بجعلها شطرة واحدة بينما تكون الشطرات الخمس الأخرى من قافية واحدة.

كما ولد الموال السباعي في مصر أولًا بتطوير الموالين الخماسي والسداسي، ثم انتقل في رحلة معاكسة للعراق فازدهر هناك وسمي بالزهيري نسبة للملا جادر الزهيري شيخ الناظمين في القرن الثاني عشر للهجرة. وبعد أن كان الموال فنًا شعبيًا مرتجلًا متروكًا على هواه، قام الموسيقار المصري الكبير محمد عبد الوهاب بتلحينه وتلحين حتى الليالي المرافقة له، جاعلاً منه "ارتجالاً مقيدًا محكمًا".

 

حضور متواضع

 ورغم كل تلك المسيرة هناك من يرى أن شمس هذا الفن تميل إلى الأفول، لأنه لم يحظ بالاهتمام اللازم باعتباره "أحد الأسلحة المعنوية للشعب"، بتعبير الباحث السوري سلوم درغام سلوم، ولم ينل حقه من الرعاية والتوثيق والتطوير بما يناسب العصر، إذ ظلَّت الساحة الفنية، في الغالب، تناصر ما يسميه النُّقاد "الغناء السهل"، في حين أن الموال بحاجة أولًا إلى ملكات لغوية عالية المستوى، وقريحة حاضرة عند شعرائه، وثانيًا إلى معرفة عميقة بأصول المقامات، وجماليات التلوين بينها، ثم العودة إلى ركيزة المقام الرئيسي عند مغنيه.

الموال عند المحترفين هو ساحة للتجويد تظهر قدرات المغني الصوتية والموسيقية، ولا يستطيع إلا المقتدرين أداؤه، ولذا نجده ازدهر في حناجر ذهبية من أمثال وديع الصافي، وصباح فخري، وفيروز، وإلياس كرم، وجورج وسوف، وصالح عبد الحي، ومحمد عبد الطلب، ومحمد عبد الوهاب، وناظم الغزالي، وإلياس خضر، وغيرهم، تلك الحناجر المكتنزة بالمعنى والقدرة على جلب الآه من قلب القلب كما كان يفعل والدي رحمه الله في تأديته لموال يا قلبي ما حد قاسى من كلمات إبراهيم عبد الله، وألحان محمد عبد الوهاب، والذي يشعرني بأنني أهيم على نهرٍ من شجن حين يجوّد:

يا قلبي ما حد قاسى اللي أنت بتقاسيه

ابكي لقلب الحبيب يمكن يلين قاسيه

قول له ده عنده أمل تنظرله وتآسـيه

نِبات يا قلبي نلمّ الجرح ونقول آه

لا الجرح يهدا ولا عيونا تشوف قاسيه

 

الموال والحرب

الشجن يتعزز في المواويل التي كانت انعكاسًا للحرب في سوريا، والتي وإن كانت أقل بكثير من مستوى الفاجعة، إلا أنها سعت لملامسة مكامن الألم في الروح والجسد، يطيب لها العزف على وتر العاطفة المتروكة لعواصف الدمار والقتل والتهجير. ولعل محاولة استذكار ما غُنّيَ عن الحرب السورية من مواويل بقيت عالقة في الذاكرة لن يُحيلنا إلا إلى استثناءات قليلة كالموال الذي غناه ناصيف زيتون ويقول فيه:

سوري وللسَّمَا عَلّيتْ سوري

ثوري يا نفس على الخوّان ثوري

سوري وبفتخر إني أنا سوري

وسوريا يا شمس ما تعرف غياب

وهناك أيضًا الموال القصصي الذي أدَّاه حسام جنيد بنبرة حزينة، مُستعطفًا البحر الذي ابتلع الكثير من السوريين، وفيه جاء:

يا بحر عطفك علينا

والله يكفي الل صار بينا

لا تسلط غدرك اهدى وخلّي أمواجك حنينة

احنا السوريين احنا

والله قصتنا حزينة

الدمع لو نبكي صدِّق تغرق أنت من بكينا

إحنا شلنا كل الناس كلها

لما وقعت ما شكينا

اليوم كل الدنيا خانت

وكلها غدرت والله بينا

هدي أمواجك دخيلك

بيها أطفال السفينة

بيها عمر كل سنينا

بيها أحلام الطفولة

الل تحلم تلقى مينا

خلي موجك بينا يرحم

وكون مثل الأم علينا

يا بحر عطفك دخيلك

بيها أطفال السفينة

نحنا سوريين نحنا والله قصتنا حزينة.

أي أن الموال رغم الحروب التي يعيشها، والتحديات التي تواجهه، يبقى الأقدر على تصوير المواجع والآلام ودمار البشر والحجر، ومهما شَعَرْنا بتقصيره تجاه ما يجري، إلا أن النَّبش في طبقات الحزن المخزَّنة لدى الشعراء، ولاسيما شعراء الأرياف، والتنقيب في خبايا قلوبهم وقرائحهم، سيؤكد على ما بدأناه من أن المواويل ما هي سوى أركيولوجيا الحزن البشري المستمر.


اقرأ أيضًا|قيموا لنا صهبة يا صهبجية 

 


*فرع علم الإنسان الذي يركز على المجتمعات والثقافات البشرية الماضية