المخرج منتصف الصورة من اليمين بحواره الممثلين وقصي خولي وسعيد سرحان خلال الإعداد لتصوير أحد المشاهد- بإذن خاص للمنصة

"بارانويا" والقفز فوق أزمات المبالغة: حوار مع المخرج والمؤلف أسامة عبيد الناصر

منشور الأحد 20 مارس 2022

لفترة زمنية امتدت خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كنا نشير إلى تفوق الدراما السورية على نظيرتها المصرية، بشكل أدى إلى طيران صناع الدراما السورية إلى مصر ولبنان والخليج، خصوصًا بعد الحرب الأهلية التي أثرت على ظروف الإنتاج، لتتغير بتلك الهجرات ملامح الإنتاج العربي.

وما أن نبدأ في استيعاب تلك التغيرات، حتى تظهر أخرى، فكان الاتجاه عربيًا بشكل أكبر لـ"دراما المنصات"، آخر التحديات التي تواجه صناع الدراما من المؤلفين والمخرجين، بما أضفاه ذلك الوسيط الجديد ذو السمات الخاصة من تغيرات، سواء فيما أتاحه من فضاء أرحب لعرض القضايا دون قيود، أو التكثيف، مقارنة بأعمال الدراما التقليدية التي تمتد لثلاثين حلقة في الموسم الواحد. والأخير كان ميزة بالنسبة لمخرج ومؤلف مسلسل بارانويا أسامة عبيد الناصر، المعروض على منصة شاهد.

جاء الناصر، الذي حاورته المنصة حول عمله الأخير متعدد التحديات، إلى الدراما من خلفية سينمائية، إذ سبق وقدم أفلامًا قصيرةً منها أفيون ونخب ثاني وقابل للطعن، وحصل على عدة جوائز منها الجائزة الذهبية بمهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة بسوريا وThe emerging voices arab word -Dubai 2013. لذا فإن تكثيف العمل في المنصات الدرامية، كان محفزًا إيجابيًا بالنسبة له.

يدور المسلسل حول مجرم يُسمى وزير، يؤدي دوره الممثل السوري قصي خوري، وهو متهم بقتل 21 من رجاله بعد عملية سرقة لأحد البنوك. يتلاعب المخرج في المسلسل بالزمن بطريقة مثيرة، إذ تدور الأحداث في زمنين يتداخلان دون إرباك، أحدهم آني مع السجين الذي يلتقي بطبيب نفسي اسمه رواد (سعيد سرحان) يعد دراسة على المساجين، والآخر في الماضي، أثناء تنفيذ عملية السرقة وما قبلها.

واللافت في المسلسل قدرته الثرية في عرض التداخل الإنساني الناتج عن التجارب، فرواد الذي يقوم بعمل دراسات حول المرضى النفسيين مرتكبي الجرائم، دخل هذا المجال بحثًا عن خلاص ذاتي، بعدما قتل والده والدته ثم انتحر، ما صنع معاناة الابن الخاصة، الذي حاول فهم الدوافع النفسية حول القتل، وربما أملًا في تبرئة والده أمام ذاته، على اعتبار أنه كان "مريضًا نفسيًا"، وإلى جوار تلك المعاناة يتولى رواد رعاية اخيه الأصغر وسيم، أي أنه لا يملك رفاهية الانهيار، ثم يُصدم مرة أخرى بخيانة زميلته التي يحبها.

يرغب وزير في الاعتماد على رواد لتبرئته من تهمة قتل رجاله ونسبها لفاضل، تلك الشخصية التي لم يرها أحد، لذا فهي بالنسبة للجميع غير موجودة سوى في خيالي وزير. يصبح المشاهد أمام أحجية، هل وزير بريء فعلًا ومصاب ببارانويا وفصام، أم أنه مدان يحاول التنصل من العقوبة بادعاء المرض؟

دراما المنصات 

لعل كون هذا العمل هو الأول بالنسبة للناصر، يعكس فهمًا خاصًا للوسيط الذي يتعامل معه، وهو يرى أن "صانع دراما المنصة يجب أن يعي أولًا الفارق الكبير بين الوسيطين التلفزيون والمنصة، فالثانية تعطي هامشًا أكبر كثيرًا للحرية على مستوى الفكرة والمضمون وجرأة التقديم، بالإضافة إلى التحرر من فكرة الثلاثين حلقة. على منصة العرض، فالمدة الزمنية للقصة هي التي تقيدك، وتفرض عليك عدد الحلقات، دون الحاجة إلى مط أو تطويل".

 

مخرج بارانويا خلال تصوير العمل- بإذن خاص للمنصة.

يضيف "عن نفسي أفضل العمل على دراما المنصات، ففيها من التكثيف والاختزال ما يجعل إيقاعها أسرع، لكن هذا لا يمنعني من العمل بالدراما التلفزيونية شرط توافر الورق المناسب، والوقت الكافي لتنفيذه بالشكل اللائق".

وفي تأثير الإعداد للعرض على منصة أيضًا، يظهر في بارانويا الاعتماد على الأفان تتر (مشهد يذاع قبل التتر الرئيسي) ، والتتر نفسه ذو النمط الموسيقى المختلف بصوت بو كلثوم، ثم الاسم الخاص بكل حلقة، وعن هذا النمط الذي اتخذه يقول الناصر "قمت بالتأسيس لكل هذا انطلاقًا من النص، فقد حاولت أن يكون لكل حلقة موضوعًا ما إن كان على مستوى الحكاية، أو من خلال ما أرادت بعض الشخصيات إيصاله على لسانها، أما المشهد قبل التتر هو حيز مناسب يعطي هامشًا جيدًا من الحرية لتقديم ما لا يمكن أن نقدمه خلال الحلقة نفسها". وهنا تجدر الإشارة إلى أن ذلك النمط راسخ في المسلسلات الأجنبية. 

ومسلسل بارانويا أُعد خصيصًا للعرض على منصة شاهد، وهو عمل أصلي لكاتبه ومخرجه ولا مرجعية أجنبية له، على عكس بعض المسلسلات التي تستورد أعمالًا أخرى وتقوم بتعريبها، وعادة ما تعرض على التلفاز. وتعد فكرة التعريب إشكالية في الدراما بل والسينما حاليًا، حول ما يمكن أن تضيفه، أم أنها مجرد مسخ يقول المخرج "لا أفضل إطلاقًا الأعمال المعربة القائمة على الاستنساخ، فالبيئة تضع شروطًا خاصة بها لأننا بهذه الطريقة نضع صورة في غير الإطار المعد لها". 

منطقة خطر 

أول ما يميز المسلسل ويزيد درجة التحدي فيه هو اسمه؛ بارانويا، الذي يشير إلى الاضطراب النفسي المسمى أيضًا بجنون الارتياب، ما يضع المشاهد أمام عمل يناقش مرضًا نفسيًا، ومثل تلك الأعمال لا زالت قاصرة ومحدودة في الدراما العربية، كما تعاني من النمطية الشديدة أثناء التقديم، كما حدث من قبل في مسلسل سقوط حر على سبيل المثال الذي يتسم بالمبالغة في الأداء، والبطء في الإيقاعلذا فإن الأعمال الدرامية ذات الخلفية النفسية تعد منطقة خطر، وشركًا في الدراما العربية، قليل من يستطيع تجاوزه بمكاسب. 

وليس عبر الاسم فقط، يحاول المسلسل شد المشاهد المهتم بمثل ذلك النوع من الأعمال، ولكن عبر بوستره الدعائي، الذي يتصدر الصورة فيه قصي مقسومًا لنصفين، نصف بالأبيض والأسود والآخر ملون، كلًا منهما يمثل صورة مختلفة لحياة البطل في العمل، فالبطل وزير كان موسيقيًا يقود فرقته، لكنه يُخفق وتُلغى حفلاته ليجد نفسه محاطًا بالفشل، ويتحول إلى مجرم يقود عملية سرقة أحد البنوك.

 

بوستر العمل- منصة شاهد

يتفق الناصر حول حساسية الأعمال المعتمدة على المحور النفسي، يقول "في بارانويا استلزم العمل بحثًا كبيرًا حول مرض الفصام والبارانويا والاكتئاب الذهاني". ويذكر أن أحد مشاهد العمل كان حوار لرواد مع الطبيب النفسي السابق لوزير، مشيرًا إلى أن ذلك الحوار "هو حوار حقيقي دار بيني وبين أحد الأطباء، ونقلته كما حدث بالضبط".

ويضيف "العمل ينتمي إلى دراما شاقة على مستوى الكتابة باعتبارها لا تعتمد على خيال الكاتب أو حتى نقل الواقع فحسب، إنما تعتمد وتبنى على حقائق علمية لا يمكن إغفالها، في بارانويا لدي شخصيتان أساسيتان أحدهما مريض نفسي والآخر طبيب نفسي، والمشاهد التي تجمعهما في غرفة البحث كانت لها طبيعة خاصة حتى تظهر بالشكل المطلوب، لذا فالصعوبة ممتدة أيضا لمرحلة التنفيذ".

مخرج وكاتب

وتعد كتابة مسلسل نفسي تحد في ذاتها، وحين يكون الكاتب هو نفسه المخرج، هل كان التحدي أكبر، أم كانت العملية أيسر من حيث اتساق الرؤية، وتجنب الصدام الذي يقع أحيانًا بين المخرج والكاتب؟ يتفق الناصر  على أن ما أقدم عليه "مخاطرة"، لكنه يبدي في الوقت ذاته رضا عما حققه، وسعادةً بالآراء التي وصلته على العمل. يقول "لقد حاولت تقديم طرح مختلف خلال بارانويا على المستويات السردية والبصرية والسمعية، وأعتقد من خلال الفيدباك الذي وصلنا أننا كسبنا الرهان الذي أقدمنا عليه، فالمشاهد ظل حتى اللحظات الأخيرة يحاول كشف الخبايا والأسرار ضمن القالب المختلف الذي قمنا بتقديمه".

والناصر إلى جانب خبرته الإخراجية، هو أيضًا ذو خبرة على مستوى كتابة السيناريو، فقد حاز على الجائزة الذهبية في مسابقة سيناريو الأفلام في السفارة الفرنسية العام 2011 عن نص شادي وسما. وموهبة الناصر مستندة إلى دراسة علمية فقد حصل على دبلومة العلوم السينمائية في دمشق العام 2016، كما أنه تخرج من كلية طب الأسنان في جامعة دمشق العام 2013.

ورغم إجادته كلا المضمارين الكتابة والإخراج، غير أن الصورة تفوقت في بارانويا على الكلمة عند الناصر.  يقول "جزء كبير من الأحداث الأساسية من بارانويا شاهدتها على شكل صورة، ويمكنني أن أذكر مشاهد معينة رأيتها أولًا، لكن الكلمة تأتي كمساند لتوظيف الصورة ضمن منطق الحكاية، وبرأيي يتكاملان، الصورة وحدها لا تكفي وتحتاج للكلمة لتوظيف هذه الصورة، فالورق هو الأساس لخدمة هذه الصورة".

وإلى جانب تفوق الصورة، ثمة مؤشرات أخرى على أننا أمام مخرج واعد، مثلًا قدرته على إخراج الطاقات الإبداعية من طاقم العمل، خصوصًا وأن بعضهم مثل قصي، كان يتسم أداؤه بالتواضع في أدوار كثيرة مؤخرًا، رغم أنه ممثل موهوب وحصل على العديد من الجوائز، أهمها جائزة أفضل ممثل عربي عن دوره في مسلسل غزلان في غابة الذئاب، لكن اختياراته كان عليها علامات استفهام كثيرة بعد انتهاء مرحلة تعاونه مع المخرجة رشا شربتجي، والتي اختتماها بالجزء الثالث من مسلسل الولادة من الخاصرة.

 

الممثل السوري قصي خولي خلال إحدى مشاهد العمل- بإذن خاص للمنصة

وعن التعاون مع قصي يقول الناصر "قصي نجم كبير وممثل محترف إلى أقصى درجة، وقد كان شريكًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، تناقشنا مطولًا حتى وصلنا إلى الرؤية المشتركة على مستوى المضمون والشكل، وأكون سعيدًا جدًا حينما يتواصل معي أحد المشاهدين ويخبرني أن قصي كان مختلفًا في بارانويا".

ذكورية متعمدة 

وقع مسلسل بارانويا في أزمة "الذكورية"، إذ بالغ في الاهتمام برسم شخصيتي البطلين سواء وزير أو رواد على حساب الشخصيات  النسائية.

يدافع الناصر قائلًا "الصراع بين وزير ورواد هو محور القصة، وبالفعل كان الاهتمام بهما كبيرًا لكن ليس على حساب بقية الشخصيات". يضيف "الشخصيات الثانوية المحيطة كانت تملك دوافع ما قامت به، وبالنسبة لتنميط الشخصيات النسائية فنحن أمام مسلسل ذكوري الصراع، لكن هذا لا يعني أن الشخصيتين النسائيتين الأساسيتين قد وقعتا في فخ التنميط، فكلتيهما رُسِمت بدقة وعرضت دوافعها ومبرراتها لكل ما قامت به".

وقامت ريتا حايك بأداء دور ميلا، الفتاة التي تحب وزير ولا تتردد في مساعدته بينما هو لا يبادلها الشعور نفسه، أما سارة أبي كنعان فأدت دور جيدا، الصحفية التي تسعى نحو الحقيقة وتساعد رواد خلال مهمته التي كلفه بها وزير، وكلا الدورين يقعان في ظل بطلي العمل، والمشترك في البطلتين أنهما تخاطران من أجل البطلين، لكنهما ظلتا نمطيتين، يمتلك المشاهدون نحوهما شعورًا بأنهم شاهدوا هذين النموذجين في أعمال درامية سابقة، بعكس شخصيتي وزير ورواد، اللذين ظهرا بشكل لامع.  

 يضيف المخرج "ميلا تمثل فتاة برية منطلقة ومتمردة، بينما شخصية جيدا تعالج الأمور بمنطقية وتهتم بعملها"، قبل أن يستدرك "لكني أيضًا أتفق معك أن الشخصيتين كان يمكنهما أن تأخذا مساحة زمنية أكبر، لكننا في النهاية أمام مسلسل محدود بعدد الحلقات وما يشغلنا هو ملاحقة الحكاية الأساسية".

خلال رحلة الإجابة عن السؤال الأساسي للعمل وهو: هل شخصية فاضل التي حرضت وزير على السرقة ومن ثم قتلت رجاله بعد انتهاء العملية بنجاح حقيقية أم خيالية؟ تطل علينا أسئلة أخرى، وتظل مفتوحة، وباقية مما يبشر بوجود أجزاء ثانية، ويقول الناصر عن هذا "احتمالية إقامة أجزاء أخرى من بارانويا قائمة، فلا شك أن هناك تأسيسًا لأحداث قادمة ولكن في إطار الجدول الزمني فلا يوجد موعد محدد لذلك، وأنا في الوقت الحالي أقوم بتحضير مشروع آخر".