علبة سجائر فارغة- الصورة: فليكر برخصة المشاع الإبداعي

القلق والملل والحب واللذة: أربعون سنة من التدخين

منشور الخميس 24 مارس 2022

 

لن تكون هناك علاقة، أخذت أكثر من شكل ومنحنى خلال أربعة عقود من حياتى، أكثر من علاقتي بالسجائر*. انجذاب وقرب ثم بُعد ونفور. حب ثم تجنب، ثم نسيان. النسيان كان نهاية الرحلة، بمشاعر محايدة، وربما أحيانًا بدفء ذكريات الصحبة، وبدون أي حنين.

أعتقد أن علاقتى بالتدخين تعتبر من العلاقات الكاملة بمعنى الكلمة، لها خطوط موصولة وأخرى مقطوعة، تتخللها، ما جعلها تتحول فى النهاية إلى نصب تذكاري شامل، يجمع داخله العديد من المشاعر والصور المتناقضة: القلق والزهق والحب واللذة ومعاداة السلطة، والأخوية، وأنواع نادرة من أحلام اليقظة. كان التدخين متشعبًا تحت جلد هذه العادات والمفاهيم التى صاحبت تلك المشاعر، حيث تتوالد تلك الطبقات القطنية من الدخان، التى تشبه السحاب، بكثافتها وسموها وقدرتها على تذويب المشاعر الثقيلة، والمحبطة، وإلباسها ثوبًا أكثر خفة.

مثل التجربة الجنسية الأولى

جربت السجائر مبكرًا. كانت كالقدر الذى يصادف المراهقين، مثل التجربة الجنسية الأولى، التي تأتي فجأة على غير توقع لها. كان لى صديق يسير بجوار شريط القطارات المسافرة للقاهرة، ويجمع أعقاب السجائر الطويلة التى رماها المسافرون، ولا ينسى أن يحيهم ردًا على عطاياهم، وأحيانًا يقذف القطار بالحجارة الصخرية المدببة التي تتكاثر على القضبان.

منذ المرحلة الثانوية كنت أعلم بخطورة التدخين على صحتي، كونى أعانى من حساسية صدرية، يتخللها أزمات ضيق تنفس، كانت تجعلني ملازمًا للفراش لفترات طويلة. رغم هذا، أفسحت للسجائر مكانًا مستقطعًا خاليًا من الأزمات، وأيضًا من الخوف من المستقبل، عندما تنتصب فى خيالك صورة الطبيب وهو يعرض أشعة صدرك للضوء ويصارحك بالحقيقة، التى انتظرتها، وعاشت جنبًا إلى جنب، بجوار أحلام اليقظة التى أنعشتها أدخنة السجائر.

فى ذلك الوقت لم يكن المرض ملحًا كأحد حراس بوابات اللذة الأشداء. هناك دائمًا ما يجعلك تنساه وتدخل إلى رحاب متعتك دون أن يراك، وتمارس تلك اللذة الجماعية من دون حراسة أو زجر من طرف المستقبل. كان "المرض" نفسه مغلفًا بطبقات كثيفة من الغموض، ومن سُحب السجائر، تحجبه تمامًا عن عين خيال اللذة.

التمرد البرجوازي

يبدو أن أحلام اليقظة كانت لها الغلبة دومًا، وهو مالمسته أيضًا عند صديق الطفولة، الذي امتص من هذه السجائر الملقاة رحيق السفر وأسراره، فهاجر إلى كندا، وهو كان الأبعد منا جميعًا، أصدقاؤه، أن يترك حتى شارعنا.

كانت السيجارة إحدى علامات التمرد البرجوازي، التي تثبت نزاهتك الشخصية، كونك لا تخاف على صحتك وتنأى بها بعيدًا عن كل ما يضرها، مثل الأولاد الأخيار الذين يعيشون داخل كبسولة طبقية معقمة. فالحياة المعقمة هي الحياة التي بلا تجارب، وبلا ذاتية، لذا تكسر السجائر هذه الحواجز من دون عناء، وتصبح أولى هذه التجارب والمحاولات، للخروج من طور الطفل أو المراهق، والدخول قفزًا في تجربة جماعية هي النضج والانتماء لعالم الكبار.

ربما كان وراء التدخين جرأة وحب للحياة، أكثر من النفس، أو على حساب النفس، وهي المعادلة التي لا يمكن تصحيحها، لا يمكن اكتساب حب الحياة من دون خسارة.

ربما عبر التدخين يتم نسخ نموذج الأب، لذا بها هذا الحس الذكوري، ولكن الذي يخفي الطفل داخله، عبر تثبيت هذه المرحلة "الفمية"، كما وصفها فرويد، وهي أولى مراحل الطفولة، التي تربط الطفل وإحساسه وملكياته، بالعالم عبر الفم.

لسن متأخرة ربما تجاوزت الخمسين سنة، كان أبي يفتخر بأنه لم يشرب سيجارة أمام خاله الذي رباه، فالسيجارة كما تقفز بصاحبها لعالم الكبار، أيضًا تكشف عورة هذا الطفل.

كانت السجائر مثل الرفيق الصامت الذي اختاره المليارات من البشر، ليشهد على حاجات نفسية مبهمة، ويولَّد، أيضًا، حاجات نفسية مبهمة، ويرافق لحظات التعالي، والدونية أمام الحياة، التي يعيشها الفرد، دون أن يفرض نفسه، عندما تظهر هذه الإشارة الحمراء، لتنبهنا بأن وجودنا في حاجة لآخر يقف بجانبه، فنشعل سيجارة.

سوق مزدهر لأحلام اليقظة

كنا ندخل السينما، أنا وشلة المراهقة، لنتفرج على الفيلم وندخن السجائر معًا. كانت السيجارة رفيقة صامتة للحظات الخيال وأحلام اليقظة، عندما كان هناك سوق مزدهر لأحلام اليقظة. تداخلت الأحلام مع الصورة مع الدخان مع الأشعة، في ظلام صالات السينما، وصنعت ذكرى جماعية من الصعب نسيانها. هذه الذكرى الجماعية، للسجائر، كانت حاضرة أيضًا في حفلات أم كلثوم.

بجانب كون السجائر إحدى علامات التمرد، كانت أيضًا إحدى علامات حداثة نفسية لعدة أجيال، منها جيل والدي، في الأربعينيات، لتوثيق روابطه مع الغرب. هذه الحداثة النفسية استقرت تمامًا فى جيل الستينيات خاصة فى حفلات أم كلثوم، وهى معبقة بروائح هذه النيران الصغيرة والأدخنة والسحابات التى تتكاثف فى الصالات، كأنهم ذاهبون للاستمتاع بالتدخين أولًا ثم الاستمتاع بصوت أم كلثوم.

كانت قاعة السينما المظلمة مكانا محررًا، يسمح للاوعي بالظهور، يتجاور شبح اللاوعي مع شبح السجائر، أمام هذا الواقع المزاح عن قواعده: أفلام الويسترن، وأفلام الحب، وغيرها من أشكال السينما المتفجرة المطمئنة للمستقبل وطيبته وتمكنها منه. كانت السجائر هى رفيقة هذه التحررات الفجائية والمكبوتة للنفس. ولم تكن دخلت بعد كرفيقة للهزائم، على الأقل فى مستوى تمثلها الثقافى والخيالى. كان زمن الهزيمة قصير بالقياس إلى زمن الانتصار، لأن المستقبل كان بحساب السنين والخيال أطول حتى لو كان هذا عكس حقيقة الواقع.

التدخين أثناء مشاهدة الفيلم، كان يمثل أورجازم اللحظة، كان يفضي لنوع من اللذة كالاحتلام الطبيعى الذى يأتى بدون جهد أثناء النوم، تشابك اللذة مع أحلام اليقظة مع الصورة المعروضة على الشاشة، وفى حضور هذا الشبح الذى تتغير أشكاله، وفى النهاية يصعد لأعلى ويتلاشى. يتبخر ذلك الرفيق الصامت الأثيرى، كما جاء، من العدم.

كأنها تهب نفسها

هناك كهف جنسي، كانت تفتحه السجائر، أو تطرق على بابه، بدون أن تصر على أن يجيبها أحد. لذا أفهم معنى أن يقول أحدهم بصدق "أحب السجائر"، ردًا على هؤلاء الذين يطالبونه بالامتناع عنها، فلا يوجد رفيق صامت يمكن أن يعيش معك كل هذه اللحظات، وبدون أن يفرض عليك وجوده. حتى ولو كان هذا الوجود صامتًا، فإنك ستعيد خلقه من جديد بلغة جديدة، وستمنحه مفردات صوتك الباطني.

ملأت السجائر أوقاتًا كثيرة ما كان يملؤها أحد غيرها بهذه الرقة والتفاني والغيرية، كأنها تهب نفسها، بدون مقابل، تحترق وتتحول إلى رماد. صمت السجائر يجعلك أحيانًا تمتهن قواعد هذا الحب الساكن، ذو الاتجاه الواحد: تنفخ في نيرانها بقوة، أو تدهسها تحت قدميك، أو تلقي بها داخل تنوة فنجان القهوة، وتسمع وشيش احتراقها الأخير، أو تمضغ دخانها، بدون رحمة. ربما حب التدخين بصورة ما صورة من صور حب الذات، وهدهدتها، ومؤانستها، ولكنه حب محفوف بالخطر، تقف فيه الذات على حافة جب عميق.

هذه النار الصغيرة التى نحملها فى جيوبنا وعلى أطراف شفاهنا، ربما كانت تعبر عن رمز لنار أخرى محشورة فى سراديب كهوف ممرات حياتنا النفسية، وكانت تريد أن تنعتق. تلك النار الأولى التي خرجت منها أساطير الخلق، وظلت السيجارة بها هذا المس البدائي لتكوين الحياة، فمع كل سيجارة نشعلها نوقد هيكلًا للخلق ينتظر أن يمتلئ بأمل أو بخيال ما.

أيضًا، ربما السيجارة المشتعلة رمز لنار مسروقة من مكان ما. كما فعل برومثيوس، وسرق نار الآلهة/ نار المعرفة لينقلها إلى البشر المحرومين منها. هذا الاحتراق اليومى لاشك أن له مستودعًا فى مكان ما تتأجج فيه هذه النيران بشكل حقيقى، وما نحن إلا حاملين قبسًا يوميًا منه.

ربما داخل عملية التدخين، هناك حس بروميثيوثي كامن، ولكنه عدمي. تنتقل، عبره، الشعلة من الآلهة لتضعها في يد البشر، والاثنان كامنان داخلك. فأنت عند تدخين سيجارة، كأنك إله يقف على قمة جبل وينظر للنفس التي تقف في الأسفل، تنتظر أن ترتفع وتحلق، وتحصل على نور الآلهة. هذا النور لا يتحقق إلا بهذا الاحتراق الرمزي للجسد، كأنك تنير لجسدك عتمة الاكتمال بهذا الاحتراق.

ربما السيجارة، أيضًا، هي الأضحية اليومية التى نعلق عليها خيباتنا، ويأسنا، وتخفي الموت تحت قناع اللذة. ودائمًا يختفي الموت تحت قناع اللذة. إلى أين يذهب هذا الرماد، إذا لم يكن جزءًا من المستقبل، أو الغيب، عندما نتحول جميعًا إلى رماد.

من دون بداية للنهار

المرة الأولي التي امتنعت فيها عن التدخين، جاءت بعد سلسلة تحولات نفسية، محركها الأساسي هو تثميني للمسؤولية الشخصية، أو رغبتي في التحرر من كل العادات التي استلمتها من حياتي الماضية، وبدون أن أفكر فيها، حتى ولو كانت تسبب اللذة.

بعد استقالتي من العمل والبحث عن حياة جديدة، وجدت أنه من المهم أن لا أترك شيئا يستعبدني، وبالتالي أخذت قرارًا بالتخلي عن التدخين، أريد أن أقطع كل الخيوط التي كانت تمتد بالماضي، بذات أخرى أريد أن أغيرها، وأصوغها بشكل جديد.

كنت لا أعرف بداية لليوم سوى بالقهوة والسجائر، وربما السجائر تأتي قبل القهوة، أو الطعام. عندها أبدا في التعرف على نفسي. بدونها كنت أشعر بدغدغة في فمي، وبتنميل في رأسي. كانت السجائر شديدة التداخل في مزاجية يومي ونسيج حياتي بشكل عام، ولكن هذا النسيج، لم أكن أنا ناسجه. كان خليطًا من مزاجيات وأحلام يقظة وأنسجة نفسية لم أخترها، فأردت أن أتعرف على نفسي من مكان جديد، بلا سيجارة، أو بلا ماض.

 لم تطل هذه الفترة، ربما سنة، أو أكثر قليلًا، وعدت إليها مرة أخرى، وربما بشكل أكثر شراهة. يبدو أن الفرح بالاستقلال والتحرر كان أضعف من رغبتي الذائبة في عادات عدة، فحياتي الجديدة، برمتها، التي اخترتها بنفسي كانت مليئة بهذا النوع من الاحتراق. بجانب أن التحرر نفسه، مهما كانت قوته، أداة غير كافية لتقطع مع الماضي، أو مع "التجربة الجمعية" التي كانت السجائر إحدى بواباتها.

السجائر بها حس جمعي، ليس السجائر فقط، بل أي لذة بها استعادة لحس جمعي في ثوب الفردية والاستقلال، فاللذة مخزن من مخازن الجماعة، كونها أسبق من أي فكرة تحرر. حتى وإن غابت هذه الجماعة، ولكنها ستحضر حتمًا مع التعاويذ المصاحبة للدخان المتصاعد.

المرة الثانية، والأخيرة، التي امتنعت فيها عن التدخين، وحتي الآن؛ كانت إثر أزمة صحية عنيفة، ساعتها لم أجادل في التخلي عنها. أصبحت لا أتحملها، وبكل عاداتها التي كنت أخشى من أنها ستذهب معها، وأولها حبي للكتابة، ونوع الخيال الذي كان يتألق بجانبها، وأيضا اللذة النفسية، وباب الكهف الذي يفتح باستمرار، في حضورها، ويكشف كنز "علي بابا".

ظلت هذه المحاولة مستمرة منذ عام 2014 وحتى الآن. ربما ليست دوافعها كالمرة الأولى، ولكنها تستكمل ما نقص في المرة الأولى، وهو أن أحب حياتي، وأسمح لها بالبقاء، بدون إضافة رموز جديدة للخسارة. لم أعد مدينًا لأحد، ولا لنفسي.

في هذه المرة الثانية، لم يكن لي خيار، كانت التجربة المرضية التي مررت بها أقوى وأعمق من أي تجارب سابقة، قربًا من الموت، فتضاءل معها حجم قوة تأثير العادات أو اللذات المكتسبة.

ربما مهم لمن يريد الامتناع عن التدخين، أن يسبقه، أو يسير معه، تحول ما في مسار حياته، تحول مزلزل، أو نوعي، يرى من خلاله الحياة بطريقة جديدة. ربما هذه التحولات الكبرى، تصنع ستارًا بينك وبين الماضي، فقدان ذاكرة مؤقت لبعض حواسك ولذتك، تستغله وتبني عليه جدارًا عاليًا بينك وبين هذا الماضي.

 ربما الماضي الذي رغبنا في أن نغيره، لم يتغير، وما تغير هي عاداتنا. فالتحرر الذي ننشده كان ينصب على هذه العادات، أكثر من أي أفكار كبيرة تتخلله، وعلى التخلي عن، أو التفاوض مع، التجارب الجماعية، التي تقف وراء اللذة/ التدخين.

كانت المعادلة القوية والمتطرفة لصياغة الحياة، من أحباب التدخين وأوليائه، من الأصدقاء، التي تلجم لساني في الرد عليهم، ومنهم صديقي الشاعر الراحل أسامة الدناصوري؛ أن السيجارة هي اللذة الوحيدة المتبقية، وأن التخلي عنها، يمكن أن يسحب معه خيوطًا ممتدة وغائرة في النفس، يمكنها أن تهدم الخيمة على من فيها، فالقبول بخساراتها أهون من التخلي عنها. خسارة صغرى مقابل الحفاظ على اتصال النفس بخيوط ماضيها ولذتها، وتجاربها الجماعية، لأن التخلي يحمل ضمنيًا خسارة للذة الحياة نفسها.


* بدأت فكرة هذا المقال منذ عام 2016، بعد تجربة المرض.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.