تصميم: يوسف أيمن - المنصة

بورخيس ودانتي: القراءة بعين الشغف والبصيرة

منشور السبت 16 أبريل 2022

 

تبدأ محاضرات بورخيس التي جمعت في كتاب سبع ليالٍ (Seven nights) بمحاضرة عن الكوميديا الإلهية لدانتي، ثم تتوالى محاضراته عن البوذية، الكابالا، الشعر، الكوابيس، ألف ليلة وليلة، العمى، طارحًا ملاحظات ذكية وطازجة، تربط كل تلك الموضوعات المتفرقة ببعضها البعض، حيث يظهر غرضها الخفي ببطء.

نظرية بورخيس نفسها عن القراءة والتأويل، وعملية إنتاج الأدب كسلسلة من استنساخات (كما تعلمنا البوذية) ومضاعفات في مرايا (كما تعلمنا الكوابيس والأحلام) وتأويلات للغة مشفرة حيث العالم كله كتاب، والكلمة هي الواقع (كما تعلمنا الكابالا)، عملية لسنا فيها ككتاب إلا محض أيادٍ جماعية تسطر كتابًا واحدًا لمؤلف واحد مجهول، كل ما بوسع بعضنا إضافته هو انحرافات صغيرة ودقيقة (كما تعلمنا -ربما- ألف ليلة وليلة)، وأخيرًا، العمى (كشرط مجازي وحيد كي يمنحنا الفن شيئًا من البصيرة).

في كل مرة تكلم فيها بورخيس عن الكوميديا الإلهية سواء في هذا الكتاب أو في محاضراته التسع الشهيرة عن دانتي، ثمة شيء يتجاوز لعبة الدرس والتأمل، ليس فقط لأنه يرجع خطوة من موقع المعلم المتبصر إلى التلميذ الذي ينقل ما فهمه عن معلم أكبر، لكن بسبب تلك الحساسية الفائقة في تعاطفها وتوحدها مع دانتي، يزيح عنه ثقل التاريخ والتأويلات، وطأة اللاهوت وإساءة الظن.

إن كان إيتالو كالفينو في كتابه لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟ يؤمن بأن "الكتابة بإيجاز هي ابتكار بورخيس الجوهري الذي مكنه من أن يكون روائيًا أيضًا، وكانت الحل الأبسط الذي أعانه على تخطي عقبة الانتقال من المقال النثري إلى السرد النثري. تخيل بورخيس أن الكتاب الذي أراد كتابته قد كتبه آخر بالفعل، كاتب متخيل مجهول، ويتحدث بلغة أخرى، وينتمي إلى ثقافة أخرى، فوصفه وأوجزه، وكتب رأيه في هذا الكتاب المزعوم".

إلا أن بورخيس نفسه يرد هذا الابتكار إلى دانتي "تحتاج الرواية المعاصرة إلى خمسمائة أو ستمائة صفحة لتجعلنا نعرف شخصًا ما، هذا إن نجحت. بالنسبة لدانتي لحظة واحدة تكفي، في تلك اللحظة يتم تعريف الشخص إلى الأبد، سعى دانتي دون وعي إلى تلك اللحظة المركزية، لقد أردت أن أفعل الشيء نفسه في العديد من القصص وقد أعجبت بذاك الاكتشاف الذي ينتمي في الواقع إلى دانتي في العصور الوسطى، تقديم لحظة كشفرة للحياة. عند دانتي لدينا شخصيات قد ترسم من خلال مقاطع شعرية قليلة من ثلاثة أسطر، ومع ذلك تبدو لنا تلك الحياة أبدية، إنهم يعيشون في كلمة، في إيماءة، لا يحتاجون إلى فعل شيء أكثر من ذلك. هم مجرد جزء من أنشودة، لكن هذا الجزء خالد، وعبره يواصلون العيش ويجددون أنفسهم في ذاكرة وخيال البشر".

تلك الملاحظة هي العنصر الجوهري الأول الذي استخلصه بورخيس من الكوميديا الإلهية، أما الأخرى، والتي ذكرها في محاضرة بعنوان "اللقاء في الحلم"، هي فكرة بالغة البساطة والذكاء، أن دانتي وضع "أجمل مؤلف أدبي عرفه العالم" بتعبير بورخيس، ليدس فيه بضعة لقاءات مع بياتريس المنيعة على القبض.

لا يهم إن كان ذلك التأويل يتسم بالدقة، لأن عبره ينجح كما أسلفت في تنقية النص الكثيف من شبكة عنكبوت ثقيلة من النقد والتعليقات والتأويلات، والأهم طغيان التفسير اللاهوتي.

كل تلك العوائق أزيحت بإيماءة تحويل دانتي إلى عاشق، لترده إلينا كشخصية أكثر إنسانية، كما لاحظ كاظم جهاد في مقدمة ترجمته للكوميديا الإلهية.   

وصف نيتشه دانتي بفظاظة أنه ضبع ينشد الشعر بين القبور، فنحن لا ننسى شيئين، أن دانتي كان الشخصية الرئيسية في الكوميديا، التي تخوض الرحلة بنفسها، وأنه كان يتخير من يضعه في الجحيم أو المطهر أو الفردوس، منتقمًا من أعدائه ومانحًا أصدقاءه المكافآت.

في الأنشودة الخامسة من الجحيم، يتأمل بورخيس قصة باولو وفرانشيسكا، العاشقان اللذين ماتا كزناة، يروي دانتي مصيرهما بشفقة لا محدودة، ونشعر أنه يحسد مصيرهما، رغم أنهما عالقان في الجحيم إلى الأبد، أما هو فروحه ستنقذ، لكن أيضًا حظي العاشقان بالحب، بينما لم يفز دانتي أبدًا بحب بياتريس. وعلى الرغم من أن العاشقين يعذبان بالدوران الأبدي في دوامة الجحيم وقد حرم عليهما أن يتحدثا معًا، إلا أن فرانشيسكا عندما تتحدث، تقول "نحن"، كمن تتكلم بالنيابة عنهما معًا، شكل من أشكال التواجد معًا، هما معًا إلى الأبد يتشاركان الجحيم، وهذا بالنسبة لدانتي يجب أن يكون نوعًا من الجنة. في تلك اللحظة يغشى عليه، ينهار كميِّت.

بالعودة إلى رأي نيتشه في الكوميديا يرى بورخيس أن دانتي لا يستمتع بالمعاناة التي يحكم بها على الخطاة. يعلم أن هناك خطايا كبيرة لا تغتفر، ويختار لكل خطيئة شخصًا يمثلها، لكن في كل شخصية شيء يستحق الإعجاب.

إن فكرة الرب غير القابل للفهم أو لفك شفرته، مفهوم نجده في كتاب آخر من الكتب الأساسية للبشرية، سفر أيوب، عندما أدان أيوب الرب، فدافع أصحابه عنه، لكن الله عندما يحدثه من العاصفة يوبخ بنفس القدر أولئك اللذين اتهموه أو دافعوا عنه، لأنه فوق كل عدالة بشرية، والرجال يتواضعون أمامه لأنهم تجرأوا ولو عبر الدفاع عنه بالحكم عليه، الله كما يقول نيتشه، فوق الخير والشر، وهكذا يقبل دانتي إلهه، لأنه يجب أن يقبل أن بياتريس لم تحبه أبدًا وأن فلورنسا حقيرة، أن يقبل شر العالم دون أن يتناقض ذلك مع كونه يعبد إلهًا لا يفهمه.

ما يعنيه بورخيس هنا، أن دانتي ليس بالضرورة متفق مع الإله الذي تخيله، لو صح ذلك لكان إلهًا مزيفًا، مجرد نسخة طبق الأصل من دانتي نفسه.


اقرأ أيضًا| تعليب الفلسفة: في الرواقية الجديدة "سم قاتل"

تصميم: يوسف أيمن - المنصة

دانتي اللاهوتي والمؤمن والأخلاقي يدين الخُطاة، ولكنه، من الناحية العاطفية، لا يُدين ولا يعفو.

يقول بورخيس متوقفًا عند سبب وضع عوليس في خندق المحتالين بالحلقة الثامنة من الجحيم: ينشأ دانتي أسطورة تتخطى ما ورد عن عوليس في أوديسة هوميروس وإلياذة فرجيل، تبدأ من حيث انتهى بعد عودته إلى بينلوب، يدعو رفقاءه ويذكرهم بأنهم على الرغم من أنهم رجال كبار في السن ومتزوجون، إلا أنهم تجاوزوا معه آلاف الأخطار، لذا يقترح عليهم مغامرة إضافية: المرور عبر أعمدة هرقل وعبور البحر لاستكشاف نصف الكرة الجنوبي، يخبرهم أنهم ولدوا للشجاعة والمعرفة والفهم، ويتبعوه بالفعل، لكن المغامرة تنتهي بحزن حيث تهب زوبعة وتبتلع سفينتهم.

لا يعتقد بورخيس أن سبب عقاب عوليس هو أنه المخطط لخدعة حصان طروادة، فقد كانت تلك لحظة ذروة ومجد في حياته، بل لحظة أخرى: المغامرة الجريئة المتمثلة في الرغبة في معرفة المحظور والمستحيل، بطريقة ما شعر دانتي أنه هو عوليس الذي أبحر مغامرًا عبر تأليف كتاب، سامحًا لنفسه بأن يستبق أحكام العناية الإلهية التي لا يمكننا توقعها، ليتجرأ من خلال الشعر على أن يرينا من حكم عليهم بالإدانة ومن اختيروا للخلاص، متعديًا على القانون الغامض للرب واللاهوت، في خرق جلي للحدود الممكنة للمعرفة.