تصميم: المنصة

"تلاجة" الأمن الوطني: أو ما يحدث بعد ركوب ميكروباص الشرطة

منشور الأحد 10 أبريل 2022

 

لم يشعر حسام* بمرور الوقت، فلم يعد يعرف عدد الساعات التي مرت عليه وعيناه معصوبتان، ويداه مقيدتان للخلف، بعد تناوله وجبة بسلة وأرز ولحم. قطع الصمت المطبق صوت صرير باب غرفة الاحتجاز وهو يُفتح، تبعه صوت أحدهم يقول "يالا علشان هتمشي".

كان حسام أحمد في منزله بمنطقة السيوف بالإسكندرية يوم 5 مايو/ أيار 2017 عندما ألقي القبض عليه . كان عمره 34 سنة عندما طرقت قوة أمنية بملابس مدنية بابه في الثانية صباحًا وهو يجلس مع زوجته وابنه.  طُلب منه التوجه للخارج دون أسئلة، ومُنعت زوجته من محاولة اللحاق به. وبعد اختفائه بحث عنه زوجته ووالدته وشقيقاه، في قسم الشرطة التابع لمحل سكنه، لكن القسم أنكر وجوده.

تجربة حسام تشبه تجارب آخرين قُبض عليهم واختفوا فترة، قد تكون يومًا أو اثنين أو عدة أسابيع، قبل ظهورهم في النيابة، دون أن يعلم ذووهم أي معلومات عن مكان اختفائهم أو سببه.

بعد مداهمة منزل حسام، وهو أحد أعضاء حزب الدستور السابقين، اقتاده رجال الأمن لسيارة ميكروباص وعصبوا عينيه قبل أن تتحرك السيارة التي توقفت أمام مكان ما، لينزل منها ويصطحبه الرجال لمكان لا يعرف شكله أو تفاصيله. يقول أنهم ألقوا به في حجرة لمست يده بها مقعد جلدي "حسيت إنه مكتب طالما فيه كرسي جلد. محدش بيرد عليا، وبسأل أنا فين وعاوزين مني ايه، مفيش أي صوت سامعه".

ظل حسام ساعات طويلة في تلك الغرفة، التي حاول تخمين مساحتها أو محتوياتها وفشل، حتى سمع صوت فتح الباب، ليدخل عليه أحدهم ويسأله "أكلت؟"، فيرد "لأ". عاد الرجل بعد فترة من الوقت ووضع أمامه طعامًا وساعده في الأكل لأن عينيه كانتا معصوبتين "أنا لما سمعت صوت الراجل ده بدأت أعرف أنا فين، أنا في أمن الدولة، مقر أمن الدولة، المكان اللي زرته كذا مرة من 2010 لما كانوا بيطلبوني، وكنت بدخل لحد الباب وبعدين يغموني وأروح لنفس الضابط، عرفته من صوته".

رغم أن حسام كان يرغب في معرفة أين هو للاطمئنان، زاد خوفه بعد علمه بالمكان، لأن "أمن الدولة ميطمنش خالص"، فتناول طعامه، ودخَّن سيجارة أعطاه إياها الضابط، ليسأله "عايز حاجة تانية؟"، ليرد "هو أنا همشي ولا هفضل هنا؟"، فقال الضابط "هتروّح".

مرَّ يوم كامل قبل أن يُفتح الباب من جديد ، وجاء أحدهم ليقتاد حسام، فظن أنه سيذهب لمنزله كما وعده الضابط، ولكنه وجد نفسه في نيابة أمن الدولة، يخضع للتحقيق على ذمة قضية سياسية متهم فيها بنشر أخبار كاذبة والانضمام لجماعة إرهابية.

بينما كان حسام يتناول وجبه الطعام في أحد مكاتب الأمن الوطني بالإسكندرية، أرسلت أسرته تلغرافات للنائب العام ووزارة الداخلية تفيد باختفائه بعد القبض عليه وتطلب الكشف عن مكانه، ولكن محضر ضبطه لم يُحرر إلا في اليوم التالي من القبض عليه. وقال حسام أمام وكيل النيابة الذي حقق معه إنه قضى يومًا كاملًا في مقر الأمن الوطني، ودُّونت أقواله بالمحضر.

ما تم مع حسام وغيره يخالف المادة 54 من الدستور، والتي تنص على أنه لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأى قيد إلا بأمر قضائي مسبب يستلزمه التحقيق، كما تتضمن أيضًا أن يُبلغ فورًا كل من تقيد حريته، ويُمكّن من الاتصال بذويه وبمحاميه فورًا، وأن يقدم إلى سلطة التحقيق خلال أربع وعشرين ساعة.

المحامي نبيه الجنادي، قال إن هذا الأسلوب متبع ومكرر مع المقبوض عليهم، لا يذهبون مباشرة للنيابة، ولكن يتجهون أولًا لأحد مقار الأمن الوطني "الحقيقة إن ده بيكون ليه أسباب كتير، أولها إنه ساعات بيتم مناقشة الشخص علشان أخذ معلومات أكتر منه، وبعدين يتعمل محضر تحريات بناء على المعلومات دي، ثم البحث عن قضية لوضع الشخص بها".

عودة للوراء

يصف الجنادي القبض على الشخص ووضعه على ذمة أحد القضايا بـ "الدائرة"، ولكنها تبدأ من نقطة نهايتها، فيروي للمنصّة "البداية المفروض تكون بمحضر من الأمن الوطني، وبعدين النيابة تشوف المحضر وتعمل التحريات، وتشوف هل الشخص ده فعلًا المفروض يتقبض عليه ولا لأ، وبعدين يطلع أمر الضبط، ولكن اللي بيحصل إن الدايرة دي بتبدأ من آخر خطوة، نقبض الأول على الشخص وبعدين نعمل التحريات وأمر الضبط".

الدائرة التي تدور للوراء، حاول حسام إثباتها، ومع أن أقواله سجلت في المحضر، لم يؤخذ بها، وهو ما تكرر مع أحمد الرديني الذي كان أقل حظًا من حسام، فألقي القبض عليه من الشارع، بالقرب من ميدان التحرير في 27 فبراير/ شباط 2020 أثناء مشاركته بتظاهرة لمناصرة أسر ضحايا حريق قطار رمسيس، وتم اقتياده لقسم قصر النيل.

ورغم أن أسرة الرديني ذهبت للقسم للسؤال عنه، أنكر الضباط وجوده، وبعد ساعات لا يعرف عددها كُبلت يداه، وعُصبت عيناه، وتوجه لمكان جديد لا يعرفه "عرفت من العساكر اللي بتدخل لي الأكل وتطلعني الحمام مرة في اليوم، إننا في أمن الدولة، مكانوش بيجاوبوا عليا أكتر من كده، وخلال الفترة اللي قعدتها اللي عرفت بعد كده إنها 5 أيام، كانوا بيحركوني من مكان لمكان ماشي على رجلي وأقعد قدام حد يستجوبني".

صمت قطع صوت أحمد أثناء حكيه، قبل أن يعود للحديث "أسئلة من نوعية انت تبع الإخوان ولا لأ؟ وكنت نازل ليه؟ وتاريخ حياتي كله بتسأل عليه من يوم ولادتي"، لا يتذكر أحمد عدد المرات التي تم استجوابه بها، ولم يكن يعرف عدد الأيام التي اختفى فيها، حتى ظهر في النيابة بعد ذلك في 4 مارس/ آذار، لتتكرر الدائرة التي تعود للخلف مع أحمد، وحررت أسرته بلاغات بشأن اختفائه لم يحقّق بها.

"أخبار كاذبة"

لم يختلف وضع ريهام أحمد* عمن سبقوها، فبعد القبض عليها من منزلها في مدينة نصر في 21 أبريل/ نيسان 2020 في الواحدة والنصف صباحًا، تم اقتيادها لجهاز أمن الدولة بنفس المنطقة، الذي ظلت به 15 يومًا، لا تعلم عنها أسرتها شيئًا، حتى ظهرت في النيابة التي وجهت لها اتهامات في قضية تختلف عن القضايا السابقة، وإن كانت متشابهة، فهي "نشر أخبار كاذبة والانضمام لجماعة إرهابية".

طليق ريهام وأبو ابنتها روى ما قالته لمحاميها "قالت إنها فضلت أسبوعين في مكتب جوه الجهاز، والأكل قليل اللي كان بيدخل لها، وطبعًا المحامي أثبت ده في التحقيق، ومتمش التحقيق فيه، ولا في البلاغات اللي قدمتها الأسرة في فترة غيابها".

اهتمام الأب كان بمعرفة موعد خروج والدة ابنتهما التي لم تتجاوز الثلاثة أعوام، كان الأهم بالنسبة له من معرفة نوعية الطعام الذي كانت تتناوله أثناء فترة الاختفاء، أو كم مرة كانت تذهب فيها لدورة المياه، فكان يتخيل أن المدة التي ستقضيها زوجته خلف الجدران في التحقيقات بعد ظهورها امام النيابة لن تتعدى ستة أشهر كمال قال له المحامون حينها، إلا أنه وحتى الآن، وبعد مرور ما يقرب من سنتين، لا تزال الأم يجدد حبسها على ذمة القضية، دون حساب للفترة التي قضتها في مقر الأمن الوطني.

في "التلاجة"

الجنادي يقول إن أماكن الاحتجاز تختلف من شخص لآخر "مثلًا لو الشخص المقبوض عليه وفي قسم قريب منه، يختفي في أوضه اسمها التلاجة، وهي تابعة للأمن الوطني داخل القسم، وده اللي بيبرره القسم لما المحامي أو أسرة الشخص بيروح يسأل عليه فالقسم بينفي وجوده، لأنه يعتبر إن الأوضة دي مش تبع القسم، هي تبع الأمن الوطني، وبالتالي فالشخص مش على قوة القسم، أما لو الشخص اتقبض عليه من مكان مش قريب من قسم، فبيروح أحد مقرات الأمن الوطني، وممكن يروح القسم فترة وبعدين يروح الأمن الوطني".


اقرأ أيضًا| قضايا "الثقب الأسود": تجديد حبس ممتد

زنزانة- صورة مفتوحة المصدر من موقع pxhere

القاعدة هي أنها لا توجد قاعدة كما روى الجنادي للمنصة، ولكن على الرغم من أن تلك الممارسات تتم خارج ما رسمه القانون، دون قاعدة موحدة، فإنها أصبحت فيما بعد قاعدة "الاختفاء قبل الظهور في النيابة بقى قاعدة، أو نموذج مكرر في حالات مكررة".

ويتفق المحامي جمال عيد، المحامي الحقوقي ومؤسس الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، مع حديث الجنادي، ويرى أن تلك الممارسات ليست حديثة، ولكنها بدأت كظاهرة وانتهت بممارسة منهجية "يمكن أن نتذكر واقعة احتجاز وإخفاء وائل غنيم خلال ثورة يناير في مقر أمن الدولة ، ثم ظهوره بصحبة حسام بدراوي مع الإعلامية منى الشاذلي، ورغم أن واقعة اختطافه وإخفائه واضحة أمام الملايين، فالنائب العام وقتها، عبد المجيد محمود، لم يحرك ساكنًا ولم يُجرِ أي تحقيق مع رئيس الجهاز".

"تكررت الوقائع حتى أصبحت منهجية فيقبض على المواطن ثم يتم إخفائه في أحد مقار الأمن الوطني غالبًا، ويظهر بعدها بأيام أو أسابيع، وقد تصل لشهور، دون أن تبدي النيابة أي اهتمام، ولو حتى بما نص عليه الدستور من ضرورة أن يبلغ المحتجز أيا كان المنسوب إليه ويجري اتصال تليفوني ويحضر معه محام، لكن النيابة تهدر الدستور وتباشر التحقيق"، يتابع عيد.

ويصف المحامي الحقوقي تجاهل النيابة للبلاغات التي تقدم من الأسر بـ"المخالفة التي ترقى لدرجة الجريمة"، وتحول النيابة إلى خصم وليس جهة قضائية تنوب عن المجتمع، لتعطي النيابة بذلك الضوء الاخضر لمخالفة القانون وإهدار حرية المواطنين، وفقًا لحديثه للمنصة.

ما حدث مع حسام وأحمد، تكرر مع عضو حزب الدستور السابق، هيثم البنا، الذي حضر معه الجنادي التحقيق، واختفى لمدة 10 أيام تنقل خلالها ما بين قسمي مصر القديمة والمقطم، وسألت أسرته عنه في قسم مصر القديمة التابع لمحل سكنه وأنكر وجوده، وأرسلت تلغراف للنائب العام، أثبته المحامي في جلسة التحقيق، وطلب الجنادي خلال الجلسة التحقيق في واقعة اختفائه، وهو ما رد عليه وكيل النيابة بالقبول، ولكنه قبول شكلي فقط، وفقًا لما أكده الجنادي.

10 مختفين كل أسبوع

عبارات الاختفاء القسري تحاصر الدولة دومًا، والتي كان آخرها بمنتدى شباب العالم 2022، ليقابل الرئيس عبد الفتاح السيسي سؤالا من أحد الصحفيين الأجانب حول أعداد المعتقلين السياسيين، والمختفين قسرًا، ليرد السيسي "أنت مصر يا أستاذ طارق على السؤال ده وعلى الموضوع ده، وقلت طبعا بداية إن الموضوع ده يبقى من ضمن الموضوعات اللي احنا غطيناها، لكن أنا هطرح عليكوا طرح على الشباب المصري اللي موجود هنا، ولو في حد من الشباب الآخرين، مستعد إن هو ياخد كل البيانات اللي بتطرح وبيتم تداولها في الخارج عن العدد وعن السياسيين، وعن الاحتجاز وعن الاختفاء القسري، ويتم خلال أسبوع اتنين، شهر اتنين تلاتة، يتم الوقوف على حقيقة ذلك، ولما اللجنة دي تطلع بنتايجها نعلنها للناس، ونشوف الكلام ده حقيقي ولا لأ، هل النهاردة في الأرقام اللي بتتقال دي هل ده حقيقي ولا لأ".

وتابع الرئيس موجهًا حديثه للمراسل "أحيانًا بتكون البيانات اللي بتم اللي حصلوا عليها مش حقيقة، ساعات الموضوعات اللي بيتم طرحها مبتبقاش موضوعات كاملة (....) الكلام ده عملناه قبل كده، عملناه قبل كده وكان في لجنة اتشكلت في أول مؤتمر شباب، وخلينا لجنة تشوف الموضوع ده، وأي إجراء خاطئ مستعدين إيه، نصوبه (...) يا طارق انتوا خايفين على ابننا أكتر مننا؟ احنا بلادنا مش لاقيه تاكل مستعدين تساعدونا؟".

في المقابل رصدت منظمة كوميتي فور جستس في تقرير لها خلال عام 2020، ضمن مشروعها لمراقبة أماكن الاحتجاز في مصر، 1917 واقعة اختفاء قسري، تم توثيق 155 واقعة منها، وتصدر شهر سبتمبر/ أيلول 2020، والذي شهد مظاهرات ضد النظام في مصر، قائمة الانتهاكات بما يمثل 23% تقريبًا من إجمالي الانتهاكات (451/1917)، في إشارة إلى استخدام السلطات المصرية الاختفاء القسري كوسيلة لإخفاء الانتهاكات التي تمارسها ضد خصومها السياسيين، كما رصدت المنظمة في تقرير خلال النصف الأول (يناير- يونيو) من عام 2021 فقط، 807 واقعة اختفاء قسري، تم توثيق 114 واقعة منهم بالفعل.

وفي أغسطس 2021 أصدرت المفوضية المصرية للحقوق والحريات، تقريرًا تزامن مع اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري، ذكرت خلاله أن المفوضية وثقت خلال خمس سنوات بداية من 2015 وحتى 2020 حالات اختفاء قسري وصلت لـ2723 حالة، أي ما يعادل عشرة مختفين كل أسبوع، إلى جانب 306 حالات وثقتها خلال العام 2021. 

سُئل هيثم البنا خلال فترة اختفائه عن تدويناته على السوشيال ميديا، وعن حياته، كما هو متبع بتلك المقرات، ولكن تلك الأحاديث التي يُطلق عليها المحامي "استجوابات"، لا توضع في التحقيقات. رسميا، تبدأ التحقيقات فقط أمام النيابة عندما يظهر الشخص للمرة الأولى.

فترات الاختفاء التي تتراوح ما بين أيام لأسابيع، يقابلها دعاوى يرفعها المحامون بالقضاء الإداري، ولكن في أغلب الأحوال يظهر الشخص قبل الوقت المقرر لتحرك الدعوى في المحكمة "الدعوى بتتحرك في المحكمة بعد 6 شهور تقريبًا من إجراءات روتينية، ووقتها بيكون الشخص خلاص ظهر، ولو حصل واختفى عن كده، فاللي بيحصل إن المحكمة بتطلع حكم بإلزام الداخلية بالإفصاح عن مكان الشخص وبس وبينتهي الموقف عند كده، زي ما حصل مع مصطفى النجار الحكم طلع من سنتين وبرضه لسه الشخص مصيره مش متحدد"، وفقا للمحامي نبيه الجنادي.

قضى حسام سنتين ونصف محبوسًا، بينما قضى أحمد ما يقرب من عام ونصف، أما البنا فما زال محبوسا، تختلف القضايا ولكن تتشابه البدايات. يتذكر حسام بداية قصته وهو يحتسي كوبًا من الشاي بينما يشاهد الجزء الثالث من مسلسل الاختيار، الذي يؤدي به كريم عبد العزيز دور أحد ضباط الأمن الوطني. يذكره الممثل بالضابط الذي لا يزال على اتصال به حتى الآن، لا يراه ولا يعرف رقمه، يحادثه من رقم "برايفت" من حين لآخر، ويرسم له حسام في ذاكرته صورة تجمع نصفي وجه "الطيب" الذي يساعده في تناول الطعام وهو معصوب العينان، و"الشرير" الذي تسبب في حبسه، كما يراه.


* اسم مستعار بناءً على طلب المصدر