الصورة من فليكر برخصة المشاع الإبداعي (Ahmad Hammoud).


عن الصحافة المستقلة.. وإلى "المنصة" 

منشور الأربعاء 30 مارس 2022

في تاريخ الصحافة، مئات ومئات من الصحف، قصص وتجارب وحكايات ومعارك فكرية وثقافية وسياسية، كلها دارت عبر كلمات مطبوعة ومنثورة بروح وأفكار كُتابها.

في كل القصص التي حملها تاريخ الصحافة كانت الأكثر حضورًا وتأثيرًا وألقًا تلك الكلمات التي كٌتبت وسط قيود لا ترحم، ومناخ عام يحمل صاحب الكلمة من مكتبه الهاديء إلى السجن أو المنفى أيهما أقرب. وبين الصحافة والسجون في مصر تاريخ طويل وارتباط راسخ.

حفل تاريخ الصحافة بصحف وكتابات كان نصيبها الخلود، فقط لأنها انتصرت للمهنة كما ينبغي، بمعنى آخر ؛ دافعت عن الحقيقة.. رسخت التنوير.. تصدت للاستبداد وقاومته.. فتحت الباب للموهوبين الذين تستحقهم الصحافة، ويستحقونها بكل تأكيد.

تجارب الصحافة المستقلة في مصر على قلتها الشديدة، كما أعتقد، ما زالت حتى هذه اللحظة جديرة بحجز مقعدها في صفوف من يرفع لواء المهنة في مواجهة "اللامهنة" و" اللاصحافة"، تحاول أن تفتح ثغرة في الجدار الصلب، لتصعد بالعمل الصحفي إلى السماء السابعة، بعد أن تدنى به المناخ العام وبعض من أبنائه إلى سابع أرض.

كقارئ عادي، ما زلت أرى  فرصة لدى الصحافة المستقلة، هذا النموذج الذي يمكن البناء عليه؛ خيال خصب وموضوعات صحفية شيقة، وعناوين مختلفة وجذابة وخط تحريري واضح، يعرف ما يدافع عنه وما يرفضه وما يقف منه موقف المحايد، ويكتفي بالشرح والتحليل.

مع تعدد أشكال القيود والحصار الذي تعرضت له الصحافة المستقلة على مدار سنوات، قدمت مئات الموضوعات والأسماء التي تستحق أن تكتب، والتي يستحق القارئ أن يرى كلماتها وأن يتفاعل معها بالسلب والإيجاب، وغاصت في مساحات خاصة ومغلقة لا تقترب منها الصحافة هذه الأيام خوفًا أو "تأدبًا".

حاولت الصحافة المستقلة أن تدخل حقول الألغام، وأن تزيل الأسلاك الشائكة، متسلحة بقواعد وأدبيات مهنة البحث عن المتاعب. هذه تجارب تقاتل ضد الزمن، ليكتبها تاريخ الصحافة في صفحاته، ويؤكد أن صحافة حرة مرت هنا، صحافة ممتعة ومميزة ومشاغبة ومزعجة، تقلق نوم هؤلاء الذين يستحقون أن يطير النوم من أعينهم، وأن تكون الصحافة خصمًا لهم، و"لطشة" على وجوههم، وتبث الوعي في هؤلاء الذين ينتظرون أن يعرفوا؛ وهو دور الصحافة الأصيل في كل قوانين العالم، وقد نجحت الصحافة المستقلة فيما أرادت بدرجة جيدة، إذا ما نظرنا نظرة مدققة للمناخ العام الذي يحكم المهنة.

المؤكد أن هناك قيودًا لا تنتهي تحاصر الصحافة، قوانين وقرارات وسياسات ورقابة تعاملت مع المهنة، خلال السنوات السابقة باعتبارها خصمًا لا للسلطة فقط، بل للدولة أيضًا.

هذا المناخ الخانق، ألقى بظلاله على الأجيال الجديدة من الصحفيين، فمنهم من ابتعد وأٌحبط ومنهم من ينتظر، فقدت مهنة الصحافة خلال السنوات الفائتة كل هذا الشغف، من أجيال جديدة كانت تحلم بما هو أكبر مما تفعله الآن في بلاط صاحبة الجلالة، وكانت تحاول أن تكون موهبتها دافعًا وباعثًا للنجاح والشهرة والتميز، خاب مسعاها ولكنها ما زالت تحاول.

إلى المنصة

الصحافة المستقلة والشجاعة لها جناحان تطير بهما، تحلق لتفتح مساحات جديدة للقارئ أولًا، ثم للعاملين في المهنة ثانيًا، قامت المنصة بالدور الأول بشكل جيد، وما زالت تحاول أن تبني على ما حققت، وتكسب أرضية جديدة رغم الحجب والحصار، لكن عليها الآن في تقديري أن تقوم بالدور الثاني كما ينبغي، تفتح مساحات جديدة لكل الموهوبين والمجتهدين، تعبر ببساطة عن أحلام قارئها، وعن أمنيات كل من لا زال يحلم بأن يكتب ويكشف ويقاوم.

أجيال شابة وواعدة من الصحفيين في مصر في انتظار فرصة ولو صغيرة، تنقلهم من ظلمات الإحباط والانسحاب إلى نور العمل الصحفي وفرحة تقدير الموهبة. تحتاج المنصة أن يتحول دورها ومكتبها الهادئ والجميل في المعادي إلى ساحة للموهبة، تستقطب كل هؤلاء الواقفين في الطابور الطويل في انتظار الفرج.

كل المساحات المغلقة والمناخ الخانق الذي تعيشه الصحافة ألقت بمسؤولية كبيرة على الصحافة المستقلة، صحيح أن هذه المسؤولية تحتاج إلى إمكانات أكبر مما تملكه اﻵن، وصحيح أن سوق العمل به المئات من الموهوبين بما يفوق قدرة الصحف المستقلة على الاستيعاب، لكن المؤكد أن عليها المحاولة والإيمان بأن هذا هو أحد أدوارها الذي حدده لها المناخ العام دون أن تقصد، وبغير أن تطلب، قدر هذه الصحافة المختلفة، وفي القلب منها موقع المنصة، أن تحاول وأن تسعى، ربما استطاعت أن تحقق المعادلة وأن تصبح خطوة على الطريق الصعب.

مصر الممنوعة من حرية النشر وحرية الإصدار لا يحق فيها حتى هذه اللحظة لشباب المهنة بأن يحاول أو ينجح، فلو أن هناك حرية لإصدار الصحف لكانت المهمة أخف على الصحافة المستقلة، لكن للأسف الشديد فإن حصار حرية إصدار الصحف يلقي بدور كبير على المنصة، وغيرها ممن يحاول أن يرسخ للصحافة الجادة، ويتمسك بالدور الحقيقي الذي تلعبه الصحف في بناء أي مجتمع عصري ومتقدم.

ثم أن على المنصة وهي تقوم بدورها الهام أن تزيد من مساحة اشتباكها مع الأحداث اليومية، وهنا لا أقصد بالطبع الأخبار ذاتها، بل ما وراء الخبر، وتقدمه للقارئ في صورة القصة والتقرير والحوار والتحقيق، فالموقع على اختلافه وتميزه لا زالت مساحة الاشتباك مع الأحداث لا ترقى لدوره وتأثيره، هذا الاشتباك قد يكون أحد عوامل فتح الباب لأجيال جديدة تستطيع أن تكتب وتبدع. 

هذه دعوتي للمنصة بأن تصب كل أفكار تطويرها القادمة في محاولة البحث عن إجابة للسؤال الصعب"كيف يمكن أن نساهم في تجديد دماء المهنة بمنح فرص أكبر للموهوبين والمجتهدين والمؤمنين بدور الصحافة ورسالتها؟ وكيف يمكن أن تفعل هذا في ضوء إمكانياتها البسيطة ومواردها المحدودة؟ وكيف يمكن أن يتحول مكتب المنصة إلى ساحة ومكان لكل هؤلاء الحالمين بالنجاح، الذين لديهم الاستعداد للعمل والاجتهاد لتقديم صحافة حقيقية تعبر عن الواقع الذي نعيشه، وتصفه بدقة ونزاهة وحيادية، وتقدم الحقيقة لهؤلاء الذين لا يسمعون إلا صوتًا واحدًا لا شريك له؟


اقرأ أيضًا| الصحافة الآن: من يفلت بمعلومة يلتهمه الرقيب 

 


أظن أن دعوتي وهي تحمل الحب والتقدير للمنصة، هي واحدة من الأحلام التي ما زال يتمناها ويرجوها أهل مهنة الصحافة، وهو دور سيكتبه تاريخ الصحافة تمامًا، كما سيكتب بحروفه المضيئة كل التجارب المهنية والوطنية التي ما زالت تحاول رغم الحصار والقيود، أن تقدم كل ما هو جاد ومختلف وحقيقي، وسط كم لا ينتهي من الهزل والعبث والإسفاف.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.