تصميم: يوسف أيمن - المنصة

خادمة المسجد حاكمته: لذة السلطة وهي تمس المهمشين

منشور السبت 23 أبريل 2022

عندي قناعة كبيرة أن للسلطة لذة، ولذتها خفية وخادعة، لا تراها سوى وأنت مفعول به، وما أن تتبدل الأدوار والمواقف والأحداث، وتصبح أنت الفاعل، لا تصدق أنك بت ممسوسًا بمسٍّ شيطاني، مدفوعًا بنشوة، وأنت تأمر وتنهى وتحكم أو تنظم، ولو طابورًا طويلًا ينتظر قضاء حاجة ما.

تلك النشوة تصيبها كل عام. خادمة المسجد الذي اعتدت أن أقصده في صلاة التراويح، أو أم هبة كما تناديها بعض السيدات، ودائمًا ما كانت تلفت نظري. نحيفة، على مشارف الستين، ترتدي خمارًا وتمسك عصًا، وتجلس على بوابة المسجد الذي تصل إليه بعد أكثر من 20 درجة سلم خشبي ضيق، تستقبلك بعصاها معظم الوقت، حتى يخيل إليك أنك داخل إلى مدرسة، قبل أن تبدأ في إلقاء الأوامر "من هنا، لا تنسو الأحذية، لا ترتدوا البناطيل، أسرعوا فالصلاة على وشك أن تبدأ"، أي شيء، المهم أن تتحدث.

لا مشاعر محددة تتملكني تجاهها من حب أو بغض، وحده الفضول، كان يغلبني، أظل أتأملها بين الحين والآخر، وهي تضبط الصفوف، أو ترش معطرًا خلال الصلاة، أو توزع المياه، أو تزعق فيمن يدخلن إلى الحمامات ويتركن الصنابير مفتوحة، أو أي شيء لا يعجبها، والدور الأهم والأكبر أن تلاحق الصغيرات كي يجلسن دون "دوشة"، أو تستخدمهن لتوزيع المياه.

كان ذلك قبل الجائحة، حُرمنا عامًا بعدها من الصلاة في المسجد، والعام التالي 2021 حين سُمح بالصلاة بضوابط، عادت السيدة لتمارس دورها على نحو أكثر حدة، إذ أضافت قرارات تحديد سعة المساجد إلى سلطاتها غلق باب المسجد حين يكتمل العدد، وتجاهل الطارقات أو الدخول في وصلة من الشد والجذب معهن، حين يطرقن الباب دون فائدة.

وذلك العام، أقصد 2021، لم تكن الصلاة مسموحة أصلًا للنساء سوى في مساجد محددة، ولم يكن المسجد هذا، الذي يقع في منطقة شعبية في ضاحية الهرم، من ضمنها، لكنه كان يفتح أبوابه للسيدات والرجال، على السواء، في فعل مخالف، أعجبني مواجهته للتمييز الصادر في قرار الأوقاف ضد المرأة، وكأن كورونا لا تصيب الرجال.

قصدت المسجد هذا العام، بشوق حالة روحانية تتصل بعد انقطاع، وفضول لرصد ما تغير في سلطة أو سطوة خادمة المسجد، وعندي تصور أن سلطتها ستتقلص، فكورونا باتت نكتة أو شبحًا خفيًا، لا يُحسب له حساب في الشارع والوجدان الشعبي، كما أن قرارات الأوقاف سمحت بالصلاة للنساء في جميع المساجد.

تقاسم السلطة أو النشوة

لكن المفاجأة كانت في تعاظم تلك السطوة، وانتفاخها الناتج عن تنافس، إذ باتت تشارك أم هبة في حكم المسجد سيدة أخرى، أظنها واعظة من الأوقاف، بعدما تضمنت شروط الوزارة لمصلى السيدات وجود واعظة، تراعي الانضباط وسير القرارات، وكأننا في قاعة محكمة لا دار عبادة، وكأن المساجد تنقصها أمهات هبة أخريات.

ربما كان في الإرث الطويل مع الجماعات الدينية، التي لم يغب فيها دور المرأة في الاستقطاب، سبب في الحرص على وجود الواعظة، كعين للوزارة داخل المسجد، حتى وإن مارست كل شيء إلا الوعظ. وظاهريًا، لم تحاول السيدة الأربعينية، أو الواعظة، أن تسحب من أم هبة نفوذها على نحو مباشر، لكنهما وقفتا تتباريان فيه على الباب، حتى أفقدتا المكان روحانيته، وأفقدتاني التركيز فيما جئت من أجله.

بدلًا من أن تستقبلك أم هبة وحدها، انتصبت إلى جوارها الواعظة التي ينم مظهرها عن الانتماء إلى طبقة أعلى، انتظمتا معًا كهيئة محلفين، تقرران من تدخل ومن تخرج من المسجد، تطبقان الشروط بصرامة ضابط، من لا تملك كمامة تنزلانها بشدة وجمود، تصل إلى درجة "الشخط" حتى إذا كانت سيدة عجوز، تأمرانها أن تشتري واحدةً كشرطٍ للدخول.

لحسن حظي، كانت معي كمامة، لكني لم آتي بمُصليّتي. سألتني عنها أم هبة قبل أن تسمح لي بالدخول، أجبت بلا مبالاة "ليست معي"، بينما أخلع حذائي لأدخل المسجد، تساهلتا معي، ربما لشعور أن مثلي قد تكون مشاغبة ولن تخضع ببساطة لأوامرهما، وربما شفعت لي الكمامة.

دخلتُ، جلستُ في موضع قريب منهما، بعد دقائق بدأت الصلاة، لكنها لم تبدأ بعد بتوقيتهما، ظلتا تمارسان دورهما في الفصل العنصري بين الملتزمات بالكمامة اللائي يسمح لهن بالدخول، والممنوعات لفقدها، وإطلاق عبارات اللوم على القادمات اللاتي لا تنطبق عليهن القواعد، وكيف أن المتأخرات سيحرمانهما من اللحاق بصلاة العشاء.

بدأ الإمام الصلاة، وكانت أول صدمة أن صوته ليس ذاته المألوف عندي، كان آخرَ جامدًا كلاسيكيًا يفتقد البحة والشجن، يصعب أن يصحبك في أي رحلة روحانية، خصوصًا وصوت زعيق أم هبة والوافدة الجديدة في القادمات؛ انزلن، ادخلن، اجلسن، ارفعن الكمامات، أو إشارة إلى صغيرات أوقفتاهن في الأسفل لمساعدتهن في التنظيم بغلق الباب "خلاص العدد كمل"، رغم أن المسجد كان فارغًا، حتى بالنظر إلى المساحة بين كل مصلية وأخرى.

من يملك مفتاح الهواء؟

درجة الحرارة تقارب الـ30 درجة في الخارج، أما المسجد فبداخله تكييفات ومراوح عديدة، ونوافذ كبيرة، لكن بأمر الحاكمات، كلها مغلقة، وحين اشتكت المصليات وأنا منهن، وقمن بالفعل بفتح المراوح، ردت علي الواعظة "أنت شابة، توجد مسنات ميستحملوش المروحة"، وكأن المسنات، عاجزات فقط عندما يتعلق الأمر بـ"لفحة الهواء"، لكنهن في عين الحارستين شابات عندما ينسين الكمامة، يكون عليهن نزول السلم وصعوده ليحصلن على واحده.

انتظمت الصفوف المتباعدة داخل المسجد الذي لا تستطيع أن تكشف كل أجزائه وأنت واقف في نقطة معينة، فتصميمه ليس وحدة مربعة واحدة، بل تحول بفعل التعديلات والتوسيعات الكثيرة التي شهدها على مدار أعوام، إلى جزء قديم تشم فيه رائحة الزمن معبقة، لا يزيلها معطر أم هبة، وجزء آخر حديث كان غرفة مغلقة، قبل أن يُهدم الحائط ويتوسع المسجد.

وكتأثير سينمائي، لكنه عفوي غير مقصود، تخفت الإضاءة في الجزء القديم الذي تتربع عند بابه أم هبة والواعظة، ويزدا النور ويسطع تدريجيًا كلما ابتعدت إلى الجزء الخلفي، الجديد المفضل عندي، ولسوء حظي، ذهبت متأخرة، فلم أجد مكانًا سوى في الجزء القديم الخافت.

مر اليوم على غير ما اشتهيت، فسطوة "أم هبة" صارت سطوتين، ولم تعد زجاجات المياه توزع، بالإضافة إلى جولة الواعظة التي كانت تأمرنا برفع الكمامات، فيما هي تضعها أسفل أنفها.

بين زعيق الأوامر، وصوت طرق القادمات المستمر على الباب والمتواصل في معاندة لقرار غلقه في وجوههن، مر اليوم بسرعة، دون أن يلطفه أي شيء، حتى قراءة الشيخ الذي اعتدته، والذي لم تكن تعجبني كل آرائه، لكن صوته كان يكفيني كحافز  لقطع مسافة ليست قصيرة قاصدة ذلك المسجد بالذات، وتحمّل أفعال "أم هبة".

رحلة عقابية إلى الفيوم

صاحب الصوت المألوف لم يظهر قط، وحين سألت أجابتني واحدة كانت تصلي إلى جواري وتتأهب للخروج بينما نتكدس عند الباب الضيق ننتظر دورنا، "الشيخ في الفيوم، ربنا يجيبه بالسلامة"، تعجبت من سبب قد يجعله يسافر في ذلك التوقيت المقدس عنده، سألتها "هل أقاربه هناك وذهب في زيارة؟"، فنظرت لي وكأنها تتحدث عن سجين "نقلوه، ربنا يرده بالسلامة، بعد العيد على طول".

لم أتعجب حين علمت خبر نقله، ولم أسأل وقتها عن السبب، فصوت المرأة المنخفض ووجود  الواعظة وأم هبة على مقربة منا، جعل الحوار ينتهي، وكان ذلك آخر عهدي بالمسجد الذي بات صارمًا في اتباع الأوامر والتعليمات.

أزهريًا كان ذلك الشيخ، لكنه معروف بآرائه التي لا تعجب الدولة، فضلًا عن تجاوزه في قرارات التوقيتات المحددة، هذا بخلاف شعبيته فهو محبوب في المنطقة، يسير بثوب أبيض ناصع، وصوت حلو هادئ، وصندوق تبرعات ملحق بالمسجد لتوزيع الزكاة على الفقراء، ما أكسبه لدى البعض شعبية مرشح رئاسي، وهي أمور ليست مطلوبة حاليًا في رجال الدين.

تنبأت لسنوات كثيرة بإبعاده عن المسجد، غير أن ذلك لم يحدث، وتخيلتُ أن عودته في خطبه المتأخرة إلى الصحابة وزمن النبوة، وهجر الحاضر والتعليق عليه بأي صورة، سيحميه ويحول دون إبعاده عن الجامع، لذا دفعني فضولي لأن أعرف ملابسات نقله، فسألت مصدرًا قريبًا منه، فأخبرني أن قرار النقل العقابي وقع قبل 6 شهور، بسبب أن شخصًا أبلغ عنه أنه يمد في خطبة الجمعة عن الوقت المحدد له بـ10 دقائق

نجاة من المقصلة

وتلك المقصلة التي أطاحت بشيخ المسجد، نجت منها أم هبة رغم أن مظاهر حكمها تفوق ما كان لدى الشيخ وهي تأمر وتنهى فينا، ربما كانت سياسة العصا لفرض الأوامر، شفيعًا لبقائها دون إقصاء، حتى مع قدوم الوافدة الجديدة.

هي ليست شريرة بالمناسبة، على العكس تمامًا، هي فقط سلطوية جدًا، يخيل لمشاهدتها أنها كانت ناظرة مدرسة أو معلمة، اعتادت الزعيق وإطلاق الأوامر، أو أنها كانت تحلم أن تصبح منظمة مرور، لكن انتهى بها الحال هنا في المسجد، مشرفة، في دور، لا أدري من اخترعه أو ما الجدوى منه، ولما يمكن أن يؤديه أحد وهو يمسك عصا، حتى إذا كان لغرض إسكات المثرثرين.

 

لا أعلم بالضبط ما مؤهلات خادمة المسجد، وأعتقد أنها ليست إعجازية، ولا أعلم ممن اكتسبت سياستها في ضبط الأمور، أو متى اختبرت نشوة السلطة، التي كانت تمارسها أشد ممارسة على الصغيرات اللائي حُرمن من القدوم هذا العام، فلم يعد مسموحًا بدخول الأطفال بحسب قرار الأوقاف، فيما سمعتها تقول لواحدة عمرها 17 سنة "لا كده تدخلي أهلًا وسهلًا" مصحوبة بعبارة "الصغيرين ممنوع".


اقرأ أيضًا|اكتساب المكانة بخرق القواعد: سقوط القناع عن وجه القانون الخفي

 


لا أدري كيف تعيش أم هبة حياتها العادية خارج حدود سلطتها، لكني أتصور أنها مسكينة، كغالبية من يسكن ذلك الحي الشعبي، خصوصًا من النساء، اللاتي لا يعلمن عن حقوقهن الكثير، ويكبرن في بيئة ذكورية من الألف إلى الياء، تصبح الأمهات فيها حلقة إنتاج ممتدة، لكن ما ذكرني به نموذج أم هبة وغيرها، أن كل منا يملك حاكمًا داخله يشتهي أن يظهر كي يمارس دوره على الآخرين، أو كما قال عالم الاجتماع الفرنسي جوستاف لوبان "للسلطة نشوة تلعب بالرؤوس كنشوة الخمر". 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.