التنافر المعرفي- لوحة برخصة المشاع الإبداعي من فليكر

لماذا نحب أعمالًا فنية تتعارض مع قناعاتنا؟

منشور السبت 18 يونيو 2022

يحدث أن يستمتع معاد للمثلية بشخصية تؤدي ما يرفضه في أحد الأفلام، أو أن يحب شخص أغاني عبد الحليم حافظ القومية لكنه يكره في الوقت نفسه جمال عبد الناصر، أو يجمع ثالث في تفضيلاته بين موسيقى باخ وبيتهوفن الكلاسيكيتان وأغاني المهرجانات، فيما تفتتن ناشطة تدافع عن حقوق المرأة بأم كلثوم التي تنسحق في أغنياتها أمام حبيبها.

ذلك التناقض بين الذوق الفني والمنطق الفكري لشخص ما، يعكس بشكل كبير التعقيدات الإنسانية والمزاجية في تعاطيها مع الأعمال الفنية، وكل ما يخاطب الوجدان الإنساني، ويطرح سؤالًا بالغ الأهمية: لماذا تعجبنا أعمالًا فنية تتعارض مع قناعتنا الفكرية ونهاجم أخرى قد نتلذذ بمشاهدتها في الخفاء؟ أو نعجب، أحيانًا، بأعمال فنية تتسامح مع فكرة نعارضها، فيما نعارض أخرى ربما تحتوي على الفكرى ذاتها؟

لا حصر لإجابات ذلك التساؤل، وهي تأويلات تختلف باختلاف المنظور النقدي الجمالي، الذي قد نستخدمه في الإجابة، فمن ينظر للفن، مثلًا، بعين تمجد التأثير الاجتماعي على إنتاج وتذوق الفن، سيختلف عمن ينظر إليه بعين تعتبر الفن منتجًا فرديًا، وذائقة فردية، ولكن الأكيد أن في الفن شيء إنساني يتجاوز القوانين والأفكار التي تقيد نظرتنا إلى الأشياء، حسبما يرى الناقد والأديب الفرنسي جان كاسو Jean Cassou  في كتابه موقف من الفن الحديث Situation de l’ art modern.

بين اللذيذ والجيد

هناك فارق بين الفن الجيد وبين الفن اللذيذ، هكذا يدور الصراع في عقولنا وفقًا لما تمليه علينا أمور بداخلنا تتعارض مع منطقنا في فهم الأمور؛ حسبما يرى الفيلسوف الإيطالي ب. كروتشه Benedetto Croce في كتابه فلسفة الفن.

فقد يكون شخصا يُحَرم عقله الأفلام الجنسية، ولكنه قد يشاهدها في لحظات تلاحقه فيها غرائزه، ذلك الشخص نفسه ربما يدافع بقوة عن فيلم ديني تاريخي رغم أنه قد لا يسبب له أي متعة فنية، ولكن عقله المنطقي يرى فيه قيمة كبيرة، فيما يهاجم بالمقابل الأفلام السينمائية التي تحتوي على مشاهد بها تحرر من القوانين الاجتماعية الجنسانية المسيطرة عليه، مثل أصحاب ولا أعز، رغم أنه قد يستمتع بمشاهدته في الخفاء.

وينطبق على ذلك نظرية ب. كروتشه التي تعتبر أن الفن لا ينشأ عن الإرادة، فلئن كانت الإرادة قوام الإنسان الخيِّر فليست قوام الإنسان الفنان أو متذوق الفن، باعتبار متذوق الفن يحمل بداخله فنانًا لم يكتمل، ولئن كان الفن غير ناشئ عن الإرادة فهو في حلٍ عن كل تمييز أخلاقي. لذلك فإن اللحظة التي يتحرر فيها الإنسان من سطوة القيود الاجتماعية يستجيب لهذا الفن بحدسه رغم رفض عقله المنطقي له، ولكنه تحت سيطرة القيود ينسجم أكثر مع منطقه العقلاني فيغيب حدسه، ويتكلم وفقًا للقيم المنطقية التي تحكمه.

فالفن عند كروتشه، ويتفق معه كثيرون، ليس معرفة مفهومية بل حدسية تأت من منطقة أعمق من عقلنا الواعي، والمعرفة المفهومية واقعية النزعة دائمًا، أما الحدس فمعناه محو الفرق بين الواقع واللاواقع، ليبدو هذا الخيال الفني كالواقع بالنسبة للمتلقي، كحلم النائم، يراه كالواقع ثم يستفيق.

لحظة إنسانية

"كل فن  وليد عصره، فهو يمثل الإنسانية بقدر ما يتلاءم مع الأفكار السائدة في وضع تاريخي محدد، ومع مطامح هذا الوضع وحاجاته وآماله"، يقول الناقد إرنست فيشر Ernst Fischer في كتابه الأهم ضرورة الفن The Necessity of Art. والفنان، وبالتبعية المتذوق للفن، يختار موضوعاته من الوسط الذي يعيش فيه، فالفن يعكس بوضوح تلك البيئة الاجتماعية الخاصة التي يصدر عنها.

ومعنى ذلك أن أغنية عبرت عن طموحات وآمال شعب في لحظة معينة، قد يصبح من الغريب أن تجد صدى لها بعد 60 سنةً من طرحها.

 

أغنية مطالب شعب لعبدالحليم في حفلها شهدها الرئيس جمال عبد الناصر


كثير من أغنيات عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وغيرهما من التي حملت هما سياسيًا أو اجتماعيًا في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، لا زالت مشاهداتها على المنصات الرقمية تشير إلى سماعها من قبل جمهور لم يعشها في زمن صدورها، رغم أن الظروف والهموم التي عبرت عنها تلك الأغنيات تغيرت، والأغرب أن تجد ذلك الشاب معارضًا لمضمون تلك الأغاني ورغم هذا يستمتع بها.

هذه الغرابة ربما يكمن سرها في أن الفن يحول اللحظة التاريخية إلى لحظة إنسانية خالصة، لحظة تفتح الأمل نحو تطور متصل؛ فتاريخ الإنسانية،  شأنه شأن العالم ذاته، ليس مجرد طفرات وتناقضات، وإنما هو أيضًا اتصال واستمرار، فنحن نحتفظ داخل نفوسنا بأشياء قديمة يبدو أن الزمن عفا عليها، على حين أنها تحدث فينا أثرها، وذلك غالبًا دون أن ندرك، ثم نجدها فجأة طفت إلى السطح، حسبما يرى فيشر.

ماذا يمنع الليبرالي إذن، وفقًا لفهم فيشر، أن يعيد الاستماع إلى أغنية سمعها ولو بشكل عرضي، فلمست فيه شيئا إنسانيًا متجذرا فيه، في زمن لم تكن تبلورت فيه ليبراليته، واختزنت في عقله اللاواعي، ثم ساعدت الظروف على إعادة خروجها لتهاجم عقله الواعي بكل ما تحمله من شحنات عاطفية، رغم أنه صار يعيش في زمن نضجت فيه أفكارًا لم تكن نضجت لديه وقت أن سمعها أول مرة؟

الشكل قد ينتصر على المضمون

من ناحية أخرى يرى عالم النفس الفرنسي ديلاكروا Delacroix في كتابه سيكولوجيا الفن LA PSYCHOLOGIE DE L'ART، أن الفن في ذاته لا ينحصر في اختيار الموضوعات بقدر ما ينحصر في طرق صياغتها والتعبير عنها، أي أن شكل هذا المنتج الفني هو ما يحيلنا إلى فكرة الانجذاب إليه أكثر من المضمون.

هناك من يرفعون شكل العمل الفني على مضمونه، ويرون أن المضمون مسألة ثانوية، كما يرى الفيلسوف واللاهوتي الإيطالي توما الإكويني.

شكل اللحن والبناء الشعري والتعابير الكلامية واللحنية والهارمونية الموسيقية للأغنية في ذلك الزمن الاشتراكي، أمور قد تجعل شخصًا ليبراليا يتجاوز الحديث عن الاشتراكية مثلًا في أغاني الستينيات، حبًا في ذلك الشكل الفني المغرم به. مسألة قد تجعل شخصًا واقعيا يحب عملًا مضمونه رومانسيًا، لكن شكله الفني يروق له؛ فإنسانة لا تؤمن باحتمالية انسحاق شخصيتها حتى ولو بسبب الحب، لا يمكن أن تحب مقولة أم كلثوم في ذاتها "صعبان عليّ جفاك.. بعد اللي شفته في حبك/ مش قادر أنسى رضاك.. أيام ودادك وقربك/ لكن أعمل إيه وأنا قلبي لسه صعبان عليه منك"، لكن نفس الإنسانة قد تحب الشكل الفني لكلمات أحمد رامي ولحن رياض السنباطي وأداء أم كلثوم القوي، وتعيش معه بعنف، في حالة تشبه الانفصام.

 

أغنية هجرتك لأم كلثوم


بل ويجوز أن تتفرع هذه المتلقية إلى الإعجاب بتفاصيل هامشية في شكل العمل الفني، كشكل الفرقة الموسيقية، وشموخ أم كلثوم ولغة جسدها القوية، وشكل الفساتين والبدلات، وتراص الجمهور في مسارح الستينيات، الذي له سحر لا يستطيع مقاومته كثيرون منا.

اللا منتمي

قد يجد هذا التناقض تفسيرًا آخر عند أصحاب المذهب الميتافيزيقي لتطور الفن كأفلاطون، الذين يقولون إن الفن يمكن أن يتطور مستقلًا عن الظروف الاجتماعية، كما توضح نور يشار حاج رجب، في دراستها الفن في فلسفة هربرت ريد؛ فبما أن الفن مستقل في إنتاجه، فقد يكون مستقلًا أيضًا في تناول المتلقي له، غير متأثر بأفكاره التي اكتسبها من مجتمعه.

هذا الاستقلال يأخذنا إلى مستمع أو مشاهد يريد الهرب من زمنه وظروفه، بل يريد الهرب من أفكاره ذاتها عن طريق الفن إلى زمن وأفكار لم يعشها، لعله يجد في هذا العمل الفني المتعلق بظروف وزمن وأفكار أخرى عالمه الجديد، زمن ربما أتى قبل ذلك وربما لم يأت، ولكن الفن يبشر به.

وهو اتجاه دعا إليه الفيلسوف الإنجليزي كولن ولسون في كتابه اللا منتمي The outsider، برفض الالتزام بأي شيء، والتحرر من الارتباطات الاجتماعية جميعًا، لإنقاذ كيانك الوجودي فقط. وتقترب فكرة ولسون مع فكرة الأديبة الأمريكية الشهيرة جرترود ستاين الداعية إلى "الهروب من المجتمع" والشعور بالوجود الخالص، غير المرتبط بالمجتمع، فالوردة هي "وردة، هي وردة، هي وردة" بلا ارتباط بأي واقع اجتماعي، بحسب قولها الذي نقله عنها إرنست فيشر.

وبما أن الوردة هي وردة فقط، بعيدًا عن دلالاتها التي تختلف من شخص لآخر، فإن موسيقى كارمينا بورانا Carmina Burana للألماني كارل أورف هي موسيقى نحبها فقط، بصرف النظر عن صدورها في أحضان النظام النازي.

 

موسيقى كارمينا بورانا Carmina Burana للألماني كارل أورف


على العكس، فإن هذا الهروب قد يطرأ على ذهن إنسان يعيش في قوقعته الفكرية والروحية في زمان غير زمنه، وفجأة وهو مندمج مع أفلامه وموسيقاه الكلاسيكية القديمة، يهاجمه الواقع بمهرجانات حسن شاكوش وعمر كمال، فينتفض راقصًا معها، مرددًا "عود البطل ملفوف وأنا لسه ياما هاشوف"، متماهيًا مع السياق السائد في زمانه ومكانه.

 

مهرجان عود البطل


الذات لا تتنكر لنفسها

مسألة عدم الانتماء أو الهروب من قيود المجتمع تقاومها فكرة أن الذات لا تتنكر لنفسها ولا تتنازل عن جوهر حياتها الذهنية، حتى وهي في صميم لحظة التأمل أو الإيحاء الفنية.

فحين تستغرق ذاتك في تأمل موضوع جمالي فهي في الحقيقة تتأمل نفسها، ولذلك فإن التأمل الفني أشبه بسعي الذات إلى البحث عن نفسها، وفي هذه اللحظة تُسقِط الذات عليه حالاتها النفسية، بحثا عن مثالية ترجوها، حسبما يقول أستاذ الفلسفة فيكتور باش في مقالاته عن الجمال والفلسفة والأدب Essais d'esthétique, de philosophie et de littérature.

ولذلك يرى باش أن الفن هو المملكة التي يتحقق فيها التوافق بين عالم الوجدان وعالم العقل، وبين الفردي والاجتماعي، بين الذاتي والموضوعي، بين الروح الإنسانية والطبيعة نفسها، فهو (أي الفن) يستحيل إلى درب من المشاركة الصوفية.

غير أن كلام باش لا يتحقق دائمًا، فقد يكون الإنسان متسقًا من حيث الظاهر مع أفكار معينة، ولكن في منطقة أعمق من تفكيره أو حتى في اللا شعور تراوده أفكارًا مختلفة، ربما يصل بها الاختلال إلى التناقض الكامل مع أفكاره الواعية.

وبما أن حقيقة الإنسان عمومًا لا تظهر عليه كلية في وقت واحد، بل بعضها مختفي حتى عنه هو نفسه أحيانًا، فإن الإنسان ذي الروح الفنية القوية هو القادر على مواجهة أفكاره الظاهرة وبيئتها الحاضنة بكلمة "لا"، أو بما يناقضها من داخله هو.

فالإنسان الفنان يميل أكثر إلى الفردية والتلقائية أو إن شئنا "الحرية"، لأن أصالة الذوق والإحساس في صميمها مسألة ذاتية لا تقبل أية إحالة اجتماعية أو أي تفسير اجتماعي، حسبما نفهم من أستاذ الفلسفة زكريا إبراهيم في كتابه فلسفة الفن.

هذه التناقضات بين الوعي واللاوعي في نفسية الإنسان الفنان أو المتذوق للفن، قد تجعلنا نعذر تناقضاتنا وتناقضات الفنانين، خاصة حين نتذكر مقولة الفيلسوف ريمون باير Raymond Bayer في أطروحته الجمالية Traité d'esthétique "إن عصيان شيطان الفن هو في الحقيقة أعظم موهبة وأشق قدرة يمكن أن يتمتع بها عاشق الفن؛ فهو أعجز العشاق جميعًا عن الصمت وأشدهم ضيقًا بالكتمان".

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.