عوض ونجله خلال عملية صناعة الفخار- تصوير: أحمد مصطفى- إذن خاص للمنصة.

فخار الصعيد في خطر: تبطين الترع يحفظ الماء ويكسر الزير

منشور الخميس 16 يونيو 2022

 

عبر طريق منسافيس الخلاب بالأراضي الزراعية، تصل إلى أسرة الحاج عوض محمد التي تقطن قرية الحواصيلة في مركز أبو قرقاص في محافظة المنيا. تعمل العائلة في صناعة الفخار أبًا عن جد، فيما بات عملهم اﻵن مهددًا بفعل مشروع "تبطين الترع".  

يبدأ الأب عمله، فيما ابنه الأكبر  يساعده على حمل الأزيار الثقيلة ليضعها خارج الورشة على بر الترعة، حتى تنغمس في أشعة الشمس وتنضج، يناوله الابن الثاني كوبًا من الماء كي يلين به الطين تحت يديه، أما الابن الأصغر الذي يقف على مقربة من والده بترقب، يتولى مسؤولية عجلة الفخار. 

لا تقف الزوجة الدؤوبة بعيدةً عن هذا المشهد الحميمي، بل تساعدهم بالحديث والشاي الذي لا ينقطع، كما تشارك في الصناعة نفسها من وقت لآخر. يفتخر الوالد بأولاده ويتذكر نفس المشهد بينه وبين ابيه قبل سنوات من زواجه، كأنها حلقات متصلة لم يقطعها الأمد البعيد، حتى الآن.

 

عقبات أمام الفخار

والعقبات التي يواجهها عوض وأولاده ظهرت منذ عامين، بالتزامن مع المشروع القومي الذي بدأته الدولة في مارس/ آذار 2020  لتبطين الترع والمصارف في ربوع مصر من الشمال إلى الجنوب. ويهدف المشروع إلى خفض ما بين 15 إلى 19 مليار متر مكعب من المياه، تهدر في الشبكة المائية على طول مجرى النيل، سواء من مياه النهر أو الأمطار أو المياه الجوفية أو المعالجة، بحسب الهيئة العامة للاستعلامات.

وفيما يساعد المشروع على رفع كفاءة الري بالغمر في الحقول من 50% إلى 75%، ويعمل كذلك على زيادة إنتاجية ما لا يقل عن 250 ألف فدان من الأراضي الطينية، فإنه يهدد على الجانب الآخر صناعة الفخار، التي تعتمد على الطين المستخرج من تلك الترع،  لكن تبطينها، سيؤدي إلى أن يفقد من هم مثل عوض وعائلته موادهم الخام. والتبطين يعني رصف باطن الترع بالخرسانة أو صب الألواح الأسمنتية على جانبي الترع فلا يسمح بهروب المياه.

لم يصل مشروع التبطين والمحدد له مدى زمني 10 سنوات، أي ينتهي في 2030، إلى الترعة المجاورة لعوض، لكن ذلك لا يمنعه من القلق، وترقب كتابة نهاية تاريخ عائلته الطويل بين يوم وليلة. 

وعوض ليس وحده، فداخل قريته فقط "منشية الحواصيلة"، عدد لا بأس به يعمل مثله في صناعة الفخار، فيما باقي الأهالي يعملون  في الزراعة. وتعد قريتهم من القرى الشهيرة في الصناعة التراثية التي يمتد تاريخها إلى مصر القديمة، وتركزت تحديدًا في صعيد مصر منذ الأزل، بداية من نقادة مركز صناعة الفخار في مصر القديمة، وديروط كذلك في أسيوط، وبعض قرى المنيا التي لا زالت تعمل فيها.

الترع شريان الفخار 

ترتكز صناعة الفخار على عدة عناصر رئيسية، أولها المواد الخام، وهي عبارة عن طين معين نقي من الشوائب، ثقيل في ملمسه، ثم يتعين على العامل أن يخلطه بالماء حتى يسهل تشكيله وفق ما يريد، ثم يدخل على عجلة الفخار التي تعمل على صنع نماذج من هذا الطين على حسب الطلب في السوق، سواء كانت أزيار أو قلق وأواني طبخ، ثم تدخل بعدها للفرن، حيث تطلى فيه على مادة تكسبها لونها الأحمر المميز.

أما سر ارتباط تلك الصناعة بالترع، فهو أن الترع تتميز بنوع الطين الثقيل الجيد، بحسب حديث عوض للمنصة، مفسرًا ذلك "الترع بها حصى ثقيل، بخلاف الطين الذي يُستخرج من الأراضي الزراعية فيما يسمى بالتجريف".

وبحرقة يشير عوض إلى أن مهنته في طريقها للاندثار، بسبب تبطين الترع التي تغطيها الخرسانة والحجارة، وبالتالي بات من المستحيل استخراج أي مواد خام منها.

ولا يهدد تبطين الترع حرفيي الفخار فقط، بل الصناعات المكملة، فاستخراج الطين من الترع  كانت مهمة موكلة لتجار آخرين يعملون على استخراجها مباشرة، أو عن طريق الطين الملقى على جوانب الترع بعد عملية التطهير التي تتم بالكراكات داخل تلك الترع الفرعية في القرى.

 

ويتراوح سعر نقلة الطين على حسب ما يذكر عوض بين 250 إلى 300 جنيهًا، وهو سعر غالٍ مقارنة بأسعار النماذج التي يبيعونها، أي أن صناعتهم تواجه تحديات بالفعل كانوا ينتظرون أن تتدخل الدولة لحلها، بدلًا من القضاء الوشيك على الحرفة ككل. 

يوضح "يتم بيع الزير الواحد بسعر يتراوح بين 15 إلى 20 جنيهًا، والزير هو أكبر المنتجات التي نستخرجها، وتكثر صناعته تحديدًا في الأرياف إذ يمثل مصدرًا رئيسيًا لماء السبيل في الشوارع والأزقة، وأمام البيوت، وبالتالي فارتفاع أسعار نقل الطين كان يمثل عبئًا علينا".

لا يبتعد الحاج سيد، والذي تقع ورشته على نفس الطريق، عن التحديات نفسها، بل إن ورشته تبدو عليها معالم افتقار المواد الخام على نحو أكبر من ورشة عوض. تحدث هو اﻵخر للمنصة عن أن المشكلة الرئيسية تكمن في أن "الذين يبطنون الترع لا يراعون مصالح الناس الذين يستفيدون منها، حيث أنهم لا يرونهم ولا يحسون بهم".

يتابع سيد "المشكلة أنها أوامر عليا، تعمل عليها المحافظة بدون نقاش ولا سماع لأهل المكان، ثم تأتي الجرافات لكي تضع الحجارة والخرسانة على جوانب الترع وتغطيها تمامًا بدون أي منفذ يستفيد منه الآخر". ويشير إلى أن التبطين تبدو صورته جيدة، أي يضيف مظهرًا جماليًا، لكن المشكلة بالنسبة لهم ليست في الصورة الجيدة وإنما في لقمة عيشهم التي اعتادوا على اكتسابها من تلك المهنة أبًا عن جد.

خريطة الخطر 

يقر الباحث فى التراث المصرى والحرف اليدوية أسامة غزالي، والذي عمل على توثيق الحرف التقليدية في الصعيد، بالخطورة التي تواجهها صناعة الفخار في الصعيد، مؤكدًا أن الأمر لا يقتصر على ورش المنيا، بل يمتد إلى الصناعة بوجه عام على نطاق الجمهورية، على الرغم من اختلاف شكل الفخار من محافظة إلى أخرى.

يشرح غزالي للمنصة أن المواد الخام الرئيسية في كل أنواع الفخار تأتي من طين الترع، بالإضافة إلى مواد خام أخرى، باختلاف النسب المئوية في كل صنف ونوع من الفخار، ففخار المنيا مثلًا يعتمد على 90% من مواده الخام من طين الترع، أما فخار قنا فيعتمد على 70% من مواده الخام على الطين، بالإضافة إلى الحمرة التي تستخرج من الجبال. 

ويتفق معه خبير المياه نادر نور الدين، والذي أكد للمنصة على أن تبطين الترع يضر بصناعة الفخار في مصر كلها عمومًا، ومصر الوسطى خصوصًا ويتمثل في محافظات المنيا وأسيوط وسوهاج، وذلك بسبب أنها لا تمتلك أي مصدر للمواد الخام سوى تلك الترع التي تعمل الدولة على تبطينها.

ولكن غزالي يلفت إلى أن التبطين ليس أول ما يهدد صناعة الفخار التي تواجه الإهمال رغم أهميتها  بالنسبة لكثير من الأسر "الصناعة الحقيقية التي تدر دخلًا لأفراد الأسر الخاصة بعيدًا عن الشركات والمنظمات الأخرى".

ومن بين تلك الأسر، أسرة حربي إبراهيم، الذي يمارس بحرفية تامة صناعة الفخار في ورشته بقرية نجع الشيخ علي في محافظة قنا، وهو كفيف. يعرف كيف يحرك العجلة ويهرس الطين ويشغل الفرن كذلك ويضع فيه الأواني كي تنضج، لكنه يجد صعوبة في إيجاد مواد خام طينية للأواني والأزيار التي يعمل عليها، عكس ما كان متوفرًا بشكل كبير قبل ذلك، خاصة مع عمليات تطهير الترع المستمرة، وفق ما قاله إلى المنصة.

ويعزز حديث إبراهيم عمومية الأزمة، خصوصًا لما لقريته من ثقل في صناعة الفخار، إذ تعد من القرى الشهيرة في صناعته منذ مصر القديمة، فلقد ورثوها عبر آلاف السنين من مصدر حضارة نقادة الأولى أصل التاريخ المصري.

كي لا يُكسر الزير 

تتداخل أزمة صناعة الفخار حاليًا مع ملف حيوي آخر وهو ملف المياه، فمن جهة تبدو رغبة الدولة في توفير المياه في ظل مخاطر سد النهضة، بل والعجز المائي بوجه عام، مشروعة، ومن جهة أخرى لا يبدو عادلًا العصف بحرفة يمتهنها المئات أو آلاف، ومن ثم يُطرح تساؤل: هل من وسيلة لتحقيق التوازن، أو الحفاظ على المياه دون كسر الزير وحرفة صناعته؟

 

يقول أستاذ الجيولوجيا بجامعة القاهرة وخبيرة المياه عباس شراقي، إن مشروع تبطين الترع لا يشمل كل الترع والمصارف في مصر، وبالتالي فالمتبقي منها يمكن أن يغطي حاجة صانعي الفخار من المواد الخام، مشيرًا من جهة أخرى إلى أن المشروع كله مهدد بالتوقف بسبب قلة الموارد المادية له، والأزمة الإقتصادية التي تمر بها مصر في الآونة الأخيرة. 

لكن حديث الخبير تناقضه تصريحات حكومية تؤكد على سير المشروع بخطوات سريعة، حتى أن وكيل وزارة الري في المنيا المهندس عبد الحميد البركاوي، صرح في 5 يونيو/ حزيران الجاري بالانتهاء من 65% من أعمال تأهيل وتبطين الترع والمساقي على مستوى المحافظة، بتكلفة إجمالية حوالى 2 مليار و600 مليون جنية.

ويقلل شراقي من خطورة المشروع على الفخار قائلًا إن صناعة الفخار في مصر لم تعد كما كانت بسبب عوامل كثيرة غير التبطين، وبالتالي فندرة المواد الخام التي سيسببها تبطين الترع تتناسب مع ندرة الصناعة نفسها.

لكن على العكس، يرى الخبير المائي نادر نور الدين، أن المشروع يضر بالصناعة، مقترحًا حل لتحقيق التوازن، عبر استبدال مواسير بمشروع التبطين. 

يوضح نور الدين أنه على الرغم من  أهمية مشروع التبطين في الحفاظ على 19 مليار كيلو مكعب من مياه نهر النيل التي تجري عبر 30 ألف كيلو، بسبب تسرب المياه والتبخير، فمن الممكن عمل مشروع بديل وهو إنشاء مواسير بدلًا من التبطين، لافتًا إلى أن المواسير ستساعد في أمرين، الأول الحفاظ على المياه من التبخير والترسب، والثاني توفير رقعة زراعية جديدة والحفاظ على المواد الخام من الطمي. 

واستبعد  نور الدين قيام الوزارت المختصة (البيئة والري) بدراسة أثر تبطين الترع على الصناعات الصغيرة كالفخار والعادات والتقاليد المتوارثة عبر الأجيال والتي ارتبطت بها، ومنها مثلًا سقاية الماشية التي أصبحت معقدة وصعبة جدًا بعد تبطين الترع، لذلك اقترح الخبير المائي إقامة دراسة حول علاقة هذا الأمر بالبيئة ومدى تأثيره وإنشاء حلول مثل تعويض أصحاب تلك الصناعات الصغيرة بصناعات أخرى أو تعويضهم ماديًا أو تغيير خطة تبطين الترع وإنشاء نظام المواسير كحل بديل وآمن. 

المركزية 

 

لا يبدو أن القلق على صناعة الفخار يمتد إلى مدينة الفسطاط في مصر القديمة بالقاهرة بنفس الدرجة، إذ تمثل مركزًا يلقى عناية رسمية، لصناعة المواد الفخارية الخاصة في غالبيتها بالزينة، على عكس ورش الصعيد، التي تعاني التهميش، وتصنع أدوات مستخدمة في حياتها اليومية حتى الآن. 

وبين أصحاب الورش العديدة التي التقينا بهم، يجمعهم شعور بالتهميش والخطر، فحضور الدولة الغائب في رعايتهم منذ عقود، وظهر الآن على نحو أكثر سلبية، يهدد صناعتهم من الأساس، كما أنهم  مهمشين، ليس لهم أي نقابة أو ائتلاف يميزهم، معظمهم لا يعرفون أصلاً الطريق إلى القاهرة وكيف يوصلون أصواتهم. 

تركنا ورشة عوض، فيما يحاول أن يتجاهل مخاوفه، ويندمج في عمله، ولا يدري أيحمل له الغد الطين، أم أن غيابه سيكون هو البلّة على أسرته، وكثير من الأسر مثله.