جماهير تشاهد إحدى المباريات على مقهي- الصورة من فليكر برخصة المشاع الإبداعي (hewy).


الدوري المصري: قصة بضاعة لا تحترم جمهورها

منشور الأحد 5 يونيو 2022

تثير مشاهد الأسر الأوربية، خاصة الإنجليزية منها، وهي تتجمع مبتهجة خلف فرقها الكروية، الغيرة المجتمعية إن دق التوصيف. مشاهد كاشفة عن نجاح دول/ أنظمة، في بلورة ثم ترسيخ نمط حياة به عناصر متنوعة لإسعاد شعوبها، وفي مقدمتها كرة القدم، النشاط البشري الأكثر جماهيرية كونيًا.

نشاط بدأ هواية، وتطور ليصبح صناعة هي الأكثر عبورًا للحدود الجغرافية والثقافية والجيلية والجندرية معًا، وفي القلب سلعة تنطلق من الاكتفاء داخليًا بزبونها، وتمد خيوطها لتجذب أضعافًا مضاعفة منه خارجيًا.

صناعة شرطها الأول وجود زبون يستمتع بهذه الفرقة أو تلك، وبالتبعية يمولها بطرق متنوعة، مباشرة وغير مباشرة؛ فالكرة للجماهير ليس شعارًا مجانيًا، بل شرطًا وجوديًا لها، مثل أي صناعة/ سلعة تنشأ وتتسع وتتطور من أجل زبونها.

لهذا؛ مربك أن ترى مسثتمرًا في مجال ما لا يهتم بوجود زبون يبيع له منتجه، ولا أمل في "تربية" زبون، مستقبلًا لها، كيف سيستمر ويتطور؟ وما هو مستقبل صناعة تفتقد غالبيتها الزبون؟ هذا هو حال دوري كرة القدم المصري، الأعرق عربيًا وإفريقيًا.

تفاوت التصنيف 

تتفاوت تصنيفات الدوري المصري إلى حد التناقض، فهو الـ 15 بين أقرانه دوليًا وفق آخر تقييم للاتحاد الدولي للتاريخ والإحصاء، الذي يعتمد على تقديرات رياضية واجتماعية واقتصادية، وأقرب دوري له قاريًا هو الجنوب إفريقي بالمركز الـ20، أما عربيًا فيليه الدوري السعودي بالمركز الـ31. 

 

وتسويقيًا، هو الثالث عربيًا وفق إجمالي أسعار اللاعبين، بعد الدوريين السعودي والإماراتي،  لكن حين نذهب لجوهر اللعبة، التنافسية، يتذيل العرب والأفارقة في أخر تصنيف للفيفا.

أسباب تدني تنافسية الدوري المصري متعددة، وليست سيطرة فريق مثل الأهلي على البطولات سوى مؤشر للتدني وعرض لأمراض تعود جذورها لمنتصف أربعينيات القرن الماضي، اختفى معظمها مع تنافسية ستينياته، وعادت منتصف سبعينياته.. ومازالت.

من الأمراض: تغييب نزاهة قوانين وإعلام الساحة الرياضية، وضعف خدماتها المدرسية، وترهل ميزانيات وإداريات مراكز الشباب، وارتباك آليات الفرز، للمحسوبية أو للطائفية، وتراجع جودة التغذية عامة، إلخ. والأهم، تجاهل أن كرة القدم "سلعة" تنتجها صناعة لها قواعدها ومستهلكها/ زبونها.

نتحدث عن زبونية تتفرع منها شبكة تداخلات تجارية وانتاجية وخدمية، من السياحة لمليارات دولارات المشاهدة والإعلانات والمراهانات، والأزياء والأكسسورات وعدادات زيارات السوشيال ميديا والتجارة الإلكترونية، إلخ؛ هي مصدر دخل لما قدره البعض بمليار نسمة. وتظل إشكالية الدوري المصري، أن معظم فرقه بلا جمهور.. بلا زبون.

بداية التأسيس

قبل 80 عامًا كان محمود بدر الدين، سكرتير اتحاد كرة القدم المصري (رحل في 17 فبراير/شباط  الماضي) أول من فكر، وفق وعي زمنه، في اللعبة كصناعة. هو أول معلق رياضي عربي، استقال من عمله كأستاذ فنون تطبيقية في جامعة إبراهيم باشا (عين شمس الآن)، متفرغًا لاهتماماته الكروية.

 

 بداية أربعينيات القرن الماضي، فاجأ الوسط الرياضي بتعيين نفسه "مديرًا إداريًا لاتحاد كرة القدم"، كان المسمى الوظيفي جديدًا، وتفجر الجدل حول تحديده لنفسه 50 جنيهًا كراتب شهري، وهو مبلغ ضخم وقتها. 

رد بدر الدين على الجدل بخطاب مفتوح لوزارة الشؤون الاجتماعية مستغنيًا عن إعانتها السنوية للاتحاد، وتعهد بتغطية أنشطته لاحتياجاته، ونجح. عرفت ملاعب القاهرة والإسكندرية أقدام منتخب يوغسلافيا، بطل أمم أوروبا وقتها، ونظيره المجري بنجمه الأسطوري، بوشكاش.

حجم شعبية اللعبة حينها لا يقارن به الآن، كان جمهورها/ زبونها محدودًا، فريقان يتقاسمان أغلب بطولات وشعبية منطقة العاصمة، الأهلي وفاروق الأول/ الزمالك، ومعهما الترسانة والسكة الحديد. تليهما أندية إقليمية بمنطقة القناة: المصري البورسعيدي مهيمنا ومعه الإسماعيلي وبورفؤاد، وفرق جاليات أجنبية، وبالإسكندريةالأوليمبي والاتحاد، محتكران للبطولة، والترام وفرق جاليات، والأول هو عميد أندية وفرق كرة القدم المصرية، تأسس ونشط عام 1905.

منطقة وجه بحري لا معلومات عنها، سوى أن أبرز فرقها هي غزل المحلة والشرقية والمنصورة ودمنهور. ولا وجود منظم للصعيد حتى الستينيات، عدا ظهور نادر لفريقي بني سويف والفيوم في بطولة الكأس، أقدم المسابقات، وتنافس محلي بين فريقي توجيهية أسيوط ومدرسة الكلية الأمريكية فيها.

النموذج الإنجليزي

كان دخل أندية العالم ينحصر في رسوم العضوية وتذاكر دخول المدرجات، وتبرعات المشجعين. مع الإذاعة وبث أحداث المبارايات عبر صوت المعلق، بدأت الفرق تكتسب جماهيرية نسبية أكبر، وتزايدت قيمة عناصر الدخل، وهي ما استند عليها بدر الدين في حملته، عام 1946، لإطلاق الدوري الممتاز، ليفوز بعد عامين بمرسوم ملكي يدشنه.

خارجيًا، ودائمًا من ملاعب إنجلترا، تضاعفت شعبية اللعبة مع ترسخ خدمة التلفزيون. بدأ بث مباريات كرة القدم عبره في الثلاثينيات، بين فريقي بريستون وهدرسفيلد بمنافسات كأس إنجلترا عام 1938، واقتصر البث من ملعب الهايبري، لقربه من محطة BBC، بلندن في 16 سبتمبر / أيلول1937على تشكيلة الفريقين لـ15 دقيقة فقط. سبقته بعام كتجربة بث فقرات متتالية من مباراة بين فريقين من نادي الأرسنال، على ملعب الهايبري.

وتدريجيًا، أضيفت لمصادر الدخل حقوق البث، والتي تمثل ماء حياة دوريات العالم الآن، يتقدمها أقواها، الدوري الإنجليزي، منذ ما عٌرف بقوانين تاتشر، عام 1991، والتي انطلقت من سلبيات الجماهير/الزبائن، التي خلفت أوجاعها 91 ضحية، غالبيتهم من جمهور  ليفربول الأكثر جاذبية بالعالم الآن، فيما عرف بمذبحة هيلزبرة، لتحول هوس الزبون إلى إيجابيات أنعشت وانقذت الدوري الإنجليزي، ومسابقته الرئيسية للأغلي والأكثر زبونية دوليًا.

 

"لجنة تاتشر" تحركت هنا عكس يمينيتها ووحشية رأسماليتها التي اتهمت بها، لتضمن "عدالة توزيع الثروة الكروية"، فمع مجرد صعود فريق للممتاز، يتلقى دفعة مالية تضمن له حدًا أدنى من تمويل البقاء، قد تتجاوز حصة الفائز بالبطولة؛ لأن الهدف هو تمتين الصناعة ذاتها، عبر زيادة حدة المنافسة بين متنافسين متعادلين نسبيًا في فرص التجويد، وإمتاع "الزبون" ومراكمة المزيد منه.

الزبونية تضاعفت مرات ومرات، ومصادر الدخل توسعت لتصبح منظومة شديدة التعقيد، خاصة في البريميرليج حيث تتفوق حصة مُتذيله من عائد البث على نظرائه بدوريات أوروبا، عدا برشلونة وريال مدريد. اعتمدت خطة تاتشر "القومية" على معادلة بسيطة: لعبة وأندية "كلها" لها زبونها.

خارج سوق السوشيال 

بموازاة البث، تتدفق أنهار مالية متعددة، أقدمها منتجات تحمل شعار أو اسم فرق أو لاعبين، كسباق مبيعات قميصي رونالدو وميسي سبتمبر الماضي، مع انتقال الأول لمانشستر يونايتد والثاني لباريس سان جيرمان.

أحدث تدفقات أموال الزبونية تأتي من خلال السوشيال ميديا، وتتنوع بين منشورات الأندية والإعلانات عليها، وأخرى للاعبين مع كل منشور لأحدهم، ويحدد عداد المتابعين والزيارات حجم العائد.

في مصر، حيث الدوري الأكثر جماهيرية عربيًا وإفريقيًا، قدر خالد مرتجي، أمين صندوق النادي الأهلي، في لقاء مع أحمد شوبير، عائد السوشيال ميديا في مصر عن كل مشجع لفريق مصري بأقل من يورو، مقارنة بـ15 يورو لأندية أوربا الكبرى وثمانية لفرقها الصغري ولأندية الدول النامية.

 

غياب العدالة 

قيادي الأهلي تجاهل في تقديراته خللين جوهريين يعرقلان نهوض الدوري. الأول هو غياب العدالة الجغرافية عنه تاريخيًا واحتكار منطقة القاهرة لجل دروعه، وتغييب معظم الخريطة المصرية عنه، والثاني هو افتقاد معظم فرقه للجمهور، زبون الصناعة وممولها.

فمن بين 18 ناديًا تتنافس في الدوري الممتاز، 12 منها، أي ثلثيه، بدون زبون، هي: المقاولون العرب، طلائع الجيش، إنبي، بيراميدز، مصر المقاصة، الجونة، سموحة، سيراميكا كليوباترا، فاركو، فيوتشر (كوكاكولا)،  البنك الأهلي، إيسترن كومباني (الشرقية للدخان).

وإن كان البعض يرى أن "سموحة" له بعض الشعبية، ولكنها تظل محدودة جدا، وتأتي بمسافة بعيدة جدًا تالية للاتحاد، أكبر أندية الإسكندرية، وبمسافة أقل بعد الأوليمبي، أعرق الأندية المصرية على الإطلاق، لذا حين تنظر على جماهير سموحة مع السماح بحضور ألف مشجع في المدرجات، ستجد أعدادا قليلة جدا كمشجعين له.

وتظل حقيقة أن، الكرة للجماهير، وقانونها أن الفرق تتأسس لإمتاع وجذب ومراكمة جمهور ما، هكذا كان الحال تاريخيًا في العالم، وضمنه مصر. عام 1963، ولأربع مواسم متتالية ظهر نادي خفر السواحل كاستثناء على شرط الجماهيرية، لكنه ارتبط وجودًا وانتهاءً بالمشير عبد الحكيم عامر، الرجل القوي والشريك في الحكم وقتها.

 ميلاد فرق "بدون جمهور" كظاهرة، لا كاستثناء، دشنه رجل قوي آخر، ملك المقاولات عثمان أحمد عثمان، الذراع الاقتصادي لتحولات أنور السادات على كافة الأصعدة، بما فيها عودة تغييب نزاهة قوانين وإعلام واقتصاديات الرياضة، واحتكار الدرع.

وصل فريق عثمان، المقاولون العرب، إلى الدوري الممتاز عام 1978، وبعده كرت المسبحة. أطلقت شركة إنبي ناديا باسمها، عام 1985، وبعد 20 عامًا اقتدت بها نظيرتها بتروجيت مؤسسة ثاني فريق بترولي. عام 1995 عاد حرس الحدود "السواحل" للحياة، وبالتزامن تأسس طلائع الجيش وتلاهما الانتاج الحربي، ثم ثنائي الداخيلة واتحاد الشرطة.

 

كلها أندية جهات عامة، أصلًا تمنع قوانين الفيفا وجودها كأحد تجليات التدخل الحكومي، أعقبها توالي فرق الاستثمار الرياضي: بيراميدز، وادي دجلة، مصر المقاصة، وأخرى لشركات خاصة: الجونة وفاركو وكوكاكولا وسيراميكا كليوباترا، وثالثة لشركات عامة: الشرقية للدخان والبنك الأهلى.

تعري فرق "البدون" 

حين  يفكر مستثمر، فرد أو شركة، في المجال الرياضي، بداهة يذهب لمٌنتج له شعبية يستحوذ عليه، مع الحفاظ على اسمه لتوظيف تاريخه، كما في ساحات الكرة المنضبطة. لا أحد يستثمر في مُنتج لا جمهور له، كما في الدوري المصري!

المدهش هو تأسيس حزب لفريق باسمه: مستقبل وطن، الذي يخطط لبلوغ "الممتاز" الموسم بعد القادم، وليكون أول نادي تتوزع فروعه بين المحافظات. حزب بلا شعبية سياسية، ينفق مئات ملايين الجنيهات لنيل جماهيرية مستحيلة، عبر فريق منعدم الشعبية/الزبونية!

الحزب نفسه، صاحب الأغلبية البرلمانية، ارتبط اسمه بشركة فيوتشر التي اشترت نادي كوكاكولا، ونفي الحزب والشركة المتكرر لم يصمد أمام تداخل إدراتيهما.

فرق "البدون" تعرت مع السماح بدخول ألف مشجع لكل نادي بداية الموسم الجارين، فوجئنا بمئات يهتفون في المدرجات لأندية وليدة، ما يعني أن مالكيها أستأجروهم، لتعاني مدرجاتنا من سلبية إضافية.. مرتزقة التشجيع!

استحضار قواعد تاتشر 

مقومات الدوري المصري، حسب الاتحاد الدولي للتاريخ والإحصاء، ترشحه ليكون الأغلى والأكثر تنافسية عربيًا وإفريقيًا، فخزينه البشري، جمهورًا ولاعبين وكفاءات إدارية، هو الأوسع، ووحده له امتدادات خارجية، في الستينيات وظفت الدولة سمعة الزمالك والإسماعيلي المهارية في اللعب عربيًا لصالح المجهود الحربي، ومازال للأول شعبيته بالمشرق العربي خاصة.

يطالب البعض رابطة الأندية المصرية، المُستحدثة، بتطبيق قواعد تاتشر، والأغلب أنها لن تستطيع، لأن ذلك يعني قلب موازين التوزيع، لينزل نصيب الأهلي، مثلا، من 100 مليون إلى 18 مليونًًا، وإن نجحت، ستدعم فرق "مصانع/شركات" لا زبون ولا مستقبل لها ولن تضيف لقواعد الصناعة، وتُهدر حقوق أندية إقليمية جماهيرية.


اقرأ أيضًا| مركزية كرة القدم: لا أحد يفوز إلا في القاهرة

 


تحتاج كرة القدم المصرية لاستحضار جل قواعد تاتشر: لجان نزيهة تراقب شفافية صفقات البيع والشراء والاقتصاديات عامة، وعدالة المنافسة والتمثيل الجغرافي، ودائما الجماهيرية/الزبونية.

بغير هذا، ستبقى غالبية المواطنين محرومة مما يمثلها في دوري بلدها، وستحرم الدولة من توظيف كرة القدم.. اقتصادًا وذراعًا ناعمًا.. وحتى "تنفيسًا" مجتمعيًا عن معظم شعبها.

 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.