مظاهرات 30 يونيو 2013. صورة من ويكيبيديا - برخصة المشاع الإبداعي

30 يونيو: مساءلة "الجمهورية الجديدة"

منشور الأربعاء 29 يونيو 2022

"أدعو أنا المواطن (…) إلى انتخابات رئاسية مبكرة، وأتعهد بالتمسك بأهداف الثورة والعمل على تحقيقها".

في ورقة صغيرة حملت اسم "تمرد" وقع عليها ملايين المصريين، كانت المطالب واضحة: انتخابات رئاسية مبكرة تُعيد المسار السياسي القائم وقتها إلى دربه الصحيح، وترده لحلم ثورة 25 يناير وأهدافها الكبرى في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

بنصوص استمارة سحب الثقة التي وقعها المصريون 2013 كان الهدف واضحًا بلا مواربة؛ "انتخابات رئاسية مبكرة".

بلا مراجعات واضحة وشفافة لا تتقدم الأمم، ولا يمكن أن يكون الغدُ أفضلَ من اليوم والأمس، الآن وقبل البدء في حوار سياسي مرتقب دعا له رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، باتت مراجعة تجربة حكم 30 يونيو/ حزيران أمرًا مهمًا وضروريًا، ولا يجوز التأخير عنها لربما تفتح، أي المراجعة، آفاقًا مختلفة للحاضر والمستقبل.

على المستويين السياسي والاقتصادي تبدو المراجعة تأكيدًا على أن ردةً واضحةً جرت على مسار ثورة يناير، كما جرت على جزء مهم من العقد الاجتماعي الذي ساد قبل 2011، بالتحديد في مرحلة ما بين اﻷعوام 1952 حتى 2011.

خلال تسع سنوات مرت منذ 30 يونيو 2013 لم يعد هناك مسار سياسي أصلًا، غابت السياسة واختفت الأحزاب واختنقت الحريات وعلا صوت الاستبداد فوق ما عداه.

بعبارات لا تحتمل التأويل، ما نعيشه الآن ليس هو المسار السياسي الذي أرادته 25 يناير أو 30 يونيو، إذ كان الهدف يقف عند حدود الانتخابات المبكرة، ولم يطالب أحدٌ من الذين شاركوا في اﻷحداث بديكتاتورية جديدة، ولم يستجدوا حكمًا أبويًا مستبدًا، ولم ينادوا بإقصاء أو تهميش أحد، أو تشويه ثورة يناير ورموزها، ولا دعا أحدٌ بالتأكيد إلى فتح السجون لأصحاب الآراء المختلفة والمعارضين السلميين، فكل الخيارات وقتها انصبت على الدعوة لانتخابات مبكرة،  مطلب لا يتصادم مع الديمقراطية؛ بل يؤكد حضورها في المجال العام ويدعمه.

 

صورة من مظاهرات 30 يونيو 2013. من Tribes of the World، فليكر - برخصة المشاع الإبداعي.

باختيار قاطع للدولة القديمة التي كانت سائدة قبل 2011 وبأداوتها ورجالها وأجهزة أمنها، جرى استرجاع العقد الاجتماعي القديم ليكون الحاكمَ للمسار السياسي فيما بعد 30 يونيو 2013. هذا العقد الذي استند على منح المواطنين الحد الأدنى، وربما أقل، من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في مقابل الابتعاد الكامل عن السياسة والشأن العام. وجاءت ثورة يناير وأرادت تمزيق هذا العقد المتهالك، وسعت لوضع آخر جديد يصون حريات المواطنين ويرسخ لقواعد المشاركة والتنوع وبناء الدولة المدنية الحديثة؛ دولة العدل والمواطنة وسيادة القانون والحرية والكرامة والمساواة.

منذ سقوط النظام الملكي وإعلان الجمهورية في مصر عام 1953، استندت بنود العقد الاجتماعي غير المكتوب على أن توفر السلطة للمواطنين الحد الأدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية؛ في مقابل تقييد الحريات السياسية، وفرض ديكتاتورية تنفرد بالحكم وتدير عبر انتخابات شكلية واستفتاءات مزورة.

تلك الجمهورية في شكلها القديم رفضها المصريون في ثورة 25 يناير 2011 عندما طالبوا بجمهورية الحرية والكرامة والعدل الاجتماعي، فكانت الثورةُ المحاولةَ الأولى لصدام المصريين مع بنود العقد الاجتماعي للجمهورية القديمة، وأولى الخطوات نحو إعلان تصوراتهم عن جمهورية “سيادة الشعب” وتداول السلطة.

بنسخة جديدة من ديكتاتورية ما قبل 2011 جرى الانقلاب الكامل على يناير ومطالبها السياسية وشعاراتها الكبرى، وتحولت ذكرى 30 يونيو 2013 إلى ما يشبه الثورة المضادة التي أطاحت بأحلام يناير في الحريات العامة والديمقراطية والكرامة الإنسانية واحترام حقوق الإنسان.

هذا هو الوصف الأدق لما حدث طوال سنوات كانت الأسوأ في مجال الحرية والكرامة الإنسانية والمواطنة واحترام الاختلاف والتنوع.

خلال تسع سنوات مضت، كان صوت جمهورية ما قبل 2011 هو الأعلى، يحكم ويتحكم ويتسلط على المشهد السياسي على نحو كامل، فلا أحزاب ولا نقابات ولا إعلام ولا مجتمع مدني، صوت السلطة ورجالها وحده لا شريك له.

 

صورة من مظاهرات 30 يونيو 2013. من Tribes of the World، فليكر - برخصة المشاع الإبداعي.

وكما ارتد نظام ما بعد 30 يونيو على صيغة العقد الاجتماعي الذي أراده المصريون في يناير، فإنه عدّل من صيغة العقد الاجتماعي لما قبل 2011 أيضًا عبر انسحاب الدولة من جزء مهم من دورها الاجتماعي والاقتصادي الذي تقدمه للمواطنين. فتراجعت على نحو هائل صيغة الدعم الاجتماعي والاقتصادي على السلع والخدمات والطاقة وغيرها، وارتفعت فواتير الخدمات وأرهقت المواطنين، وتُركت الطبقات الفقيرة والمتوسطة لاقتصاد السوق بكل توحشه رغم ضعف ما يتقاضونه من أجور، وسُحقت قيمة الجنيه وارتفعت الأسعار مرات عدّة، فيما ثبتتْ المرتبات في المكان بلا تحرك يلاحق مساحات الغلاء والتضخم.

بتغيير صيغة العقد الاجتماعي، باتت مصر على شفا بداية جمهورية جديدة بالفعل، جمهورية لم تتمسك بمطالب جمهور 25 يناير، لكنها أيضًا لم تترك العقد الاجتماعي القديم على المستوى الاقتصادي والاجتماعي على حاله، فلا هي حققت تقدمًا جادًا وحقيقيًا على مستوى الحريات العامة والتحول الديمقراطي، ولا هي أبقتْ على صيغة دعم المواطنين ومساعدة الدولة لهم على نحو كامل فيما يخص الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ولا قطعت شوطًا جديدًا على مستوى المشاركة والتنوع والشفافية، ولا احتفظت بالحد الأدنى من صيغ الدعم التي تضمن للمواطن "حياة مستورة".

هنا تبدو الجمهورية الجديدة التي أسستها 30 يونيو في مأزق تاريخي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتصور العام لأهل الحكم، الذين لم يستجيبوا للجديد وولم يفتحوا المجال لثورة تُغير الحاضر وتُساهم في صنع المستقبل، كما لم يتمسكوا بالقديم الذي يضمن حدًا لائقًا من الدعم الاقتصادي والخدمات العامة.

بأي حسابات جادة لكل من يراهن على نجاح الحوار المنتظر، يجب تأكيد مراجعة تجربة حكم 30 يونيو بأكمله، والنظر بطريقة نقدية للسنوات التي مرت وسط حصار خانق للسياسة وتراجع فادح للدعم الاقتصادي والاجتماعي.

في ذكرى 30 يونيو 2013، يجب أن يتحلى القائمون على الحكم بشجاعة المراجعة ونقد الذات، لا سيما مع تأكيدات لا تنتهي من قيادات سياسية مهمة في الدولة على تراجع الإرهاب والعنف بدرجات كبيرة، اللذين كان ذريعتين دائمتين ومبررين مستمريين لتأخر البدء في عملية تحول ديمقراطي جاد وحقيقي.

مراجعة تجربة 30 يونيو منذ 2013 حتى الآن بات أمرًا طبيعيًا ومنطقيًا، فلا مستقبل يمكن أن يصمد أمامَ الحكم بعقد اجتماعي رفضه الشعب نفسه بحضور طاغٍ في الميادين في العام 2011، لا سيما وقد انتقصت منه بنود الدعم الاقتصادي للفقراء والطبقات الوسطى.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.