تصوير: عزة مغازي
وقفة حداد على حرية الصحافة أمام النقابة في 23 نوفمبر الماضي

مُتَرْجَم| التهمة؟ صحفي

منشور الأربعاء 7 ديسمبر 2016

نشرت النسخة الإنجليزية من المقال في صحيفة ميدل إيست آي.

قبل أن أنضم للصحافة الاحترافية، تعلمت التساؤل المستمر من أب عمل كصحفي مصري. بعد ثلاثين عامًا من ذلك الوقت الذي تعلمت فيه أساس العمل الصحفي؛ صار هذا الأساس عينه، وتلك التساؤلات، مدعاة لدخول السجن في سيسي-لاند.   

عند قراءة رؤية الإعلام الأجنبي للهجمة الواسعة على الصحافة، لن تكون مخطئًا إن ظننت أن الهجمة تقتصر على بضع صحفيين شجعان تم إسكاتهم. 

لكن الوضع أكثر تعقيدًا من هذا. في مصر، التفكير الحر والصحافة أصبحتا بالفعل جريمتين، بينما الجريمة الحقيقية التي يتم ارتكابها في الأجهزة الدعائية للدولة، ينظر إليها بطريقة ما، باعتبارها صحافة.

 ولكن فهم كيف أصبح ممارسو الدعاية هم "صحفيو" الدولة، بينما صار الصحفيون مجرمين، تم بطريقة مخادعة، بدأت من خلالها الدولة عملية قوّت من أشد الحملات القامعة للإعلام المصري ي التاريخ المعاصر.

الأسبوع الأسوأ في الصحافة المصرية

الأسبوع قبل الماضي، وفي نفس الوقت الذي مُنع فيه المذيع عمرو الليثي – الرجل الذي أذاع برنامجه مؤخرًا المقابلة المهمة مع سائق التوكتوك- من السفر؛ كان لدى الرئيس عبد الفتاح السيسي الجرأة الكافية للتصريح بأن الحرية التي تسود البلاد غير مسبوقة.

"اتمنى إن انتو تتابعوا الإعلام والصحافة في مصر وهتلاقوا الناس تتحدث كيفما تشاء". هكذا قال السيسي لمحاوره في تلفزيون البرتغال. وبشكل لم يَدعُ لدهشة أحد، طبعًا تمت ترجمة المقابلة للعربية وأذاعها التلفزيون الرسمي المصري.

 

في وقت مبكر من هذا العام، زايد النظام على نفسه في حربه على الصحافة، ليقتحم ملاذ الصحفيين الوحيد: نقابة الصحفيين، وذلك في ليلة الأول من مايو/ أيار الماضي، فوجئ الصحفيون برجال يقتحمون نقابتهم للقبض على الصحفيين عمرو بدر ومحمود السقا.

 

اقرأ ايضًا: تسلسل زمني.. نقابة الصحفيين في مواجهة الدولة 

 

كانت تهمة " نشر أخبار كاذبة" جاهزة، وهي حجة/تهمة قديمة اعتاد النظام استخدامها. لكن الغالبية فهمت الهجمة كعقاب على معارضة الصحفيين المُعتقلين لبيع جزيرتين مصريتين للسعودية.

ومرة اخرى خلال الأسبوع قبل الماضي، ولأول مرة، وضعت الدولة رأس اتحاد الصحفيين هدفًا لها، وحكمت المحكمة بسجن يحيى قلاش واثنين آخرين من أعضاء مجلس النقابة لسنتين، "لإيواء" عمرو بدر ومحمود السقا في نقابة الصحفيين.

هاتين الضربتين: اقتحام النقابة ثم مهاجمة قياداتها "قانونيًا"، ليستا أقل من إعلان حرب على الصحفيين المصريين الذي لا يسيرون على الخط الذي رسمته لهم الدولة، ونزع مخالب اتحاد مهني كان يومًا قويًا.

 

وقفة تضامنية مع الصحفيين المحبوسين

 

حرب الكلمات

بالنسبة للصحفيين في سيسي-لاند فهم "إما معانا أو علينا". أحيانًا هذا التوجيه يقال علنًا وبلا مواربة، كما قال السيسي نفسه في تسريب شهير في 2013: "كنا مهمومين بموضوع الإعلاميين دا من أول يوم جه فيه المجلس (2011)"

جاء ذلك في معرض رد السيسي على ضابط طالب بممارسة سياسة العصا والجزرة (الترغيب والترهيب): "سيادتك الإعلام في مصر بيسيطر عليه 20-25 واحد.. إحنا لازم نتواصل مع الناس دي مباشرة بالترهيب والترغيب".

ما اتبعه السيسي عندما احتل موقعه فوق مقعد الرئاسة لا يدع شكًا حول ماهية الخيار الذي اتخذه.

الإعلام المؤيد للحكومة في وسائطة المختلفة، هو امبراطورية علاقات عامة في ثوب صحفي. ولا حظ للمصريين الذين هم بحاجة إلى معلومات دقيقة متعلقة بطوفان الكوارث التي تطوف بالبلاد.

بنسبة أمية تبلغ 25%، يتساءل المرء لِم تستثمر الدولة كل هذه الأموال والموارد البشرية في محاولات السيطرة على الإعلام؟ ببساطة لأن الكلمات تهم. وكلا الطرفين (السلطة والمعارضة) يعيان أهمية توظيفها.

 

داخل الماكينة

توظيف شبكة معقدة من الجيوش على السوشيال ميديا لخدمة وترويج خطاب الدولة والهجوم على الأصوات المُعارضة، هي وسيلة استخدمها النظام لخنق المعارضة وغسيل أدمغة الجمهور المُرهَق والمستعد للتأثُر.

عند الكتابة عن تراجع حرية الإعلام في مصر، يمكن للكاتب أن يجد قيودًا حتى تلك الكتابة. وهنا أشير إلى قوانين العقوبات التي تمنعني من أن أذكر اسماء المتلاعبين بالعقول. ولكن لا يوجد قانون يمنع ويكشف استراتيجية التضليل الإعلامي التي يمارسها إعلاميو الدولة.

الخطة التي تتبعها الدولة يعود تاريخها للخمسينات، عندما جيّش عبد الناصر جيشًا من الضباط ليمارسوا وظيفة الرقيب المقيم داخل الصحف كافة. العالم تغير جذريًا خلال السبعين عامًا الماضية، وهذه الأيام؛ يصعب أن تنشأ منظومة أورويلية الطابع للسيطرة على الجماهير*، لذا كان على النظام ان يخطو أبعد من مجرد السيطرة على الراديو والتلفزيون.

مع تفجُّر معدلات استخدام فيسبوك في مصر من 4 ملايين مستخدم في 2010 إلى أكثر من 30 مليون مستخدم في 2015، وهو ما يعادل حوالي ثلث السكان؛ وجد سادة السلطة ضرورة في بناء ما صار معروفًا بالكتائب الإلكترونية.

                                         

صورة نشرها أحد أعضاء مجموعة مؤيدي الدولة لتنسيق الكتائب الإلكترونية

 

هذه المجموعات المنظمة، التي تتبع الدائرة المُسيّسة في تويتر كذلك، تستهدف الرأي العام بعدة طرق، أكثرها سذاجة يتمثل في دعم تلك الكتائب للشخصيات المؤيدة للحكومة أو الممثلة لها، ولى رأسها السيسي نفسه طبعًا، وذلك عبر نشر كتابات وصور تدعم النظام عبر تويتر وفيسبوك.

 

اقرأ أيضًا: اتحاد "الدولجية": نحن حركة مقاومة شعبية

 

كمين إلكتروني

اللافت: أن هذه الكتائب تعمل على تغيير اتجاهات الرأي العام بطريقة مفضوحة. في الأسابيع التي سبقت قرار تعويم العملة المحلية في الثالث من نوفمبر/ تشرين ثان الماضي، ضمن خطة الإصلاحات المقدمة لصندوق النقد الدولي، عصابات تهيئة الرأي العام صالت وجالت في إعلان التأييد للاتفاق الخطير الموشك على الحدوث.

هذه الأفواه، التي ربما تعمل وفقًا لتوجيه عدة أجهزة أمنية، حاولت أيضًا أن تخفض من سعر الدولار مقابل الجنيه في السوق السوداء قبل القرار الرسمي بالتعويم، وذلك عبر تشجيع الناس على التخللي عما لديهم من العملة الخضراء، بتحذيرهم من أنهم سيخسرون مبالغ كبيرة عقب التعويم.

ورغم أن المتعاملين في العملات الأجنبية داخل مجموعات فيسبوك المغلقة – التي تابعها كاتب هذا المقال- باتوا يدركون أبعاد هذا التكتيك؛ لكن بدا أن هذا الأسلوب أتى أُكله لدى المتعاملين قليلي الخبرة في بيع وشراء الدولار.

الجيوش الرقمية ترصد صناع الرأي الذين ينظر إليهم باعتبارهم "ناقدين للحكومة" ثم ينطلقون في معركة منظمة للقضاء على تلك الأصوات المعارضة، هذا التكتيك وصل مداه خاصة على تويتر.

في بعض الحالات، يتجاوز الهجوم نطاق توجيه الإهانات للمعارضين، ويصل إلى درجة التهديد الصريح. ولأني كنت عند الطرف المتلقي لتلك الهجمات اللاذعة عدة مرات؛ يمكنني أن أؤكد لك أنها تجربة مربكة. يمكن للمرء أن يتخيل وقع تلك الهجمات على مواطن عادي، تعبير "مثير للرجفة" يمكنه أن يعبر عن هذا الإحساس.

بكل تأكيد: تلك الجيوش الرقمية ليست عفوية ولا يأتي هجومها المنظم من قبيل المصادقة. هل تشك في هذا؟ حتى لو كنت لا تتحدث العربية فالضغط على هذا الرابط سيريك مجموعة من المنشورات شبه المتطابقة، التي كتبتها "شخصيات" عديدة بفارق دقائق قليلة عن بعضهم البعض. أهلا بك في عالم الكتائب الإلكترونية.

 

صناعة المونولوج

أما فيما يتعلق بالتلفزيون، فالمباراة أكثر تعقيدًا وضمنية. تذكر، هذه الأمة يقودها رجل اشتهر عنه أنه قال: "اسمعوني أنا بس". المونولوج: حديث الطرف الواحد عوضًا عن الديالوج: الحديث بين طرفين، هو هدف هذه الحكومة، وهو كذلك الصيغة التي تحرص معظم وسائل الإعلام المصري على الالتزام بها. 

موجات الهواء المصرية يمكن تفسيرها بمصطلحات سينمائية: برامج التوك-شو هم الترسانة النووية للحكومة، والرجال والنساء الذين يقدمون تلك البرامج يستخدمون جاذبيتهم كسلاح خارق. الأسماء لا تهم: المنهج والنظرية التي تقود أداءهم في نشر وترويج الضلالات هي صلب الموضوع.

فكر في الأمر على النحو التالي: هؤلاء الذين يحكمون دولة بوليسية يأتون من خلفية عسكرية أو شُرَطِية. وبالنسبة لهم فإن التآمر والتخطيط كالماء والهواء. إذن، لدينا عدد كذا من القنوات التلفزيونية، وهي ضرورية جدًا في دولة يجهل واحد من بين كل أربعة من مواطنيها كيف يقرأ ويكتب. في كل واحدة من تلك القنوات عدد من المذيعين الذين يقدمون عدد من البرامج والمنصات. الأسماء الأكبر لديها قاعدة المشاهدة الأوسع، وتعهد إليهم الحكومة بالتاثير على القطاعات الأكبر من الرأي العام.

سواء كانت المهمة هي الحديث بشكل إيجابي عن صفقة قرض الصندوق، ذلك الكيان الدولي الذي دأب هؤلاء المذيعون على سبه، أو كانت المهمة هي رفع نسبة التصويت في الانتخابات الرئاسية عبر سب الشعب ونعته بالخونة والمتآمرين لعزوف أفراده عن التصويت في اليومين الأولين لانتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي، فهؤلاء المذيعين يخربون نظرة الناس لما هو فكاهي وذكي بيد، ويسوقون الشعب نحو التسليم التام لإرادة السلطة باليد الأخرى.

بعضهم يلعب دور المهرج، البعض يستخدم الجمال وقليلون يلعبون دور المفكرين، بينما بعضهم يعترف على الهواء أنهم يعملون لصالح جهاز الأمن الوطني. أيا كان دورهم في هذه التمثيلية، ففي النهاية، هؤلاء المؤدين الاستعراضيين الذين يلعبون دور الصحفيين على خشبة الدعاية الحكومية، هم فعلاص يجعلون من الصحافة في مصر جريمة.

تحصين التضليل

إلى جانب الدعاية الحكومية التي يقدمها مذيعو التلفزيون؛ ولترسيخ السيطرة على الشاشة الصغيرة، اندمجت شبكتان من كبريات الشبكات التلفزيونية العاملة في مصر وهما النهار وCBC قبل ثمانية أشهر، مع عملاق ثالث هو ONTV بعدما اشتراها واحد من كبار مؤيدي السيسي وهو رجل الأعمال أحمد أبو هشيمة: وبهذا يمكن اعتبار السيطرة على موجات الهواء قد تمت.

حاول أن تجد تغطية تلفزيونية مفصلة للعصيان المدني الذي أثبت نجاحه لثلاثة أيام متواصلة في جارة مصر الجنوبية، السودان، وستجد أنك قد بذلت مجهودًا كبيرًا بلا طائل. هل تريد أن تسمع عن تحذيرات الأمم المتحدة من موجة جديدة من الهبات الشعبية الغاضبة؟ ربما تسمع عنها فعلاً، ولكن سيكون هذا من الإيكونوميست لا من مركز صناعة الضلالات.

بالظبط كما حاول الإخوان المسلمون السيطرة على اتجاهات الرأي العام عبر العديد من القنوات الإسلامية، فإن الجيش –صاحب السيطرة الفعلية الآن- يستخدم ذيوله ومن شاء من المذيعين كي يضمن لنفسه السيطرة الأيدولوجية.

سيطرة الدولة على أجهزة الإعلام يتضمن الصحف والراديو. الأخير يستمر في لعب دور هام، خاصة في الجنوب والمناطق الريفية، رغم أن هذا الدور لا يقارن طبعًا بالدور الهائل الذي لعبه في عهد عبد الناصر. لكن التلفزيون هو ما يحمل العبء الأكبر فيما يتعلق بتوصيل رؤية الحكومة للجماهير.

 

اقرأ أيضًا: ليليان داوود: لن أتوانى عن أي مسعى قانوني أو دبلوماسي للعودة إلى مصر  

 

ما الذي يوجد على المحك

دون خطاب بديل؛ فإن المصريين سيستمرون في الحياة كصلصال لدن في أيدي الحكومة الملطخة، يشاهدون التلفزيون دون تفكير بينما تمر بهم الأيام.

في التمثيلية الرديئة التي يتشكل منها الإعلام المصري الحديث، لا يوجد أبرياء وكل الأطراف لديها أجندتها الخاصة. ورغم ذلك؛ فإن هناك من يتمتعون بالاحترام المهني والإخلاص للحقيقة وحب البلد، بينما يحمل غيرهم سيفًا معيبًا، هدفه الدفاع عن رجل سُجِن وقُتِل وعُذِّب تحت قيادته العديد من إخوة لهم  في المهنة ذاتها.

 

 

المصور الصحفي شوكان المسجون منذ 3 سنوات بقي أكثر من عامين ونصف منها بلا اتهامات 

 

المحللون الذين اختاروا أن يروا حرية الصحافة فقط عبر منظور القضايا الشهيرة مثل خلية الماريوت وشوكان واسماعيل الاسكندراني، يقدمون خدمة سيئة لمن يحاولون فهم الصورة الكاملة.

حرية الصحافة في مصر لا تقف عند 63 صحفي أكرهوا على الصمت في غياهب سجون السيسي، ولا هي مجرد وجود صوت ورؤية واحدة مسيطرين على الإعلام! القدرة على الفهم والاستنتاج نفسها صارت على المحك. فبدون خطاب بديل؛ فإن المصريين – في معظمهم- سيستمرون في الحياة كصلصال لدن في أيدي الحكومة الملطخة، يشاهدون التلفزيون دون تفكير بينما تمر بهم الأيام.

لكن هذه حكومة غارقة في التفاؤل، الذي يجعلها تحط من شأن عقول 93 مليون مصري. بعض الحكومات هكذا.. لا تتعلم الدرس إلا بالطريقة القاسية.

(*) إشارة إلى روايتي 1984 ومزرعة الحيوانات لجورج أورويل.