سيد إمام.. مشروع مصري

منشور الأربعاء 29 مارس 2017

في 2012، بدأت أغنية  بعنوان "سقاني الغرام"، في الانتشار على نطاق محدود على فيسبوك، عبر الصفحات الرئيسية للمهتمين بالمشهد الموسيقي المستقل، وبعد أسابيع اتسع نطاق انتشارها- قاربت ثلاثة ملايين مرة استماع في واحد من روابطها العديدة على ساوند كلاود- ونظر لها البعض باعتبارها طفرة موسيقية، في وقت كانت تتسيد فيه الموسيقى الشعبية وتحديدًا لون المهرجانات، الساحة الموسيقية في مصر.

 

الأغنية التي قدمها فريق جديد وقتها يُدعى "مشروع مصري"  Egyptian Project حازت إعجاب الكثيرين لأسباب متعددة. فكلماتها قصيدة صوفية ينسبها البعض للإمام علي بن أبي طالب، ما أعطاها شهرة، وضَمَن لها إعجابًا واسعًا رغم كونها مأخوذة عن أشعار الشاعر الأندلسي المتصوف شعيب بن الحسن التلمساني، الملقب بأبي مدين الغوث. كما كان لِلَّحن الذي يمزج بين الموسيقى الإلكترونية والصوفية، دورًا في لفت الانتباه لاختلافه وتميزه. أما درة الأغنية والتي جعلت من نجاحها قضية مسلمًا بها، فكان الصوت العذب الآسر لـ"سيد إمام".

وفي 2012 أيضًا، بينما كانت الفرقة تجول بصحبة "سيد" في أوروبا، كان صوته الذي يشاركه مستمعوه عبر وسائل التواصل الاجتماعي يبني للفريق قاعدة تتسع يوميًا من المعجبين، ما ضمن نجاحًا كبيرًا لأول ألبومات الفرقة "يا قمر"، وجعل ارتفاع مبيعات تذاكر حفلات الفرقة في مصر أمرًا محسومًا.

بداية الرحلة

غلاف ألبوم

تَمكُّن سيد إمام من أداء هذا اللون من الغناء ليس وليد "مشروع مصري". فللغناء الصوفي تاريخ طويل في مصر، خاصة في الصعيد الذي يتسيد فيها المديح والإنشاد الصوفي رأس المزاج الموسيقي الشعبي. وكحاضنة لمعظم فنون الغناء الشعبي المصري، اهتمت فرقة النيل للآلات الشعبية التابعة لفرقة مسرح السامر بالهيئة العامة لقصور الثقافة بالغناء والإنشاد الصوفي، منذ نشأتها في 1957 على يد زكريا الحجاوي بنقل فنون الإنشاد. فقد اعتمدت الفرقة على تمثيل كافة الآلات الشعبية المصرية المنتشرة في أقاليم وقرى الصعيد والدلتا.

نجح الحجاوي فى تشكيل الفرقة باسمها الأول "الفلاحين"، ثم توالت الأجيال وتولى إدارة الفرقة فى عام 1975 عبد الرحمن الشافعي.

وفي عام 2003 قام الشافعي بتشكيل فرقة النيل للإنشاد الديني، وهي تابعة للفرقة الأم النيل للآلات الشعبية، وتكونت الفرقة من فناني فرق الإنشاد الديني في المحافظات، وبين صفوفها، كانت البذور التي ستشكل فرقة "مشروع مصري".

المشروع

فى عام 1997 كان للموسيقار الفرنسي  Hughes de Courson هيو دي كورسون، رؤية لعمل موسيقي يقدم موسيقى موتسارت بالآلات شرقية، مستعينًا بالربابة والمزمار والطبلة. ولجأ كورسون لعدة فرق مصرية على رأسها فرقة النيل، وشكَّل أوركسترا ضمت 45 موسيقي مصري، عمل معهم على تقديم موسيقى مصرية تختلط بموسيقى موتسارت. وقدمت الفرقة ألبومين ناجحين هما موزار المصري، وموزار المصري 2.

 

لم تستمر الفرقة بعد صدور الألبوم الثاني، لكن الفكرة الذاهبة لدمج الموسيقى الشعبية المصرية بالموسيقى الغربية الخالصة؛ كانت قد وجدت طريقها للنجاح بالفعل.

من بين العازفين الذين اكتسبوا خبرة العمل مع دي كورسون، كان عازف الربابة والكمان متولى سلامة وعازف الدُف صادق رجب القادمين من فرقة النيل للآلات الشعبية. التقى الفنانين بجيروم ايتنجر. وقتها كان جيروم مستمع محب ودارس للموسيقى على يد عازف الأرغول الراحل مصطفى عبدالعزيز. وفي إحدى حفلات موزار المصري في باريس، وُلِد حلمه وهو جالس في صفوف الجمهور.

وفي 2007، أي بعد عامين من صدور ثاني وآخر ألبومي موزار المصري، بدأ جيروم في تكوين فريقه الموسيقي برؤية تختلف عن التجارب السابقة.

قامت تجربة جيروم التي اختار لها اسم "مشروع مصري" على مزج الموسيقى الصوفية والشعبية المصرية بالموسيقى الإلكترونية وموسيقى الهيب هوب، من خلال المزج الإلكتروني، وبمشاركة زميله الفرنسي لاعب الدرامز أنطوني بوندو. اكتملت الرؤية واكتمل معها تشكيل الفريق في 2012، عندما صدر أول ألبومات مشروع مصري تحت اسم "يا قمر".

 

الطريق إلى سيد إمام

"سقاني الغرام" كشفت عن صوت ناضج متمرس يحمل فريق "مشروع مصري". انتشار الأغنية وتميز الصوت ولّدا العديد من التساؤلات: من هو وأين كان؟ هذا الصوت نفخ في الموسيقى الإلكترونية الممزوجة بالأغنية روحًا مميزة، وكساها أصالة لافتة.

هذا الصوت، "سيد إمام" هو شريك جيروم في تأسيس الفريق. ويحمل التاريخ المناسب تمامًا لضبط خلطة "مشروع مصري". بدأ سيد إمام كعازف كَوَلَة، وتشرب الموسيقى خلال السنى الأولى التي تلت ميلاده عام 1958 بمنطقة الإمام الشافعي، ثم احترف الموسيقى وقضى سنوات يعزف بصحبة منشدين مثل الشيخ إبراهيم الإسكندراني والشيخ ممدوح عبد الجليل والشيخ إبراهيم الدسوقي، فصار إلى جانب شغفه بالموسيقى؛ مولعًا بالكلمات والقصائد التي ينشدها أساتذته من عيون الشعر العربي الصوفي. كذلك ساهمت نشأته وسط الموالد الشعبية فى تكوينه، إلى أن ظهر صوته المميز الذي جعله يشق طريق الغناء بطريقته وقناعته.

رحلة الذكر والانشاد                          

كانت بداية رحلته في الغناء عام 1984 الذي صدر فيه ألبوم "ياللي غرّك زمانك"، الذي قدم فيه ألوانًا من المدائح والإنشاد، محاولا شق طريقه وسط كبار المداحين والمنشدين، واستطاع أن يحقق النجاح بينهم، خاصة وأن مجتمع المنشدين لا يتسم بالغِلظة في المنافسة، بل يَلقَى القادم إليها مديحًا وتشجيعًا، ما دامت موهبته تؤهله لتلقي هذا المديح.

خبرته في العمل مع كبار المنشدين جعلته يعرف طريقه باختيار أناشيد من التراث الذي تشربه، وقصائد أخرى كتبها بنفسه. كانت هذه البداية لطريق سيعتمد فيه سيد على نفسه كثيرًا في الكتابة خلال مشواره المستمر.

توالت ألبومات الذِكر، وأصبح يُكتب على أغلفتها الشيخ سيد إمام كما يلقب كل مداح، فتعددت ألبوماته التى وصلت إلى 35 ألبوم، منها: نداء الغريب ويارب توبة ودنيا فانية ورحلة الحج ومدح الرسول "قصدت باب رحمتك".

فى ألبوم "عشمان فى كرمك" وهو عبارة عن أغنية واحدة - أكثر من ألبوم لإمام به أغنية واحدة تمتد لقرب الساعة- قدم فيها إمام لونًا معروفًا من الفن الشعبي تحمل فيه الموسيقى الشعبية التقليدية كلمات المديح والابتهال، حيث تبدأ الأغنية بالدعاء والإنشاد وذكر أسماء الله الحسنى في ابتهال لله، يليها مقطع عن الأم يحكي فضلها ويوصي بها. وفي آخر مقاطع الأغنية تتحول الموسيقى للحن أغنية معروفة وهي "يلا بينا يلا"، التي غناها كثيرون منهم شريفة فاضل وداليدا وصولاً لمحمد فؤاد. إلا أن سيد إمام قام بتغيير الكلمات لتصبح: "يلا بينا يلا على نبينا يلا .. نحج ونقول رسول الله .. يلا بينا على طول .. نزور الرسول .. ده القلب مشغول بحب حبيب الله".

رحلة الغناء الشعبي

قرر إمام بناء على نصيحة تلقاها من الملحن محمد اسماعيل أن يتجه إلى الأغنية الشعبية، البداية كانت مبكرة في ألبوم أشكي لمين الصادر في 1995، والذي توسع فيه إمام في كتابة كلمات أغانيه لتتكون له قاعدة جماهيرية جديدة من جمهور الغناء الشعبي العريض، وانتشرت له أغنية "مكنش عشمي"، التي صارت تتردد في المواصلات، ثم وجدت طريقها لقنوات الغناء الشعبي بعدما قام سيد إمام بتصوير فيديو كليب لها في السنوات الأخيرة.

وفى عام 1996، سلك إمام طريق الموال الشعبي القصصي، وكانت تجربته الأولى "كامل وأصيلة" التي لم تبتعد عن الخطوط العريضة لذلك الفن التي تعتمد على حكاية قصة تحفل بأشكال الوعظ الأخلاقي والديني. ورغم نجاح الألبوم لم يكرر إمام تجربة الموال القصصي سوى مرة واحدة أخرى، غنى فيها من كلماته وألحانه "ياسين وعمار".

تعددت ألبوماته الشعبية، وصار يصدر ألبومين أو ثلاثة ألبومات في العام الواحد، حتى وصل إنتاجه إلى اكثر من 25 ألبوم من المواويل والأغنيات الشعبية.

لم تكن ألبوماته وأغنياته كلها على نفس المستوى من التميز الفني، فبعضها جاء لإرضاء المنتجين والذائقة المقبلة على شراء الألبومات، حتى إنه قدم أغنيات على نفس إيقاعات وألحان شعبان عبد الرحيم التي كانت تحظى بشعبية واسعة مثل أغنية "هكسر الأزايز" التي غناها على نفس لحن "هبطل السجاير".

 

كلمات إمام وألحانه

فى غلاف ألبوم "يا قمر" لـ"مشروع مصري" حدث خطأ يذكرنا بما نعرفه عن أخطاء شركات الإنتاج المصرية في طباعة بيانات أغلفة الألبومات، حيث نُسبت كلمات أغنيتي "سقاني الغرام" و"بشارية" لسيد إمام، بينما هما مأخوذتان عن شاعر صوفي أندلسي وأغنية تراثية صوفية معروفة – على الترتيب-. لكن باقي أغنيات الألبوم التي قدمت أيضًا على أنها من كلمات إمام، كانت تحمل بعض كلماته بالفعل. حيث لجأ إمام في هذا الألبوم إلى الاعتماد على مذاهب ثابتة لأغان معروفة، قبل أن يركب عليها كلماته وتصريفاته اللحنية.

فمثلاً أغنية "يا صاحبي" غناها يوسف شتا بنفس المطلع "يا صاحبي ليه بعتني"؛ أكملها إمام بعدها بطريقته وكلماته. كذلك "منين أجيبك يا غالي" التي غناها بيومي المرجاوي بكلمات أخرى. فهذه عادة إمام؛ يمزج بين كلماته والتراث، أو يعتمد على مطالع أغنيات أخرى، وهذه سمة عامة في الفن الشعبي لم يبتكرها لكنه أجاد توظيفها.

يختار إمام ما يغنيه بعناية، وهو مدرك لاختلاف وتباين الجمهور الذي يتوجه إليه "مشروع مصري". يعرف إمام ما سيصل جمهور أوروبا، وما سيتلقاه المستمع العربي وما ستستجيب له ذائقة المستمع المصري. فتحوي ألبومات الفريق أغنيات ذات ألوان لم يغنها إمام من قبل، ولا يجد غضاضة في أن يشارك أعضاء الفريق في تطوير اغنية سبق له تقديمها لتخرج في ثوب جديد، أو حتى يقتبس منها ويبني عليها أغنية جديدة تمامًا.

فهناك بعض الأفكار التي تشغله وتدفعه لتقديمها أكثر من مرة بأشكال مختلفة، منها مثلا واحدة من الأغاني التي قدمها في ألبوم "اليتيم" عن ظلم الإنسان، وأعاد تقديم مقاطع من الأغنية نفسها ضمن أغنية "ليه يا إنسان" التي قدمها في ألبوم "بيتنا القديم"، ثم وجدت بعض كلمات الأغنية طريقها لـ"اصحى يا آدم" التي قدمها مع فريق مشروع مصري. والأغنيات الثلاثة تدور حول نفس الفكرة التي تتساءل حول غيابة المحبة والعدالة بين أبناء آدم. وكأنه يصر على تكرار رسالته هذه للعالم.

معاناه التجاهل والتحدي للاستمرار                       

رغم نجاحها المبدئي، تعاني ألبومات إمام من عدم الانتشار، فقليل من تلك الألبومات وجدت طريقها لفضاء الإنترنت، بينما لا تزال معظم أغنياته حبيسة وسيط شبه منقرض وهو شرائط الكاسيت، وفُقد بعضها بغياب نسخ الألبومات.

 لكن؛ على الرغم من اختفاء إمام وتقلص جماهيريته الشعبية، إلا أنه ما زال يتعامل مع بعض شركات الإنتاج المستمرة، فيعمل حاليا على إصدار أغنيات جديدة ويقوم بعمل كليبات مع قناه شعبيات، كان آخرها أغنية "ماخترتش إسمي" وكانت من كلماته وألحانه أيضًا، وقريبًا يصدر له كليب لأغنية "يوم زفافك"، يحرص إمام على أن يسير مشروعه الشعبي الخاص بالتوازي مع مشروعه المختلف برفقة فرقة "مشروع مصري".

صقلت التجربة الطويلة والمتنوعة "إمام"، ووسط إنتاجه الغزير أنتج عدة تجارب موسيقية وشعرية مهمة، وإن لم يحقق نجاحًا واسعًا إلا وسط جمهور الموالد والإنشاد، بالإضافة لنجاح معقول في أوساط محبي الأغنية الشعبية، إلا أن منحنى نجاحه كان شديد التذبذب.

لكن خلاصة هذه التجارب جميعها وجدت طريقها لإنتاج تجربة فنية ناضجة ورائقة، ظهرت من خلال أعماله مع "مشروع مصري".

ففي حوار أجري معه في فرنسا، قال إمام: إن النجاح الكبير الذي قوبلت به تجربته مع "مشروع مصري" في 2012، جعلته يتذكر "التجاهل الذي كان يعانيه في بلده". ونتيجة للتفاعلات التي جرت عقب الثورة، عُيِّن إمام أخيرًا بعقد رسمي في فرقة النيل للآلات الشعبية.

من الصعب أن يقدم الفنان مجموعة متنوعة من الفنون، وأن تكون له القدرة على غناء أكثر من لون. لكن سيد إمام قادر على دمج أنواع مختلفة من الفنون، فقد تجده مطربًا يخرج صوته من سماعات ميكروباص تستقله وأنت في طريقك لحضور حفل لـ"مشروع مصري" التي تعتبر في مصر واحدة من فرق "الأندرجراوند" -الاسم الذي يطلق على فرق ومطربي المشهد الغنائي المستقل- هذا الصوت عينه ستجده ينشد بعد أيام في أحد الموالد بالسيدة.

يعيش إمام تحديًا كبيرًا مع فريقه "مشروع مصري"، استطاع أن يتعامل معه بنجاح حتى الآن. فنجاح الفرقة يستلزم المزيد من الجهد في التجديد والتطوير في الموسيقى والكلمات والأداء، حتى يتمكن الفريق من الاستمرار على نفس القدر –أو أكثر- من النجاح في مصر وخارجها، ويثبت اختلافه عن تجربة إمام الممتدة.

                            

سيد إمام بين أعضاء