ترامب ومحمد بن سلمان

ترامب وزايد وسلمان.. كيف تشكّل ثالوث الأزمة القطرية؟

منشور الخميس 8 يونيو 2017

تفاجأ البعض بحملة المقاطعة الخليجية ضد قطر مؤخرًا. واعتبروها نوعًا من التصعيد غير المبرر  لا يتناسب مع السياسات القطرية في المنطقة، في الوقت الذي رأى فيه البعض الآخر إن هذه المقاطعة أمر طبيعي يعكس نفاد صبر دول الخليج من الدولة التي "ترعى الإرهاب" على حد وصفهم.

وفي الواقع فإن توقيت بداية الحملة الخليجية  ضد قطر –عقب جولة ترامب الشرق أوسطية– يشير بقوة إلى أنه جرى الإعداد لها بشكل مُسبق، لتصبح أولى ثمرات تحالف خليجي أمريكي جديد، يسعى لتنفيذ برنامج إقليمي، أعدته دولة الإمارات بعناية.

إمارات محمد بن زايد.. الثابت الأوحد

منذ ظهوره السياسي عام 2003، بتعيينه نائباً لولي عهد أبو ظبي، بدا أن محمد بن زايد يحمل طموحًا سياسيًا كبيرًا، لم يتعلق فقط بأن يصبح الحاكم الفعلي للإمارات، ولكن تعلق أيضاً برغبته في تعظيم مكانة ونفوذ الدولة إقليميًا ودوليًا، وتطوير أدواتها في السياسة الخارجية.

ونجاح محمد بن زايد في مسعاه على مدار السنوات الماضية، جعل السياسة الخارجية الإماراتية تبدو الأكثر ثباتًا واستمرارية في منطقة الشرق الأوسط. فقد حاولت الإمارات الحفاظ على مركزية تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، بالتوازي مع سعي دؤوب لتشكيل لوبي إماراتي اقتصادي قوي في واشنطن، يضمن استمرار هذ التحالف، وصيانة المصالح الإماراتية، وهو ما نجح في تحقيقه بنسبة كبيرة، رجل ابن زايد في واشنطن، وسفير الإمارات هناك، يوسف العتيبي.

حيث استطاع ابن زايد عن طريق العتيبي تسخير ثروات البلاد الاقتصادية لزيادة التأثير والنفوذ الإماراتي على سياسات الولايات المتحدة في المنطقة.

 إذن سعى ابن زايد بشكل واضح إلى جعل الإمارات مركز صناعة القرار السياسي في المنطقة وصاحبة النفوذ الأول. وبالتالي، ناصب العداء لكل الأطراف التي حاولت زعزعة هذا النفوذ، أو منافستها في هذا الصدد، بغض النظر عمّا إذا كانت الإمارات تحمل عداءً أيديولوجيًا لهذه الأطراف أم لا.

لهذا السبب ناصب محمد بن زايد العداء للإخوان المسلمين، الذين ظلوا خطرًا محتملًا على مستقبل الحكم في الإمارات، وتوهّج هذا العداء بعد الربيع العربي ووصولهم إلى سدة الحكم في أكثر من دولة عربية.

وكذلك كان يرى أن إيران ونفوذها الإقليمي هما الخطر الأكبر على المنطقة، مما دعاه إلى تحريض الولايات المتحدة لتوجيه ضربات عسكرية رادعة لها. وبالطبع فقد تعاظم هذا العداء مع تنامي التأثير الإيراني في المنطقة، عبر النظام السوري وحزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن

وفي الإطار ذاته، يبدو أن عداء ابن زايد امتد أيضًا إلى السعودية -قبل ثورات الربيع العربي حين بدا واضحا تصاعد النفوذ السعودي في المنطقة وتعميق علاقتها مع واشنطن- وسعى لتحريض الولايات المتحدة ضدها، وهو ما كشفت عنه وثائق ويكيليكس المُسربة.

ففي وثيقة يعود تاريخها الى 21 إبريل/نيسان 2008، كان ابن زايد يتحدث مع قائد العمليات البحرية الأمريكية، وقال له وفقًا للوثيقة: "العالم تغير، والإمارات ستظل متفائلة على الرغم من وجودها في منطقة يغلب عليها التخلف، وضرب مثلاً على التخلف بجارته السعودية التي لا يستطيع 52% من سكانها قيادة السيارة". وقال أيضاً: "على الرغم من نوايا الملك عبد الله الصادقة في محاربة الاسلام الراديكالي، الا أن رجلاً في السادسة والثمانين لا يمكن أن يكون راعيًا للتغيير". وذكر في وثيقة أخرى: "السعوديون ليسوا أصدقائي الأعزاء، وإنما نحتاج لأن نتفاهم معهم فقط".

ولكن، بعد ثورات الربيع العربي، تبدّل موقف ابن زايد تجاه السعودية أكثر من مرة، وفقاً للمصالح الإماراتية، ووضع السعودية الإقليمي.

أمّا قطر، ونتيجة سعيها لتعظيم نفوذها، ودوائر تأثيرها الإقليمي، ودعمها لجماعة الإخوان المسلمين عقب صعودها السياسي، فرأى محمد بن زايد أنها باتت أخطر مصادر التهديد على نفوذه ونفوذ بلاده ومصالحها في المنطقة، وذلك منذ اليوم الأول لثورات الربيع العربي.

مملكة محمد بن سلمان.. مسارات متعرجة

 كان تاريخ 23 يناير/ كانون الأول 2015، نقطة تحول مؤقتة في خريطة تحالفات المنقطة، حيث توفي العاهل السعودي، الملك عبدالله بن عبد العزيز، بعدما حاول جاهداً في تحالفه مع الإمارات تقويض فاعلية ثورات الربيع العربي، ودعم الثورات المضادة، وإيقاف صعود الإخوان المسلمين، وهو ما أثّر على موقفه من اليمن، فترك للحوثيين حرية الحركة هناك، حتى استولوا على مقاليد الحكم في البلاد.

جاء العاهل السعودي الجديد الملك سلمان بن عبد العزيز، برؤية واضحة، تتمثل في تمكين أبناء الجناح السديري في المملكة من تولي زمام الأمور، وتمهيد الطريق أمام ابنه محمد بن سلمان للحكم، إلى جانب تجاوز سياسات سلفه، حيث أوقف الحرب السعودية على جماعة الإخوان المسلمين، وصب تركيزه على ملف اليمن والحوثيين، وتراجع عن الدعم السياسي والاقتصادي المطلق لعبد الفتاح السيسي، رئيس مصر.

اقرأ أيضًا: نص كلمة السيسي في القمة العربية الإسلامية الأمريكية 21/5/2017

وكان محمد بن سلمان هو رأس حربة أبيه في سياساته الجديدة، بعدما تولى وزارة الدفاع، ورئاسة الديوان الملكي. قبل أن يتخلى عن المنصب الأخير، ويتولى منصب ولي ولي العهد.

ومن اليوم الأول بدا أن محمد بن سلمان يحمل طموحًا سياسيًا كبيرًا، لا يتناسب مع خبرة الشاب ذو الـ 30 عاماً حينئذ. حيث قاد الحملة العسكرية السعودية في اليمن ضد الحوثيين، وحاول ممارسة دور عسكري أكبر في الصراع السوري. وهو ما دفع الاستخبارات الألمانية إلى نشر مذكرة في نهاية عام 2015، تحذر فيها من جنوح السياسة الخارجية السعودية إلى الاندفاع، بينما يسعى نائب ولي العهد، محمد بن سلمان، إلى "فرض نفسه في هرم السلطة".

ونُقل أيضًا عن الاستخبارات الألمانية أنها وصفت ابن سلمان بأنه سياسي مقامر يعمل على شل العالم العربي من خلال تورطه بحروب بالوكالة في سوريا وإيران، مُشيرةً إلى أن المغامرات الخارجية التي بدأها ابن سلمان لم تكن ناجحة وليس هناك أي بوادر تشير إلى نجاحها لاحقاً.

في هذه الأثناء، توترت العلاقات السعودية الإماراتية بشدة، بسبب السياسات الجديدة التي انتهجها القصر السعودي، وبسبب وجود محمد بن نايف، ولياً للعهد، وهو من تجمعه علاقات غير ودية مع محمد بن زايد. كما لم تعد علاقات مصر السيسي مع السعودية كسابق عهدها، بسبب إيقاف الأخيرة سياسة الدعم المطلق لمصر.

وبالطبع فإن انحراف السعودية عن سياسة الملك عبدالله سبّب انزعاجاً لمحمد بن زايد، الذي كان يرى في المملكة إحدى نقاط الارتكاز المهمة لسياسته في المنطقة. وهو ما دفعه للّعب على الطموح السياسي لمحمد بن سلمان، فحاول اجتذابه، وتغيير دفة السياسات السعودية عن طريقه، وإكسابه نفوذ أكبر داخل المملكة.

ومنذ ذلك الحين، وبدا وكأن محمد بن سلمان هو الحاكم الفعلي، حيث تبنى خطة "السعودية 2030"، وكثّف من زياراته الخارجية، وأعاد ترتيب البيت السعودي من الداخل، عن طريق منح المزيد من الصلاحيات لأشقائه، في مقابل سحب النفوذ من محمد بن نايف. وتبنى سياسة خارجية واضحة، من حيث استعادة نبرة العداء للإخوان المسلمين، واجتذاب عبد الفتاح السيسي إلى الرياض مرة أخرى، والمجاهرة بالعداء لإيران وسياساتها الحالية. وفي الوقت ذاته، حاول محمد بن زايد تدعيم مركز محمد بن سلمان في واشنطن، سواء في عهد أوباما أو ترامب.

ليضمن ابن زايد بذلك أن السعودية باتت ظهيرًا قويًا لسياساته في المنطقة، وأنها ستكون الحليف الأهم في معاركه السياسية الإقليمية المُنتظرة.

اقرأ أيضًا: توتر أقدم من "تصريحات تميم".. الطريق العربي إلى مقاطعة قَطَر

ترامب.. سياسات متقلبة

وصل ترامب إلى البيت الأبيض دون أن يحمل رؤى مُحددة لسياساته المنتظرة في الشرق الأوسط، ولكنه قد ألمح في أكثر من مناسبة أن سيتبنى سياسة النأي بالنفس عن أزمات المنطقة. وفي مواضع أخرى كان يشير إلى أن دول الخليج عليها أن تدفع لواشنطن في مقابل الدعم السياسي والعسكري.

التقط ابن زايد هذا الخيط، وبدأ في تعزيز صورته ونفوذه لدى الرئيس الجديد، عبر سلسلة من اللقاءات مع قادة عسكريين أمريكيين، إلى جانب لقائه مع وليد فارس، مستشار ترامب لشئون الشرق الأوسط خلال فترة الانتخابات، في أبو ظبي في ديسمبر/كانون الأول 2016. ناهيك عن تلقي ترامب عرضًا من شركة "داماك" الإماراتية بقيمة ملياري دولار، والتي أوضحت علاقته الوطيدة برجل الأعمال الإماراتي حسين سجواني، حيث تربطهما علاقة صداقة ومشاريع اقتصادية عملاقة.

 

وسرعان ما تبدّلت وعود ترامب الانتخابية، وبدت أكثر توافقاً مع الرغبات الإماراتية، مع توجيه ضربات عسكرية للنظام السوري في إبريل/ نيسان 2017 بعد قصف الأسد للمدنيين بالأسلحة الكيمياوية، ومن وقتها، بدا ترامب عازمًا على تعظيم نفوذه في سوريا، وتحجيم كل من النفوذ الروسي والإيراني هناك.

ثم جاءت الصفقة الكبرى. ففي ظل أزمة اقتصاد السعودية، عقدت الأخيرة صفقة تسليح ضخمة مع ترامب بقيمة 110 مليار دولار، وذلك خلال زيارته للرياض في إطار حضور القمة الأمريكية-الإسلامية، التي عُقدت في مايو/أيار 2017.

وهنا بدا واضحًا أن تحالفًا جديدًا وقويًا قد تشكّل، بين ترامب ومحمد بن زايد ومحمد بن سلمان، يعتزم تغيير خريطة المنطقة سياسيًا.

تحجيم قطر.. المهمة الأولى للثالوث

بدت اللحظة التالية للقمة الأمريكية الإسلامية في الرياض هي أوج صعود التحالف الجديد، وفي الوقت نفسه عُدت اللحظة المناسبة لتنفيذ هذا التحالف لمهمته الأولى، وهي تصفية نفوذ قطر الإقليمي، الذي بات يُمثل خطرًا مُحدقًا على النفوذ والمصالح الإماراتية السعودية، سواء من خلال دعم جماعة الإخوان المسلمين، أو لعب دور مركزي في القضية الفلسطينية عبر دعم حماس، وكذلك التدخل في الأزمة الليبية، وتوسيع نفوذها في شرق وغرب أفريقيا، إضافة إلى بداية توثّق علاقتها بإيران.

فقرر محمد بن زايد تصفية النفوذ القطري، بعد الحصول على موافقة ترامب، غير المعني – في الواقع – بتضخم نفوذ قطر .

لذا، فإنه بعيداً عن صحة التصريحات التي نُسبت لأمير قطر، وكذلك الاتهامات المنسوبة إليه من دعم للحوثيين في اليمن والتحالف مع إيران ودعم الحركات الإرهابية، فإن الخطوات التصعيدية التي تم اتخاذها ضد قطر، بدا وكأنها مُعدة مُسبقاً بدقة وعناية.

وكذلك فإن انضمام دول متواضعة التأثير في السياسة الخارجية -كجمهورية المالديف ومورشيوس وجزر القمر وجيبوتي – إلى المقاطعة الخليجية لقطر، يشير إلى أن الإمارات والسعودية بذلا جهودًا دبلوماسية ضخمة من أجل إقناع عدد كبير من الدول للانضمام إلى هذه التحركات السياسية، ولكن لم يلبِ النداء سوى هذا العدد.

يشير كل ما سبق إلى أن محمد بن زايد يمتلك برنامجًا إقليميًا متعدد المهام، يسعى إلى تنفيذه عبر تحالفه الجديد، وتنفيذ هذا البرنامج من شأنه تغيير خريطة المنطقة سياسيًا، فبعد تصفية النفوذ القطري، سيأتي الدور على ما تبقى من تنظيمات الإسلام السياسي في المنطقة ثم إيران وتركيا، وذلك عبر تصفية أدوارهم في سوريا واليمن وليبيا، وقد تكون السعودية نفسها أحد أهداف ابن زايد المستقبلية إذا خرج ابن سلمان عن حدود هذا التحالف.

ولكن، ومن المُرجَح أن يُركز التحالف الجديد جهوده خلال الفترة الحالية على مواجهة قطر فقط، ومحاولة إخضاعها، دون تصعيد جديد مع إيران أو تركيا، خشية أن يتشكل تحالف جديد بين هذه الدول، يفك الحصار عن قطر، ويهدد المصالح الإماراتية السعودية في المنطقة.