من فيلم هيبتا- المحاضرة الأخيرة

أدب التنمية البشرية: "هيبتا" على خطى باولو كويللو

منشور الخميس 8 مارس 2018

 

من باب جانبي في القاعة يحتشد فيها المستمعون، يُدخل المحاضر ويتخذ موضعه وراء مكتب الصغير، مواجهًا جمهور أغلبه من الفتيات والسيدات. وبعد فترة ارتباك قصيرة يخيِّر المحاضر جمهوره بين خيارين؛ إما اتباع الأساليب العلمية في إلقاء محاضرته، أو اللجوء لدردشة مُبسَّطة حول موضوع المحاضرة، وهو العلاقات بين الجنسين، وكيفية إيجاد الحب. 

بهذا المشهد تفتتح رواية هيبتا للكاتب محمد صادق، التي صدرت طبعتها الأولى في يناير 2014، لتحتل فور نشرها صدارة مبيعات معرض الكتاب ذاك العام، ويستمر نجاحها حتى أنه جرت إعادة إصدارها في عشرات الطبعات، وتحولت إلى فيلم سينمائي ناجح يحمل الاسم نفسه. وبمجرد صدورها ومع نجاحها الكبير انقسمت الأراء حولها، فبينما احتفى بها جمهورها، وجدها نقاد كثيرون رواية ضعيفة أو متوسطة المستوى على أفضل تقدير. لكن كحال الروايات الأفضل مبيعًا عمومًا وفي مصر بشكل خاص، آراء النقاد لا تعني شيئًا للقراء أصحاب القوة الشرائية، ولا للمشاهدين الذين جعلوا الفيلم المأخوذ عن الرواية يتصدر إيرادات موسم العرض.

يبرر محبو الرواية نجاحها بإغراقها في الرومانسية واستخدام عناصر تشويق ذات طبيعة سينمائية في سرد أحداث فصولها السبعة. ولكن في رأيي، فإن نجاح الرواية مؤسس على قدرة مؤلفها على صياغتها وتقديمها بشكل يستثمر تراثًا طويلاً - وإن كان حديث العهد زمنيًا- من ظهور محاضرات وكتب "التنمية البشرية"، وقيمها الخاصة بوجود مدرب حياة life coach، يساعد الناس على اكتشاف الإيجابيات و"إيجاد قوتهم الداخلية" واستثمارها لإنجاح علاقاتهم الشخصية، باستخدام تقنيات تحمل عناوين مثل "البرمجة اللغوية العصبية" و"تطوير القدرات الذاتية" و"الفكير الايجابي" وغيرها.

ما قبل هيبتا

بدأ ظهور "التنمية البشرية" في العالم العربي في الثلث الأخير من القرن الماضي، أي في نفس الفترة التي بدأت فيها كتب التنمية الذاتية تتصدر المبيعات في العالم. انتقل "التريند" للعالم العربي عبر  ترجمة بعض الكتب الأمريكية الناجحة، وعلى رأسها الكتاب المؤسس لديل كارنيجي How to stop worrying and start living، الذي انتقل للعربية بعنوان "دع القلق وابدأ الحياة". 

ترافق هذا مع ظهور ونجاح أحد أعمدة هذا المجال في العالم العربي، وهو إبراهيم الفقي. وبحسب الفيلم الذي صدر عن حياته وعمله في هذا المجال بموافقة أسرته، فإن إبراهيم الفقي قد يكون هو من أدخل هذا المفهوم إلى العالم العربي، بعد نجاح كتابه الأول الصادر عام 1986. 

 

نجاح إبراهيم الفقي أدى لظهور كثيرين احترفوا هذا المجال. ووجد الدعاة الجدد الذين علا نجمهم في نهاية التسعينات في أساليب التنمية البشرية منجمًا ينهلون منه في طريقهم الجديد، الذين كانوا يخاطبون فيه نفس جمهور إبراهيم الفقي: شباب الطبقة الوسطى الباحث عن تغيير وخلاص فردي، قد يكون طريقه إليه التنمية البشرية، أو الدين، أو خليط يجمع بين الاثنين. 

أسلمة التنمية البشرية

 مع نهايات التسعينيات وبدايات الألفية الجديدة، بدأت ظاهرة "الدعاة الجدد" في الظهور والنجاح. مثّل هؤلاء الدعاة -وعلى رأسهم وقتها عمرو خالد- مزيجًا جديدًا من الدعوة الإسلامية والتنمية البشرية، مقدمين منظورًا للإسلام يشجع فكرة التركيز على النفس وتنميتها عبر تبنِّي "الأخلاق الإسلامية" مستلهمين نموذج الخلاص الفردي وتغيير الشخص من نفسه، طارحين الإسلام طريقًا للنجاح والحصول على الثروة، دون التعرض للسياسة أو الثورة أو طرح أفكار تستهدف تغيير المجتمع ككل، وهو ما لاقى هوى في نفوس الطبقة المستهدفة من خطاب مدربي التنمية البشرية، وزملائهم من الدعاة الجدد. 

محاضرة للداعية عمرو خالد

ومع تراجع دور الدعاة الجدد مع ثورة 25 يناير، وظهور حركة مجتمعية مناقضة لفكرة الخلاص الفردي، وما صاحبها من تغيرات كبيرة في السياسة والفكر؛ خبا نجم الدعاة الجدد لبعض الوقت، لكنه عاد للتألق مع تراجع السياسة في ظل النظام الحالي مع بعض التغيير، فتبنى عمرو خالد التنمية البشرية بشكل كامل، وابتعد عن الموضوعات الدينية التي قد تزعج النظام أو الفئات الاجتماعية المؤيدة له، فلم يعد الداعية الذي تسبب في حجاب العديد من فنانات ومذيعات مصر يذكر الحجاب في حديثه، وأصبح تركيزه على القصص الإيجابية التي تحفز من يسمعها للإحساس بالتفاؤل والتمسك بالأخلاق. وهي الفكرة التي تتبناها الدولة كما يظهر في كلمات رئيس الجمهورية التي يحرص على أن يذكر فيها أهمية الاخلاق واحترام الكبار. 

كما يمثل عمرو خالد نموذجًا لنشر الافكار الإيجابية والإعلام الإيجابي الذي ينشر روح التفاؤل وتنادي به الدولة على لسان كبار مسؤوليها. ويتبعه في نفس الطريقة مصطفى حسني.

التنمية البشرية في الأدب

يتذكر عديدون بحنين وإيمان أو بسخرية لاذعة، تلك العبارة الشهيرة التي خطها الروائي بهاء طاهر في ترجمته للخيميائي "الكنز في الرحلة". 

لم تكن رواية هيبتا التي بدأنا بها حديثنا هي العمل الأدبي الوحيد، ولا حتى الأول الذي يتبنى قيم وأساليب التنمية البشرية ويستثمرها في الكتابة. فمع النجاح الكبير لكتب ومحاضرات التنمية الذاتية في الغرب، ظهرت رواية "الخيميائي" لباولو كويللو. 

يتذكر عديدون بحنين وإيمان أو بسخرية لاذعة تلك العبارة الشهيرة التي خطها الروائي بهاء طاهر في ترجمته للرواية "الكنز في الرحلة". 

حققت الرواية نجاحًا كبيرًا. وتحولت معها هذه العبارة إلى واحدة من أشهر العبارات الملهمة التي يستدعيها المؤمنون بالتنمية البشرية، ويتم استخدامها والإشارة إليها كثيرا في محاضرات ممارسيها.  ومعها بالطبع عبارات أخرى من الرواية ذاتها مثل "ليس هنالك إلّا شيء واحد يجعل الحلم مستحيلًا : إنه الخوف من الفشل" و"أشد ساعات اليوم ظلمةً هي تلك التي تسبق طلوع الشمس"، و"عندما تريد شيئًا ما، فإن الكون بأسره يتضافر/ يتآمر  ليوفر لك تحقيق رغبتك".

تعتمد روايات كويللو علي خليط من الإيمان ذي الصبغة الدينية غير الصريحة، والمشاعر، وحديث متكرر عن الإرادة والرحلة والبحث الذي يصل بالفرد لما يريد. تبتعد رواياته عن الاشتباك مع السياسة والواقع بشكل مباشر، فهو -كمحاضرات التنمية البشرية- مَعْنِي بالفرد، وتحفيزه على التغيير من نفسه.

أما ارتباط هيبتا بالتنمية البشرية فهو أكثر وضوحًا. تبدأ الرواية وتسير فصولها كمحاضرة لأخصائي علاقات زوجية، يتنقل بحكاياته بين مشاهد وشخصيات عديدة، يعلق عليها ويرفِقها بتعقيباته التي يقطعها تعليقات من الحضور. ويبدأ كل فصل بعبارة تشبه عبارات التنمية البشرية التي تبدو عميقة وجذرية، ولكن عند تأملها قد تبدو علي شيء من السطحية والتعميم مثل "قيل في ما مضي أن بمجرد نظرة العين يحدث العشق.. كانوا كاذبون" (الخطأ اللغوي وارد في النص ذاته). العبارة تبدو عميقة، ولكنها لا تعني شيئا على الإطلاق، وتبدو كأنها تفرض قواعد مطلقة لا تحيد عنها الحياة.

تسير الحكايات الأربعة في الرواية على المنهاج نفسه، لا تتعرض شخوصها لأية ظروف قاهرة قد تظهر فيها رائحة ظلم سياسي أو اجتماعي أو ديني. أبطال الحكايات يظهرون كشخصيات منفردة، يتخلص المؤلف من وجود الأهل عن طريق التخلص منهم في حوادث، أو ابتعادهم اجتماعيًا عن شخوص حكاياته. هذا نفسه هو أسلوب بناء الحكايات الملهمة التي يستخدمها مدربو ومحاضرو التنمية البشرية، حيث تنعزل الشخصية عن تأثيرات المجتمع، وتتخلص منها لتجد الحل داخل نفسها، ويكون سبيله "القوة الذاتية التي هي في الداخل". فلا سبيل في التنمية البشرية للاشتباك مع المجتمع ومشكلاته.

بعد أن تتخلص الرواية من المجتمع، تلجأ للتركيز علي العاطفة واعتبارها الدافع المحرك للأشخاص. وهو ما يتماس مع عواطف القاريء -وبخاصة القارئات- وأصحاب المراحل العمرية المبكرة، وهم جمهور الرواية الأساسي. يشبه هذا أدوات التحفيز العاطفي في محاضرات التنمية البشرية، المعتمدة علي الشحن العاطفي.

تمتليء الرواية بالمصادفات العديدة، التي تبدو محركة للأحداث في تطبيق لحكمة كويللو "وعندما تريد شيئًا ما، فإن الكون بأسره يتضافر ليوفر لك تحقيق رغبتك". وبينما توصف المصادفات بأنها الحل الضعيف دراميًا، تعتبرها الرواية يد القدر المُحقِّقَة لأحلام البشر.

كذلك تمتليء الرواية بأحداث جِسام؛ موت مفاجيء وطلاق وانتحار ووفاة طفل وعمليات جراحية خطيرة وعواطف مفاجئة، لضمان جذب القاريء طوال الوقت. وهي نفس بنية محاضرات التنمية البشرية في الحفاظ على اهتمام الجمهور طوال الوقت حتى لا يفلت خيط انتباههم من يد المُحاضِر. كذلك هناك تنميط وتقسيم للشخصيات بين الشخصيات ذات الرؤية المتأملة والباحثة عن المشاعر والاختلاف وصاحبة الحس الفني، وعلي الجانب الآخر تأتي الشخصيات التقليدية كشخصيات مملة جافة، لا مشاعر لديها.

يتحول الشخص إذن إلى نموذج، هو فريد ومتميز وصاحب رؤية واختلاف وعمق، فهو بطل الحكاية التي يحكيها محاضر التنمية الذاتية، وهو الصورة التي يطمح المستمع إلى أن يكون عليها ومثلها: متميزًا عميقًا مختلفًا لا يشبه أحد ولا يشبهه أحد. أما من يبتعد عن الاندماج في التنمية البشرية ولا يبحث عن الخلاص داخل نفسه، فهو الشخص الروتيني المكرر الذي لن تجد جديدًا في حياته.

ويأتي ختام الرواية ليكشف عن مفاجأة لإدهاش القارئ، ثم يليها كشف يغير النهاية لتصبح أكثر إسعادا له. وهي حيلة درامية قديمة، لكنها تتطابق كذلك مع بنية محاضرات التنمية البشرية التي تلعب بالأساس على عواطف المتابعين. وهو ما يبين عملية الانتقاء التي يقوم بها مدربو التنمية البشرية لقصص معينة ذات نهايات بعينها، يتم استخدامها  للعب علي العواطف ويكون انفعال المستقبلين لها كبيرًا، باعتبارها قصصًا واقعية من الحياة.

"هيبتا" الصادرة في 2014 هي تعبير عن شرائح من المجتمع باحثة عن العاطفة والنجاح، راغبة في الابتعاد عن ظروف مجتمعها المعقدة، تأمل في حل فردي يعتمد على إيمان الفرد بقيم معينة، وكلمات سحرية تجلب النجاح والارتياح. وهي نفس الشرائح الباحثة عن نفس الأهداف في كتب وفيديوهات ومحاضرات التنمية البشرية، هاربةً من مواجهة تحديات سياسية ومجتمعية واقتصادية لا تبدو قابلة للحل.