صفحة خالد النبوي
خالد النبوي أثناء التحضير لمسلسل "رسائل الإمام"

رسائل الجمهورية الجديدة في عباءة الإمام

منشور الثلاثاء 11 أبريل 2023

ربما تحفل السيرة الذاتية للإمام الشافعي، تمامًا كسماته الشخصية، بأحداث تصلح لنسج عمل درامي شيق، لكن أي منها لم يظهر في المسلسل الذي يرصد رحلته إلى مصر، ويعرض خلال الموسم الرمضاني الحالي، تحت عنوان "رسالة الإمام".

العمل الذي جاء واضحًا من عنوانه "الرسائل"، يستهدف توجيه قيمة، أو مجموعة من القيم محددة الأهداف، اجتهد صناعه لتوليفها جميعًا في صالح تعزيز ما يسمونه القومية المصرية، التي ربما لم يكن مفهومها في ذلك العصر وما تلاه بقرون لاحقة، قد تبلور بوضوح.

اللجوء الفني إلى التاريخ غالبًا ما يصاحبه سؤال عن مدى دقة ما يتضمنه العمل المقتبس من معلومات وأحداث. لكن ذلك ليس سؤالًا فنيًا أو علميًا على السواء. فالفن يتحدد بمدى إجادته أدواته وما خلقه من دراما وشخصيات قد تكون متخيلة وإن تلبست رداءً واقعيًا أو تاريخيًا، ويكون في الأخيرة بحسب المؤرخ ووزير الثقافة الأسبق دكتور عماد أبو غازي هو "التاريخ بحسب الخيال السينمائي".

أما العمل المأخوذ عن حدث تاريخي فيعد في حد ذاته وثيقة تاريخية ليست عن العصر المستقى منه وإنما العصر الذي أنتجه، حيث يرى أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة، محمد عفيفي، أن المؤرخ عمومًا يستعيد الحدث التاريخي بوعي العصر الذي يعيشه لا بوعي الحقبة التاريخية التي أنتجته.

وفي حلقة نقاشية عقدت قبل سنوات، تحت عنوان "السينما: تاريخ القرن العشرين"، ضرب مثالًا بفيلم "الناصر صلاح الدين"، الذي أخرجه يوسف شاهين العام 1963، وكتب قصته يوسف السباعي ونجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي، بأنه لا يصلح كوثيقة تاريخية تدلل على ما جرى في عصر السلطان الأيوبي، وذلك لاحتوائه على كثير من الأحداث والشخصيات والمفاهيم التاريخية المختلقة، لكنه يمثل وثيقة تاريخية على الحقبة الناصرية، والصورة التي أراد بها النظام آنذاك توجيه أنظار الجماهير إلى قيم جديدة مثل القومية العربية، وما يمثله "ناصر" من قيمة معنوية أرادوا ترسيخها.

ويأتي مسلسل "رسائل الإمام" الذي أخرجه الليث حجو، من بطولة خالد النبوي، وسيناريو محمد هشام عبيه، وإنتاج الشركة المتحدة، ليرصد رحلة الإمام محمد بن إدريس الشافعي إلى مصر، وعلاقاته الاجتماعية والفكرية التي نسجها خلال الأحداث السياسية المتوترة في الفسطاط آنذاك، في عصر لم تعد فيه الدولة تمتلك خطابًا عروبيًا، وإن لم تعدم في الوقت نفسه الحاجة إلى تعزيز الخطاب الذي ينهض بالقومية المصرية، التي ما يفتأ الرئيس عبد الفتاح السيسي يذكر في كل مناسبة بأنها غائبة عن ذوات المصريين.


ولكن كيف صاغ صناع منتجو العمل رسائلهم؟

وقع الاختيار على شخصية مختلفة تمامًا، تتناسب مع طبيعة ما يتم تقديمه هنا؛ فالشافعي ليس شخصية سياسية مختلفًا عليها، بل مفكرًا اجتماعيًا ارتبط الناس بفقهه وجرت على ألسنتهم ما تمليه عليه نصوص مذهبه، وهو الفقيه الوحيد بين الأئمة الأربعة الذي عاش ومات في مصر وارتبط بها دون غيرها.

كذلك يمثل مذهب الشافعية في بعض الأدبيات التاريخية أداة مقاومة للقديم، سواء في مقاومة الحركة السلجوقية في العراق، أو في اعتماد صلاح الدين عليه لتأسيس مدرسة فقهية لمقاومة الإسماعيلية الشيعية التي كان يدين بها المصريون خلال العصر الفاطمي، ثم أعيد استخدامه في الأزهر ذاته عندما أعاد افتتاحه الظاهر بيبرس البندقداري مرة أخرى بعد إغلاقه، ثم في العصر العثماني كمعبر عن الطبيعة الاجتماعية المصرية أكثر من المذهب الرسمي للدولة العثمانية؛ المذهب الحنفي.

أما من الناحية الشعبية، فللشافعي حضور قوي وسط جموع المصريين، فقبّته القائمة في قرافة الإمامين شاهد على ذلك، ورسائل المصريين المستمرة إليه أيضًا دليلٌ على علاقتهم القوية به، وارتباطهم باسمه وحياته.

فضلًا عن ميزتيه الأهم، فهو غير المصري الذي يعترف بقيمتها الثقافية ويرى فيها البيئة المناسبة لاحتضان خطابه الفكري المستنير مقارنة ببني عصره، وكذلك لأنه قادم من التاريخ الغابر، أو بقول فالتر بنيامين "إن الذكاء الذي جاء من بعيد، سواء من بلاد أجنبية بعيدة في المكان أو من تراث بعيد في الزمان، امتلك سلطة أعطته مصداقية، حتى لو لم يخضع للاختبار".

لذلك كله كان الشافعي هو النموذج الأصلح لتمرير ما يريده صناع العمل من رسائل، بمعناها الحرفي وليس المجازي، التي يصدرها عبر ما يصرح به من حوار، تضمن كل ما يترجم الغرض من المسلسل. مثلًا؛ مصطلح المصريون القدماء الذي ولد ومات الشافعي وطبقات فقهاء مذهبه قبل أن يُعرف في كتب التاريخ، استعمله في أكثر من مرة عبر حلقات المسلسل، كما لم يترك فرصة أو مناسبة إلا وأبدى إعجابه الشديد بالمصريين وشخصيتهم، فضلًا عن دأبه الأساسي في البحث عن شخصية المصري المدفونة ممثلًا في الليث بن سعد الذي ضاع تراثه.

هل نحن أمام ناصر جديد؟

لا يهدف المسلسل إلى تأريخ سيرة الإمام الشافعي؛ بل تبدأ قصته منذ وطأ أرض الكنانة، دون إشارة إلى تاريخه السابق حيث عاش سواء مكة أو في بغداد أو حتى المدينة، الذي لا يجد له نفعًا ضمن خطاب القومية المصرية، ويحقق في الوقت ذاته معنى آخر، أن الرسالة التي جاء بها الإمام بدأت واكتملت في مصر حيث يجب أن يؤدي مهمته وينشأ مذهبه.

لكن السؤال الأهم هنا، هل سينجح رسالة الإمام فيما نجح فيه فيلم الناصر صلاح الدين، في خلق صورة متخيلة جديدة عن الدولة، أو بالأحرى هل سينجح في فرض نفسه كوثيقة تاريخية جديدة مقابل تاريخ الشافعي الآخر، أم ستذهب دون تأثير حقيقي؟

لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال الآن، فتأثير العمل مرهون بتلقيه من مجتمع شاب يملك فضاءً واسعًا لاستقاء الأفكار والمعلومات، أكثر من ذلك الذي كان متاحًا في ستينيات فيلم الناصر، وآخر شيخ يعرف الإمام وضريحه وبركته، ولا يعرفون من رسائله غير تلك التي تأتي ردًا على ما يبتهلون إليه به من حوائج وأمنيات.