برخصة المشاع الإبداعي- ويكيبيديا
لوحة تعود للقرن الثالث الميلادي تصور النبي صموئيل يمسح داود ملكًا على إسرائيل

إسرائيل ولعنة العقد الثامن

أزمة قانون "المعقولية".. انفجار الخلاف بين اليهودية الأرثوذكسية والقومية

منشور الاثنين 7 أغسطس 2023

"طوال التاريخ اليهودي، لم يحكم اليهود لأكثر من ثمانين عامًا، إلا في مملكتيّ داوود والأسرة الحشمونية، وفي كلتا الفترتين، بدأ تفككهم في العقد الثامن".

من مقال لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود باراك. 

أشار باراك في مقاله إلى ما يعرف بعقدة السنة الثمانين، وهي العقدة التي شكلها التاريخ اليهودي المكتوب. وفقًا لهذا الاعتقاد فإن الدولة اليهودية الأولى (مملكة النبي داوود 1047-930 ق. م) والدولة اليهودية الثانية (أو ما يعرف بالأسرة الحشمونية 140-37 ق. م) قد سقطوا، أو بدأوا في الانهيار، بداية من السنة الثمانين للتأسيس. ويُنظر لإسرائيل الحالية على أنها الدولة اليهودية الثالثة، لذا فإن لعنة العقد الثامن احتلت الخيال العام في الوعي السياسي الإسرائيلي، وكذا الوعي السياسي لخصومها.

بدأ تصاعد الحديث عن أسطورة العقد الثامن (السنة الثمانين على قيام الدولة) بعد تزايد الخلاف على تعديل قانون المحكمة العليا، أو ما يعرف بقانون "المعقولية". ذلك الخلاف الذي قسَّم المجتمع الإسرائيلي إلى معسكرين متواجهين بشكل غير مسبوق في تاريخ الدولة العبرية، التي ستدخل عامها الثمانين في 14 مايو/أيار 2028.

المعقولية

قانون "المعقولية" هو تشريع أقره الكنيست الإسرائيلي في 24 يوليو/تموز، وسط موجة انقسامات لا تزال قائمة إلى اليوم. يلغي القانون الجديد سلطة المحكمة العليا في مراجعة وإلغاء قرارات الحكومة الإسرائيلية إذا حُكم عليها بعدم المعقولية.

يجادل المؤيدون أن القانون يمنح صلاحيات أكبر للسلطة المنتخبة (البرلمان والحكومة المنبثقة منه) في إقرار القوانين، دون تدخل من سلطة غير منتخبة (المحكمة العليا) التي تستند إلى معيار غير محدد وغامض وهو مدى معقولية القرارات والقوانين.

يرى المعارضون للقانون أن إسرائيل لا تمتلك دستورًا مكتوبًا يمكِّن المحكمة من مراجعة دستورية القرارات، ولا يُبقى لها إلا معيار المعقولية القانونية. كما أن القانون يمنح الحكومة القدرة على اتخاذ قرارات دون رقابة قضائية كافية، مما يفقد الدولة الإسرائيلية آلية مهمة من آليات الديمقراطية، وهي المراقبة المتبادلة والتوازن بين السلطات، ويركز سلطة بلا مراجعة للحكومات. ويخشى المعارضون للقانون أن يكون ذلك بداية إجراءات أكبر تقضي على الديمقراطية الإسرائيلية تمامًا، أو ربما تقضي على إسرائيل ذاتها، في تكرار للعنة العقد الثامن.

انفجار التناقضات الحاكمة

تعاني إسرائيل من تناقضات حاكمة منذ بدايتها، أولها أنها دولة مؤسسة على أساطير دينية توراتية يمتزج فيها التاريخي مع القومي والأسطوري والمقدس، لكنها في الوقت نفسه تحاول الحفاظ على قيم سياسية حديثة؛ مثل الديمقراطية وتداول السلطة، وقدر من العلمانية تنفصل فيه المؤسسة الدينية عن المؤسسات السياسية والتشريعية.

نتج عن التناقض الأول، تناقض آخر يتمثل في الانقسامات العرقية التي أسست لعقد اجتماعي هش. تأسست إسرائيل على منظور اجتماعي مستمد من نظريات التحديث في الخمسينيات وأوائل الستينيات، والتي اعتبرت اليهود الشرقيين، وهم أكثرية المجتمع الإسرائيلي عدديًا، ممثلين للثقافات التقليدية التي يعلو فيها الانتماء الديني على الوطني، وتختلط فيها السياسة مع الشريعة.

وفقًا لهذا التصور، فالمتوقع من اليهود الشرقيين الامتثال لمشاريع الدولة الحديثة والتحديث السياسي الذي يتعارض مع العناصر الثقافية التقليدية، التي جلبوها معهم من بلدان المنشأ. هذا المدخل أعطى ميزة نسبية لليهود الأوروبيين، الذين مثلوا الحداثة والقيم العلمانية والديمقراطية، وفقًا لهذا المنظور.

رغم التحذيرات بالحرب الأهلية، يبقى احتمال زوال الوجود المادي لإسرائيل مستبعدًا إلى الآن

تداعى هذا المنظور تدريجيًا تحت تأثير الجدل حول يهودية الدولة ومعناها، فرغم اتفاق الطرفين على مبدأ "يهودية" الدولة، إلا أنه مفهومه اختلف بينهم حول من له الأولوية وقت التعارض، اليهودية أم الديمقراطية. وأيضًا في تعريف "اليهودية"، فبينما مال العلمانيون لرؤيتها كهوية ثقافية وتاريخية وقومية، ذهب اليهود الأرثوذكس إلى أنها أيضًا شريعة دينية تحكم القوانين والحياة الشخصية.

شكلت هذه التناقضات مسارات نمو العملية السياسية والأمنية في تاريخ إسرائيل القصير، عبر حل تلفيقي لكنه مؤثر، وهو توظيف الأساطير الدينية والتاريخية المؤسسة للدولة لشحن الخيال القومي والروح العدائية اللازمة لبقاء الدولة في محيط ثقافي وجغرافي معادي لوجودها. أما على مستوى التطبيق العملي، فتم الاحتفاظ بدرجة كبيرة من روح العلمانية والديمقراطية الداخلية، وتداول السلطة والمحاسبية والمراقبة المتبادلة بين السلطات، وفصل الديني عن الدنيوي، إلى أن انهار هذا الاتفاق بداية من تسعينيات القرن العشرين تحت زحف ثقافة المستوطنات.

قنابل حان موعد انفجارها

كان بناء المستوطنات المستمر، خاصة في الضفة الغربية وغلاف غزة، بعيدًا عن التجمعات يهودية الطابع وفي قلب وجود فلسطيني كثيف، بمثابة نقطة تحول أضعفت به إسرائيل عقدها الاجتماعي الهش. كان غالبية المستوطنين من اليهود الأرثوذكس المتطرفين، وكان وضعهم في نقاط التماس مع الفلسطينيين بمثابة إيقاظ للعدوانية الكامنة في أفكار اليمين القومي والديني. 

زحفت ثقافة المستوطنات تدريجيًا إلى قلب وعقل الدولة الإسرائيلية في تل أبيب، وانفجرت لا في وجه الفلسطينيين فقط، لكن أيضًا في وجه النخب القديمة التي حكمت إسرائيل منذ التأسيس، إلى أن وصل حلف "المستوطنات" إلى مقاعد الحكم بالتحالف مع نتنياهو ليشكل الحكومة الأكثر دينية ويمينية وعنصرية في تاريخ إسرائيل. ظهر المستوطنون كقنابل بشرية حاولت بها إسرائيل تفخيخ الوجود الفلسطيني في الضفة، فإذا بها تفخخ نفسها أيضًا.

هل إسرائيل في طريقها حقًا إلى زوال؟

من المقرر أن تنظر المحكمة العليا في "معقولية" قانون المعقولية، مما يضع شرعية النظام السياسي الإسرائيلي كله على المحك. ففي حال إبطالها للقانون، تصبح الشرعية القانونية للدولة منقسمة، ويصبح السؤال مَن يملك الشرعية في هذه الحالة، المحكمة التي رفضت القانون، أم القانون الذي ألغى سلطة المحكمة؟

رغم التحذيرات بالحرب الأهلية، يبقى احتمال زوال الوجود المادي لإسرائيل مستبعدًا إلى الآن. غير أن نبوءة العقد الثامن لا تزال قابلة للتحقق لكن بطريقة مختلفة. فأزمة "المعقولية"، التي فجرت الخلاف الصامت بين اليهودية الدينية واليهودية العلمانية، تؤشر أن إسرائيل التي تشكلت تاريخيًا عبر قيم حداثية منحتها القدرة على تجديد قوتها وإدارة تنوعاتها، ربما تختفي تدريجيًا لتحل محلها إسرائيل أخرى أقل قدرة على استيعاب تنوعاتها.

ستحل بشكل تدريجي قيم اليهودية الدينية في الحكم محل القيم البراجماتية والعلمانية التي منحت إسرائيل قوتها وحيويتها السابقة. باختصار، نحن أمام تغيرات ستحول إسرائيل تدريجيًا لدولة أكثر ضعفًا وأكثر اتساقًا مع محيطها الاستبدادي والقيم السياسية الحاكمة للمنطقة التي تتواجد فيها جغرافيًا. والأخطر أن التغييرات ربما تحول الدولة اليهودية إلى كيان أكثر عدوانية مما هي عليه بالفعل.