صورة مصممة اصطناعيًا بواسطة بينج
تُسبب الحالة للمريض وأحبائه ألمًا شعوريّا كبيرًا، وقد تعرضه للمسائلة القانونية

سرقت فردة حذاء.. فهددني والدي بالقتل

منشور الاثنين 30 أكتوبر 2023 - آخر تحديث الاثنين 30 أكتوبر 2023

في سن التاسعة، بدأت مي عادل(*) تمد يدها في حقائب زميلاتها بالمدرسة. كانت تلتقط ما تطوله أصابعها أيا كان، ظافرة، تشعر بمتعة شديدة. صحيح كانت تعرف أن ما قامت به لتوها ليس غير سرقة، لكنها لم تستطع كطفلة أن تقاوم رغبتها الدائمة في الاستيلاء على ما لا يخصها.

ورغم ذلك لم تسر أمور مي، التي قضت طفولتها في إحدى قرى محافظة كفر الشيخ، على ما يرام دائمًا، حيث كانت سريعًا ما تنكشف فعلتها، وهو ما جعلها عرضة للتعنيف بشكل دائم "أمي كانت بتضربني بخرطوم البيت لما تلاقي في الشنطة أقلام أو حاجات مش بتاعتي، فيه مرة فكراها؛ لقت معايا فردة جزمة ربطت دراعي ورجلي بالحبل ونزلت فيا ضرب".

ما عانت منه الطفلة هو مرض اسمه هوس السرقة Kleptomania، وهو اضطراب نفسي، يتمثل في العجز المتكرر لدى المصاب عن مقاومة الرغبة الملحة في سرقة أشياء لا يحتاج إليها عمومًا. وغالبًا ما تكون المسروقات ضئيلة القيمة، يسهل اقتناؤها.

ربما تكون الإصابة بذلك الاضطراب نادرة ولكنها قد تصبح خطيرة، إذ تُسبب للمريض وأحبائه ألمًا شعوريًّا كبيرًا، وقد تعرضه للمساءلة القانونية مع الوقت إن تُركت دون علاج.

الحال نفسه مع أحمد محمود(*)، الذي يبلغ اليوم ثلاثين سنة، مضت على أول سرقة له سنوات طويلة، غير أنه يتذكرها جيدًا، يقول لـ المنصة "سرقت قلمًا من زميلي، وبعدها بدأت أسرق فلوس بسيطة من أمي وأبويا بحيث ماحدش يحس"، تتضاعف متعته فيمد يده لـ"سرقة البيض من سطح الجيران". 

متعة السرقة

عندما يتعلق الأمر باضطراب سلوكي نفسي، فإن التهديد والتعنيف لا ينفعان المريض بشيء، فلم تتخلص مي رغم ضرب أمها المستمر من مشكلتها، أو تخفت متعتها في ممارستها " كان الموضوع ممتع بالنسبالي، مكنتش محتاجة الحاجات دي، وكنت ساعات برميها في ترعة البلد قبل ما أروح البيت عشان محدش يكشفني"، على العكس كان شغفها يزداد بينما تُراقب زملاءها وهم يبحثون عن متعلقاتهم دون فائدة، "أحيانًا كنت برجعهالهم تاني يوم"، تقول مي لـ المنصة

أما أحمد الذي تربى في محافظة البحيرة، مع ثلاثة أشقاء، خرج الأمر عن سيطرته، مع الوقت، في الجامعة أصبح يسرق من الجميع، تنتهي متعته بعد السرقة ويتخلص مما سرقه أو ربما يمنحه لأحد، يقول "وأنا كبير كده وعندي 25 سنة، كنت عند واحد صاحبي في بيته، وسرقت لعبة ابنه الصغير!". 

لا يوجد سبب واضح للإصابة بهوس السرقة

تقول نهال زين، أخصائية الطب النفسي وعلاج الإدمان، إن "هوس السرقة عندما يبدأ من الطفولة، ويستمر لما بعد ذلك، يظن الأهل وقتها أن الضرب قد يكون وسيلة لتعديل سلوك الطفل وإصلاحه، ولكنه للأسف يسبب نتائج عكسية تماماً، لأنه يجعل القلق يزداد لدى المريض مما يزيد من رغبته الملحة في السرقة، ويكون من الصعب مقاومتها".

مع استمرارها، لم تكن المتعة كفيلة بتبديد ما تشعر به من معاناة نفسية جراء ذلك السلوك، وبدأت مي تصدق ما تقوله أمها عن أن "شيطانًا يتلبسها ويسيطر على أفعالها؛ فترتكب بذلك تصرفات تغضب الله". ورغم مقاومتها كانت دائما تفقد السيطرة وترضخ لذلك الصوت الملح القادم من رأسها، الذي يطالبها بالسرقة.

مع مرور السنوات، ازدادت مشكلة مي، "فاكرة إني كنت في سن 14 و15 سنة وكنت وصلت للمرحلة الإعدادية، كنت لما بروح أي فرح مع أمي بسرق أي حاجة من بيت العروسة أو العريس. مناديل، صابون، معالق، مرة سرقت إيشارب من دولاب أم العروسة، ومرة تانية سرقت قلم روج وعلبة برفان من التسريحة، كنت بحط كله في شنطتي، وقبل ما أوصل البيت أطلعهم أرميهم في الشارع، وساعات كنت أرميهم في الزبالة".

وكرد فعل على الشعور المتكرر بالندم بعد السرقة، بدأت مي في متابعة فيديوهات دينية "عشان أبعد عن السرقة بس ما نجحش يوقفني، وبدأت أخاف كل ما أحس براحة لما أسرق".

الخوف من الفضيحة

أثناء مرحلتها الثانوية، حيث كانت مي تدرس في مدرسة فني صناعي، أدركت البعد القانوني لفعلتها، بعد أن عرف والدها لأول مرة عن مشكلتها عن طريق الصدفة، تقول مي "كان في صدمة كبيرة وضربني علقة موت. وهددني بالبوليس عشان أدخل السجن، وإنه هيقتلني ويخلص من الفضيحة".

عاشت مي أسابيع طويلة في رعب الوصول إلى السجن، بسبب رغبتها التي لا تستطيع السيطرة عليها. 

يُخفي المريض مرضه بسبب الشعور بالخزي فلا يلجأ للعلاج في الوقت المناسب

فكما يقول أحمد عزت، الطبيب النفسي، لـ المنصة إن "هوس السرقة قريب من اضطراب القلق أو الوسواس القهري، فلا يستطيع المريض أن يقاوم الإلحاح المستمر لارتكاب الفعل، ثم الشعور بالذنب وجلد الذات بسبب ما فعله، ثم يعود للقلق والإلحاح وهكذا يستمر الدوران في حلقة مفرغة دون توقف". 

لكن الفضيحة طالت علا سمير(*)، وابنتها نور، التي تبلغ من العمر 14 عامًا، تقول لـ المنصة "بنتي مش محرومة من حاجة، كل اللي بتطلبه بجيبه، ورغم كده بتمد إيدها وتسرق، والمصيبة واحدة زميلتها شافتها، والفضيحة قربت". 

يفرق عزت بين مريض هوس السرقة والسارق بمعناه المتعارف عليه "المريض عادة بيسرق أشياء لا يحتاجها وليس لها قيمة مادية كبيرة ولا يستخدمها، ممكن نراه يمنحها لأي شخص. هو يتمتع بفعل السرقة في حد ذاته. كما أنه لا يقصد الإيذاء، بل يحركه دافع ورغبة نفسية وليس حاجة أو انتقام".

تعرف علا أن ما تفعله ابنتها ليس سرقة بالمعنى الحقيقي، لكن الخوف من الفضيحة يجعلها غير قادرة على إتخاذ قرار الذهاب للطبيب، "لو حد عرف هتبقى فضيحة برضه"، تُعبر علا عن حيرتها.

لا يوجد سبب واضح للإصابة بالمرض، يقول عزت "قد يكون مصاحبًا لأمراض نفسية أخرى مثل الاكتئاب أو الوسواس القهري، أو حتى الإدمان، ولكن كل تلك احتمالات وليست أسباب مباشرة مثل أغلب الاضطرابات النفسية".

لم تدرك مي إصابتها بالمرض سوى في الثامنة عشر من عمرها، عندما نصحتها خالتها، التي تعيش في الخارج، بالذهاب للعلاج، بعد أن عرفت القصة كاملة، "حجزت فورًا عند دكتور نفسي، لكن والدي رفض إني أروحله، كان خايف من المشاكل والفضايح". 

الجهل الأسري

يرى أحمد عزت أن نقص المعرفة بالمرض يزيد من المشاكل المترتبة على الإصابة به، فضلًا عن أن المريض نفسه يحاول إخفاء الأمر بسبب شعوره بالخزي، "الجهل بيأثر على تعامل الأهل، لأنهم مش عارفين ومش فاهمين بيتهموا الطفل إنه بيعمل حاجة غلط وإنه قليل التربية". 

 عدم الاعتراف بالمشكلة، ومقاومة حلها، أثر على حياة مي، فبعد رفض والدها العلاج، سارع بتزويجها؛ "أبويا كان فاكر إن اللي بيروح عند الدكاترة النفسيين هما المجانين"، قالت مي التي فشلت كل مساعيها لطلب العلاج.

وهو ما تؤكده نهال زين بقولها "الجهل الأسري يتسبب في تأخير علاج المرض"، والذي يتطلب "علاجًا دوائيًا مصاحبًا لعلاج سلوكي، يساعد على ضبط الانفعال عند المريض"، حسب الدكتور أحمد عزت.

فما ظنه والد مي علاجًا لمشكلتها، كان مشكلة إضافية أُلقيت على كاهلها، حيث بدأت تعاني مرة أخرى من القلق والتوتر بسبب الحياة الجديدة في بيت الزوجية، لتنهار قدرتها على مقاومة رغبتها في السرقة "الجوازة ما كملتش خمس سنين، ماكنتش بقدر أسيطر على نفسي، لحد ما في مرة حماتي اكتشفت، وكانت فضيحة انتهت بالطلاق". 

بعد الطلاق بدأت مي تلقي العلاج، رغم اعتراض والدها المستمر على ذهابها للطبيب النفسي. 

استغرق العلاج 6 أشهر متواصلة من الجلسات الأسبوعية، توصل خلالها طبيبها إلى أن عقدة تتعلق بوالدها كانت هي السبب في إصابتها بالمرض، تقول مي "علاقتي ببابا اللي كان عايز ولد مش بنت هي السبب، طريقته السيئة في معاملتي خلتني أحس بالاضطهاد". وتكمل "يمكن عشان كده أول حاجة سرقتها كانت فلوس من محفظته". 

فيما ترجع علا سبب اضطراب ابنتها إلى الظروف الأسرية التي مرت بها، فقد لاحظت أن الأمر بدأ مع طلاقها من زوجها، وسفره إلى الخارج، فانعكس ذلك على ابنتها، ورغم معرفتها بذلك تشعر بالذنب، "بس أنا اللي عملت فيها كده، أنا اللي دلعتها".

في حين أن أحمد، الذي تزوج وأنجب أطفلًا ويعمل ويمتلك سيارة وشقة، يعرف أنه يعاني مرضًا يمكن علاجه، غير أنه لم يأخذ الخطوة بعد، يقول "عايز أتعالج، عشان خايف من ربنا". 

رحلة علاج مي لم تكن سهلة، خاصة في بلدة صغيرة، يُراقب الناس فيها بعضهم البعض، "قاومت رغبتي في السرقة، والتزمت بتناول الأدوية". تحسنت حالتها كثيرًا، لم تعد تراودها الرغبة في السرقة، ترى أن وجود ابنها بجانبها هو الدافع وراء مقاومتها ورغبتها في تحسين جودة حياتها. 


(*) اسم مستعار بناء على طلب المصدر