برخصة المشاع الإبداعي: Ahmed Badawy- unsplash.com
رجل يمشي على كورنيش الإسكندرية

تحول البحر إلى مجتمع طبقي معزول

منشور السبت 16 سبتمبر 2023

لم يكُن بحر الإسكندرية محصنًا ضد الخسارات التي حلت بالمدينة، والتحولات التي أفقدتها شخصيتها المعمارية والروحية معًا، بل الحلقة الأضعف لأن لا أحد يسكنه بالمعنى المادي، لا المجازي، فيقوم بالدفاع عنه كما يحدث في اليابسة، كما يصف جون آر. جيليس في كتابه* الساحل البشري " كان البحر محصنًا من الخسارات التي عانتها اليابسة باستمرار. لقد كان خالدًا".

ربما الخسارة الأكبر التي تعاني منها الإسكندرية هي اختفاء البحر وراء يافطات خشبية، أسوار، بوابات لفنادق، كافيتريات، نوادٍ بحرية، جراجات، شواطئ خاصة، ومرافئ يخوت، تمنع الناس من رؤيته، وتحجبه، كعنصر طبيعي من حياة المدينة اليومية، أو تقلل من تأثيره.

تضاءل حجم البحر المرئي، فلم يعد هناك شاطئ بالمعنى القديم الذي نشأنا عليه، يسير بجوارك ولا يتغير، ومن قوة وجوده ووضوحه، تشعر بأنه غير موجود. كان البحر مكشوفًا مثل السماء، لا تنظر إليه لأنك تعرف أنه هناك، كما أن السماء هناك.

أما الآن فقد تم تأميم البحر كما يحدث في المجتمعات الطبقية المعزولة بأسوار، تحول بين سكان المدينة وبينه. أسير على الشاطئ كأني داخل زقاق صغير له سقف وحوائط.

ثغور للبسطاء

لم يتبقَّ من "البحر المرئي" الذي نعرفه إلا حوالي 46% مما كان عليه قبل توسعة الكورنيش عام 2002 في عهد عبد السلام المحجوب. يرصد مركز "الإنسان والمدينة" هذه التعديات، بكل أنواعها وأشكالها، التي وصلت إلى 54% من طول الشاطئ، نشرها في صورة إنفوجراف على فيسبوك. 

المركز أحد منظمات المجتمع المدني التي تأسست عام 2020 وتعمل في مدينة الإسكندرية، وتقوم بأبحاث في مجالات الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحضرية والبيئية والعمرانية.

كان هناك مكان وزمن مفتوحان لتحقيق تلك الأمنية بأن تنظر وراءك في غضب

خطة بلا نهاية لتحويل كل شبر خال، حتى ولو كان في حيازة البحر، إلى مصدر لجني الأموال، مهما كانت حجم الخسائر، سواء في تأثيرها على الناس، أو جغرافية المدينة وروحها.

تم التعامل مع الكورنيش كمشروع استثماري موجه لطبقة محددة، وهي المستهدفة بالاستمتاع، تتوجه لها الدولة، دون سؤال عن الخسارة. تتبقى بعض ثغور للناس البسطاء الذين يريدون الاستمتاع ببحر الدرجة الثالثة المتبقي، ينحشرون داخله و"يتشعلقون" على أبوابه. لو نظرت من أعلى ستجد الفارق في درجتي البحر، يفصل بينهما سور.

دون أي مبالغات تتيتم المدينة عندما ينفصل البحر عن حياة الناس اليومية. إنه هناك ميت خلف الأسوار، وتلك الرسومات التي رُسم عليها البحر، وهو غائب وراءها، تحولت إلى صورة للفقيد التي نعلقها على الحوائط بعد غياب صاحبها.

كان البحر مفتوحًا للجميع

في السبعينيات، عندما اكتسبتُ حبَّ التمشية على البحر، لم يكن هناك عازل يفصله عن المدينة، باستثناء نقاط قليلة جدًا، كانت تسدُّ الطريق أمام البحر، مثل "نادي الشرطة" أمام شارع سوريا، ثم تلاه "نادي المهندسين" في سابا باشا أو بالتحديد عند شاطئ "الخربان"، الذي كان مقصدًا لهواة الصيد. بجانب تلك النقاط الممتدة لمجموعة من الكازينوهات في شواطئ المندرة وميامي وسيدي بشر، وصولًا لكازينو السرايا في ستانلي، الذي كان من قبل فندقًا صغيرًا اسمه كوت دازور، يليه كازينو رشدي، ثم لاكورتا في كليوباترا، وبانوراما في كامب شيزار، وأخيرًا كازينو الشاطبي.

عدا ذلك كان البحر مفتوحًا للجميع. كان لأصحاب الكبائن دور في تحويله إلى بحر ديمقراطي، فكانوا حلقة وصل بينه وناس المدينة، يدعون أقاربهم وأصحابهم وأصحاب أصحابهم لتقضية يوم في الكابينة المفتوحة على الدوام. كانت أيُّ كابينة ملكية مشاعًا، ميراثًا يتوالد ذاتيًا ويتوزع بالتساوي على محيط العائلة ودوائرها البعيدة.

في شاطئ جليم، استوقفني دومًا ذلك الشاليه المبني من الطوب الممتد لأمتار داخل البحر، الذي كان يستخدم خلوةً لأحد الأديرة، مثل خلوات الصحراء؛ تتعبد فيه الراهبات بملابسهن البيضاء، نشاهدهن كفراشات بعيدة، يعشن داخل أرض أخرى وتحت سماء أخرى. وهناك جسر للنجاة ممتد من الشاليه يصله بالشاطئ. في ذلك الوقت كان هناك مكان وزمن مفتوحان لتحقيق تلك الأمنية بأن تنظر وراءك في غضب، ونذهب لهذا الشاليه ثم نكسر الجسر الذي يربطنا بالشاطئ، حيث لا عودة.

كورنيش الإسكندرية

علاقتي الملتبسة بالبحر

رغم أني لم أكن، مثل أصدقائي، أجيد السباحة صغيرًا، بسبب إصابتي بأزمات الربو مبكرًا، وخوف عائلتي عليَّ من أي لطشة برد أتعرض لها، كانت هذه المياه محرمة على جسدي، ولكن يمكن أن أجلس أمامها، وأداعبها من بعيد بأصابع قدميّ.

رغم هذا كان البحر جزءًا من نجاحاتي في الكتابة. التمشية بجواره، والحديث والتشابك مع الأفكار التي تمور بداخلي، ثم تلك الهدأة على أحد الكراسي الخشبية الخضراء، والتأمل الصامت والاستماع لصوت العقل والغريزة معًا. لولاه لكانت هناك مسارات مغلقة لتلك الشحنة من الأفكار والتأملات التي فقست على الشاطئ.

لذا تظل علاقتي بالبحر ملتبسة، بالرغم من أني كسرت هذا الحاجز، ولكن متأخرًا في العشرينيات، عندما ارتدت البحر لأعوم فيه وليس فقط لأنتظر أمامه. ربما فترة التحريم صنعت منه كيانًا مرغوبًا، أريده أن يبتلعني داخله، ويحتويني، بجانب كل المجازات الأخرى التي جعلت منه جسرًا للعبور للناحية الأخرى من العالم.

كل عبور بجواره كان يُحْيي صدىً من هذا التحريم القديم، وأعود هذا البدائي الذي يقف أمامه، يشعر بلسعة النار على جسده، وينتفض جسمه، حتى بدون حضور النار.

كيف أصبح البحر طبقيًا

كانت أمي تحتفظ بصورنا على شواطئ مرسى مطروح والعجمي في نهاية الستينيات، في شنطة جلدية لبنية اللون، إلى جانب صور أخرى في مناسبات مختلفة. كانت إحدى هواياتي في الصغر أن أعيد بعثرة تلك الصور على السرير ومشاهدتها. أتذكر في إحداها صورة أخي هشام، الذي توفي منذ 7 سنوات، وهو جالس على إحدى صخور شاطئ عجيبة في مرسى مطروح، المنحدرة بقوة، يلبس شورتًا وفانلة من اللون الأبيض أو ربما الكاكي، ويضع في قدمه صندلًا بلاستيكيًا اشتهر في هذه الفترة من الستينيات، وبرنيطة من الخوص على رأسه تشبه برانيط رعاة البقر.

ضمن تلك الصور أيضا كانت هناك صور لفتيات في سن المراهقة، بنات صُحبة المصيف، يلبسن مايوهات تغطى الصدر تمامًا، يقفن أيضًا على هذه الصخور التي صُوِّر عليها أخي. كن مبتسمات للكاميرا ومنهن من تغطي شعرها ببونيه مطاطي، وأخريات تتهدل شعورهن بقطرات ماء تتساقط منها.

في إحدى الليالي وجدت أمي تخرج شنطة ذكرياتها هذه وتمزق الصور حتى لا يراها أحد بعد وفاتها. كانت تخشى تسرب الذكرى القديمة في أيدٍ غير أمينة، بما تحمل من صور الفتيات وهن يرتدين المايوهات، وخروجها من ظلام دولاب الذكريات إلى العلن. كانت تخشى على أجساد صاحبات الصور من أن يخدشها غريب.

وجودنا على شاطئ البحر ليس حدثًا بسيطًا، إنه لقاء نادر بين الإنسان والطبيعة

لقد عاد البحر في عقد الثمانينيات كائنًا اجتماعيًا محرمًا، وخرج عن طوره الطبيعي، عاد كجزء من المجتمع المتعصب الذي يحوطه، انهزمت الطبيعة أمام التعصب، وتوترت العلاقة بين المدينة والبحر طوال عقود تحول فيها من فضاء للأحلام والاستمتاع كما يقول صاحب كتاب الساحل البشري، إلى مكان طبقي/ ديني له تأويلات معقدة. 

مهرب من الزمن والتاريخ

هناك علاقة وثيقة بين الصور والبحر بشكل عام، جزء من تاريخ أي شاطئ تلك الذاكرة التي كان يحتفظ بها ذلك الأرشيفجي الحافي ذو اللباس الأبيض المميز؛ القميص والشورت، متجولًا بين الكبائن ليُخلِّد تلك اللحظات. كان يعلم كصانع للصور بأننا أمام حدث كبير، فوجودنا على شاطئ البحر ليس حدثًا بسيطًا، إنه لقاء نادر بين الإنسان والطبيعة.

كان لكل شاطئ في الإسكندرية مصوره الخاص، بجانب لباسه الأبيض، هناك برنيطة خواجاتي من الخوص على رأسه ليتقي شمس الصيف، وأيضًا ليتميز عن الباقين، ويعلق كاميرا في رقبته بواسطة حزام جلدي رفيع. كان يقطع الشاطئ ذهابًا وإيابًا، حافيًا على الرمال، يعرض بضاعته على مرتاديه لالتقاط صور لهم تخلد هذه الذكرى.

كان البحر هو الخلفية الدائمة لهذه الصور، تمامًا مثل ستارة استديو التصوير المرسوم عليها منظر طبيعي. ولكنَّ المنظر الطبيعي هنا حقيقي. البحر يمنح خلودًا للصورة، بوصفه أحد عناصر الكون، الأبقى والأقدم، والطيِّعة في التشكل ومنح صورة الذكرى زمنًا معتَّقًا يتجاوز زمن الذكرى نفسه.

يشرح فالتر بنيامين في مقاله "تاريخ موجز للفوتوغرافيا"، كيف أن "الطبيعة التي تخاطب آلة التصوير الفوتوغرافي هي طبيعة أخرى غير تلك التي تخاطب العين (...) يتم استبدال فضاء متقن الصنع بواسطة الإنسان بصورة واعية بفضاء مهيأ بطريقة لا واعية".

خلود البحر انتقل تلقائيًا للصور الفوتوغرافية، لأنها الشاهد عليه.

البحر "نقطة عود أبدية لا تتغير أبدًا"، كما يشير مؤلف "الساحل البشري". كأنك في رحلة مقدسة تقوم بها إلى البحر، ويجب أن تسجل تفاصيل هذه الرحلة لأهمية المزار. لقد تجمد البحر زمنيًا في ملايين الصور الفوتوغرافية.

يضيف جيليس "البحر مهرب من الزمن والتاريخ".

يكتب أيضًا حول علاقة البحر بالتاريخ "خُلق الشاطئ من العدم، من دون أن يوفر شعورًا بالمكان، أو شعورًا بالتاريخ".

إنه مكان خارج التاريخ ولحظات السعادة المقتنصة داخله في الصور لا تعود لزمن اجتماعي أو تصنيف طبقي، هي أيضا خارج التاريخ.

الاحتلال الجمالي للساحل

ربما نقف الآن في دورة من إحدى دورات البحر واليابسة. لم يكن سهلا تحول الشاطئ إلى مكان للترفيه والمتعة والاستجمام، كما يشير جيليس، فقد رافقته تعديات، ليس على الشاطئ، ولكن على السكان الأصليين الذين كانوا يسكنون الساحل كالصيادين وجامعي النباتات وغيرهم.

كورنيش الإسكندرية في نوفمبر 2014

بعد خروج الصيادين وجامعي النباتات من المشهد قسرًا، اسْتُخدم الساحل كمكان للعلاج. يكتب جيليس "اكتسب الساحل أيضًا ميزة علاجية بعد أن اتخذت الطبقة الإنجليزية الراقية من الشواطئ الرملية منذ مطلع القرن الثامن عشر فضاءً للعلاج النفسي والجسدي، في المقابل استدعى هذا التحول إزالة سكان الساحل، خاصة صيادي السمك وجامعي النباتات، ضمن ما يسميه جين إيرباين بالاحتلال الجمالي للساحل عن طريق إيديولوجية قضاء الإجازة".

يكتب أيضًا "تمدد مفهوم الساحل اليوم بفعل الرمزية التي اكتسبها كفضاء للأحلام والكوابيس معًا! حيث اجتهدت السينما في تحويله إلى بيئة تهديد وخوف، وأضفت على مخلوقاته البحرية سمة الوحوش المتربصة برواده. لقد عاد الناس من المدينة إلى الساحل، لكن بأسلوب عنيف وخطِر".

 تخلينا عن جغرافية المدينة وروحها من أجل تثبيت الشاطئ كفضاء للأحلام، ولكنه فضاء أرستقراطي، عاد البحر وحشًا طبقيًا، لا يتقبل إلا القلة، وهي دورة من دورات تناسخ هذا الفضاء الجمالي الاستثنائي.


الساحل البشري – جون آر. جيليس. ترجمة د. ابتهال الخطيب. سلسلة عالم المعرفة 430- نوفمبر 2015- المجلس الوطني للثافة والفنون والآداب- الكويت.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.