المجند عبد الرحمن القاضي أحد مقاتلي الكتيبة 212 دبابات في فرقة 19 مشاة بعد عبور قناة السويس في 6 أكتوبر 1973.

انتصار أكتوبر.. حققه الجندي وأضاعه الرئيس

منشور الأربعاء 4 أكتوبر 2023

مثلما تتفاخر إسرائيل بتسمية انتصارها الساحق على مصر وبقية العرب في يونيو/حزيران 1967 "حرب الأيام الستة"، يحق لمصر أيضًا أن تطلق على انتصارها على إسرائيل في حرب أكتوبر 1973 اسم حرب انتصار الأيام الستة فقط.

عند هذا الحد تتوقف المقاربة بين الحربين، لا سياسيًا فقط بل عسكريًا بالدرجة الأولى. انتهت أيام حرب 1967 الستة بهزيمة ساحقة، فيما تحول انتصار حرب أكتوبر/تشرين الأول بعد يومها السادس لصالح الإسرائيليين، الذين كبّدوا القوات المصرية والسورية خسائر فادحة في الأرواح والسلاح، وحتى الأرض.

استعاد المحارب المصري والعربي كرامته وأثبت شجاعته وكفاءته القتاليّة. هو ليس مسؤولًا عن إدارة الحرب؛ لا عسكريًا، وإن لم تُقصِّر القيادة العسكرية في إدارة المعارك، ولا سياسيًا، حيث مضى صانع القرار الوحيد وحده لا يسمع استشارات العسكريين والدبلوماسيين.

هذا ما خلصتُ إليه وأحاول التدليل عليه في هذا المقال، بعد عودتي لقراءة أربع مذكرات عن حرب أكتوبر، كتبها الرئيس السادات، والفريق سعد الدين الشاذلي، والأستاذ محمد حسنين هيكل، رحمهم الله، وهنري كيسنجر (100 سنة ولا يزال حيًا)، إلى جانب بعض وثائق مجلس الأمن القومي الأمريكي التي رُفعت عنها السرية، ومقابلات صحفية وتليفزيونية.

هدف الحرب ومداها

بعيدًا عن الجدل حول الهدف الاستراتيجي للحرب "تحرير" أم "تحريك"، ففيما يتعلق بالخطة العسكرية الموضوعة، يؤكد رئيس أركان الجيش وقتها الفريق سعد الشاذلي في كتابه مذكرات حرب أكتوبر، أن هدف المعركة كان عبور القناة وتحطيم خط بارليف، وتحرير جزء من أرض سيناء بعمق لا يتجاوز عشرين كيلومترًا على الضفة الشرقية للقناة، لضمان سيطرة القوات المصرية عليها، محتمية بجدار الصواريخ الثابتة والمضادة للطائرات غرب القناة، في ضوء الضعف النسبي لسلاح الطيران المصري مقارنة بالإسرائيلي، وعدم القدرة على حماية القوات المتقدمة خارج مظلة الدفاع الجوي.

ويوضح الفريق عبد الغني الجمسي، الذي كان مديرًا للعمليات العسكرية أثناء الحرب، في مقابلة تليفزيونية، أن تطوير الهجوم في عمق سيناء للوصول إلى المضايق الجبلية للاحتماء بها كخط بري، كان محتملًا وتُرك للقيادة العسكرية الميدانية، حسب سرعة تحقيق العبور لغرب القناة، ودرجة ارتباك العدو.

السادات وكيسنجر في قصر الطاهرة الرئاسي بالقاهرة يوم 7 نوفمبر 1973.

بالفعل، فاجأت الضربة الإسرائيليين وتأخروا في استدعاء الاحتياطي، وبدا وزير الدفاع موشي ديان تحت الصدمة مستعدًا لسحب قواته من سيناء لحدود 1967. الفرصة سانحة إذن لتطوير الهجوم من اليوم الثالث للحرب.

لكن إبلاغ الرئيس السادات، بغض النظر عن نيته، مستشار الأمن القومي الأمريكي هنري كيسنجر، في اليوم الثاني للحرب، بأنه لا ينوي تطوير الهجوم والتقدم في سيناء، جعل إسرائيل تطمئن وتركز ردها في البداية على الجبهة السورية الأقرب لأراضيها. وبمجرد تعويض كيسنجر لإسرائيل عن أغلب ما فقدته من أسلحة ومدرعات وطائرات، وما هو أكثر تفوقًا؛ من تكنولوجيا عسكرية خلال خمسة أيام، تحولت بهجومها المكثف إلى الجبهة المصرية.

نجح كيسنجر في تحدي وزارة الخارجية، والأهم؛ البنتاجون، حين التف على تلكؤ الأخير في إطلاق الجسر الجوي، فطلب من إسرائيل إرسال طائراتها المدنية لحمل الأسلحة بسرعة، ليرغم المؤسسة العسكرية على تقديم دعم ضخم كانت واشنطن ترفضه، استنادًا إلى أن خط قناة السويس ليس حدود إسرائيل، لتسليحها دفاعًا عنه!

لماذا يحتفون بي؟

يستغرب كيسنجر في مذكراته استقباله من المسؤولين المصريين بالود والأحضان رغم مسؤوليته عن تسليح إسرائيل وتحسين موقفها العسكري، وذلك في أول لقاء جمعه بالسادات يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1973 في قصر الطاهرة، بعد صدور قرار وقف إطلاق النار من مجلس الأمن في 22 أكتوبر، ولكن قبل توقف الحرب فعليًا، إذ كان الجيش الثالث محاصرًا، وكذلك مدينة السويس! 

نفس الاستغراب أبداه هيكل، الذي كان مقربًا وقتها من السادات ويتحدث معه حتى وهو يرتدي ملابسه العسكرية في غرفة نومه، في كتابه أكتوبر 73: السلاح والسياسة، وهو يروي كيف تسابق المسؤولون المصريون الذين حضروا الاجتماع لاحتضان كيسنجر وتقبيله، وإظهار قوة المعرفة السابقة بالرجل، وذلك قبل أن ينفرد به السادات، وينهي وحده كل المحادثات ويُبرم الاتفاق الخطير.

لم يحدد هيكل من حضن وقبّل، لكنه ذكر، ومثله كيسنجر، من حضر وقابل؛ وزير الخارجية إسماعيل فهمي، ومستشار الأمن القومي حافظ إسماعيل، والجمسي، والسفير المصري في أمريكا، وأشرف غربال، رئيس بعثة المصالح المصرية بواشنطن، والذي أصبح السفير في نهاية الاجتماع التاريخي الذي سنعود إليه بعد قليل.

يوضح الشاذلي في مذكراته، وهو يعترف بخلافه السابق مع وزير الحربية الفريق أول أحمد إسماعيل، أن الأخير كان "مطيعًا" للسادات لدرجة أضرَّت بمسيرة الحرب، وسمح بتدخله "السياسي" في العمليات العسكرية بشكل سلبي، وكان يجبر القادة العسكريين على تنفيذ ما يريده الرئيس دون الالتفات لاعتراضاتهم وتحذيراتهم.

ويُرجع الشاذلي تلك التبعية "غير الصحية" إلى ظروف تعيين أحمد إسماعيل، إذ ضمن السادات ولاءه وامتنانه عندما أتى به من التقاعد وقلّده أعلى منصب عسكري، وبعد أن عزله عبد الناصر مرتين من مناصب أقل، كان آخرها فشله في حرب الاستنزاف بعد عملية إنزال اسرائيلية في العمق المصري، استولت على رادار سوفيتي حديث للدفاع الجوي المصري بعد تفكيكه ونقله. 

تكبدت القوات المصرية في الأرواح والمعدات أضعاف خسائرها في الأيام الستة الأولى من انتصار العبور

من هنا بدأ تغليب التقلبات السياسية للرئيس السادات، على رؤية وتقدير القادة العسكريين، الذين اتفقوا، وإن تحفظ بعضهم، على إمكانية تطوير الهجوم بسرعة والتحرك نحو المضايق قبل استفاقة إسرائيل من صدمتها، وعودة طائراتها لقصف القوات خارج مظلة الدفاع الجوي، وحماية مدرعاتها المتقدمة بعيدًا عن الصواريخ المصرية. لكن السادات رفض التقدم بعد وعده لكيسنجر، الذي لم يكن سوى ممثل إسرائيل في البيت الأبيض.

وحين تحول ميزان القوة العسكرية لإسرائيل بعد الجسر الجوي الأمريكي، طلب السادات عبر وزيره من قواته التقدم بالمدرعات في سيناء مكشوفة دون غطاء صاروخي، بحجة الرغبة السياسية في تخفيف الضغط الإسرائيلي عن سوريا.

تكبدت القوات المصرية في الأرواح والمعدات أضعاف خسائرها في الأيام الستة الأولى من انتصار العبور. وحين طُلب من القوات الجوية حماية القوات المدرعة المتقدمة؛ خسرت في معركة واحدة أكثر من خسائرها في الأيام الستة الأولى. لأن واضعي خطة العبور، عرفوا الإمكانات المحدودة للطيران المصري إذا اشتبك مع عدوّه الأكثر عددًا وتقدمًا. وبالتالي، اكتفت خطة الحرب في استخدامه فقط في الضربة الأولى.

الثغرة واحتلال السويس

على خُطى أساتذة الصحافة المصرية الذين تفوقوا في إيجاد صياغات لغوية مبلوعة مع صعوبة تسمية الهزائم باسمها، تفنن الأستاذ هيكل في تسمية هزيمة 1967 بـ"النكسة"، ولا أستبعد أن يكون له دور في تسمية عبور القوات الإسرائيلية شرق القناة في منطقة الدفرسوار، ثم احتلالها مناطق واسعة شرقًا بعد حصار الجيش الثالث في سيناء وقطع إمداداته، ثم حصار مدينة السويس والسيطرة على الطريق المؤدية منها إلى القاهرة، بـ"ثغرة الدفرسوار"!

ما يعنينا هنا ليس تبني رؤية سعد الشاذلي الاستراتيجية لحرب أكتوبر، كمعركة يجب أن تتلوها معارك أخرى للتحرير، ولو بعد سنوات كلما تحسن وضعك العسكري، لا كعمل منفرد وأخير لتحريك الموقف ولفت أنظار واشنطن وكسب احترامها لتقبل التوسط في صلح مع إسرائيل، ولكني أودُّ تأمل آثار تدخّل القرار السياسي في مسيرة الحرب وتقديراتها العسكرية.

يوضح الشاذلي في مذكراته أنه بدلًا من الإصرار السياسي على تطوير الحرب متأخرًا، كان الأصح إبقاء القوات المصرية التي عبرت لسيناء على عمق 15 كيلومترًا تحت حماية الصواريخ وفي وضع دفاعي، ثم إعادة فرقتين إلى الغرب لتأمينه، وذلك قبل يوم من عبور القوات الإسرائيلية.

تأخر القرار السياسي، لإصرار الوزير والرئيس على عدم عودة أي جندي عَبَر شرقًا، بغض النظر عن جدوى زيادة العدد في سيناء على حساب تأمين الضفة الغربية. كان منطق الوزير عدم التأثير على الروح المعنوية بانسحاب قوات للغرب، بينما كان دافع السادات، حسب تحليل الشاذلي، أنه كان يريد في خطابه أمام مجلس الشعب منتصف أكتوبر، أن تسمعه أمريكا وإسرائيل، أن يتحدث منتصرًا، لا ضعيفًا يسحب بعض قواته للوراء.

خطاب الرئيس أنور السادات أمام مجلس الشعب في 14 أكتوبر 1973.


ويضيف الشاذلي أن الأعداء لايحتاجون خطابًا، بل طائراتهم الاستطلاعية وأقمارهم الصناعية فوق رؤوسنا ترصد نقاط الضعف، وبالفعل بدأوا التسلل في الليل عشية 16 أكتوبر شرقًا. 

الاستماع لكيسنجر لا للقادة

عندما رفض السادات مطلب الشاذلي، سحب قوات مصرية من الشرق لتصفية الثغرة في بدايتها، كان هناك أكثر من 100 ألف جندي مصري عبروا إلى سيناء، وأكثر من ألف دبابة ونحو ألفي مركبة، نجحوا في تحرير مسافة وصل عمقها أحيانًا لعشرين كيلومترًا في سيناء.

ولكن بعد استفحال التغول الإسرائيلي غرب القناة في الأيام التالية، انتهى الأمر إلى قبول السادات مقترحات كيسنجر، في اجتماعهما 7 نوفمبر، التي اتضح أنها في الأصل مقترحات جولدا مائير. 

  • انسحاب القوات المصرية لعمق عشرة كيلومترات فقط داخل سيناء، تفصلها قوات حفظ سلام دولية على عمق عشرة كيلومترات أخرى، عن القوات الإسرائيلية التي تُرك لها أمر باقي شبه الجزيرة.
  • لا يبقى في سيناء سوى 7500 جندي مصري.
  • لا تبقى من الدبابات سوى 30 دبابة.
  • لايتم فك حصار الجيش الثالث قبل إعادة كل الأسرى الإسرائيليين والإفراج عن الجواسيس المحكوم عليهم من قبل.
  • وقف الحصار البحري للأسطول المصري عند باب المندب، وهو بند كان سريًا وقتها.

كانت أولوية السادات في اجتماعه المنفرد مع كيسنجر، استئناف العلاقات الدبلوماسية كاملة وفورًا مع الولايات المتحدة. لم يكن وزير خارجيته إسماعيل فهمي حاضرًا ليسأله عن المقابل، ولا رئيس غرفة عملياته العسكرية الفريق الجمسي مشاركًا ليسأله عن أسباب قبول هذا الانسحاب بدلًا من العودة فقط لخط وقف إطلاق النار حسب القرار الأممي.

أما المقابل والأسباب، فيوضحهما هيكل وكيسنجر بإسهاب، والسادات في مذكراته البحث عن الذات باقتضاب.

لقاء منفرد ونقاط جاهزة

بعد أن تصافح الوفدان وجلسا لدقائق على طاولة الاجتماعات في قاعة الطعام بالقصر الرئاسي حيث التقطت لهم الصور، طلب السادات من كيسنجر أن يصحبه لحديث منفرد في غرفة المكتب.

استغرق اللقاء قرابة ثلاث ساعات، وافق خلالها السادات دون تحفظ واحد على "النقاط الست" التي اقترحها كيسنجر، بمجرد توافق الطرفين على أن الهدف لا يتعلق بوضع القوات ولكن بأن تصبح مصر صديقة لأمريكا وتبتعد عن السوفيت، وتنهي مقاطعة العرب البترولية للغرب.

كان السادات مقتنعًا أنه كسب القوة العظمى الأمريكية في صفه، عكس عبد الناصر!

ومع نهاية اللقاء دعا الرئيس الفريقين للدخول، ليفاجأ مساعدو الرئيس بهذا المنعطف التاريخي، وزادت مفاجأتهم عندما أخرج مساعد وزير الخارجية الأمريكي جوزيف سيسكو، الذي كان ينتظر إلى جوارهم، نسخة مطبوعة من المقترحات من حقيبته.

يوضح كيسنجر في مذكراته ذهوله من عدم مناقشة السادات للمقترحات "خلافًا لأي عرف سياسي تفاوضي" دبلوماسي. وانتقل هذا الذهول للرئيس نيكسون نفسه.

في الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر تحدث كيسنجر بعد بلوغه المئة لصحيفة "معاريف" الإسرائيلية عن دوره في عدم السماح للعرب أن ينتصروا في هذه الحرب على إسرائيل بسلاحهم السوفيتي. لكن حين سأله الصحفي عما إذا كان تحيزه لإسرائيل نابعًا أيضًا من كونه يهوديًا لم ينكر، بل أضاف "من البديهي أنني وضعت وجود الشعب اليهودي ووجود دولة إسرائيل كهدف شخصي، لكنني كنت وزيرًا للخارجية في ذلك الوقت. كنت أول وزير خارجية يهودي. كنت أول وزير خارجية لم يولد في الولايات المتحدة. وكان لا بد من تأسيس ذلك من حيث حماية المصالح الأمريكية"!

 

أما الرئيس السادات، فيذكر في سيرته الذاتية أنه في هذا الاجتماع، لم يعطل نفسه بالتفاصيل وصغائر الأمور، بل امتلك نظرة استراتيجية. كان مقتنعًا، وأخبر هيكل عندما التقى به مساء ذلك اليوم، أنه ضمن كيسنجر في هذا الاجتماع في صفه، وبالتالي كسب القوة العظمى الأمريكية صديقًا لا خصمًا، عكس عبد الناصر!

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.