صفحة وزارة الداخلية الفلسطينية على فيسبوك
معبر رفح- أكتوبر 2023

خذلان غزة بين الاحتلال الإسرائيلي و"فزاعة التوطين"

منشور الأربعاء 11 أكتوبر 2023 - آخر تحديث الأربعاء 11 أكتوبر 2023

بينما كانت منظمات حقوق الإنسان المصرية تطالب الحكومة بفتح الحدود الجنوبية لإغاثة أهلنا الفارين من جحيم الحرب الأهلية في السودان، فإنها تقف اليوم في خندق واحد مع الشعب والحكومة، في رفض ما تخيفنا منه آلة التخويف والفزع الإعلامية الموجهة، من مؤامرات تُحاك على مصر لإعادة توطين فلسطينيي غزة في أراضي سيناء، وتصفية القضية الفلسطينية. 

وبالتالي، بدأ البحث عن حلول لإدخال بعض معونات الإغاثة إلى غزة عبر معبر رفح الذي أغلقته مصر، من دون السماح للفلسطينيين وأطفالهم بالفكاك من الجحيم الإسرائيلي نحو مصر. نجحت آلة التخويف في ترسيخ عدم اكتراث قطاع واسع من المصريين مع نخبهم؛ بمصير أكثر من مليوني محبوس في حريق لا باب نجاة منه إلا عبر مصر، وكأن لسان حالهم المرتجف المذعور يقول: يا روح ما بعدك روح! 

يناقش هذا المقال جدِّيَّة "فزّاعة التوطين" كمبرر لعدم فتح طريق النجاة المؤقت لأهلنا في غزة، حتى أصبحت ذريعة للنظام يبرر بها تقاعسه عن مسؤولياته الأخلاقية والتاريخية. بل ويزايد بعض المعارضين على النظام في الترويج والتخويف من تورط مصر في مؤامرة التوطين باعتبارها ستقدم حلًا للأزمة المالية، رغم أن المساعدات العربية التي ستُقدم لغزة عبر مصر، قد لا تزيد عما ستحصل عليه بتقديم بضعة كيلومترات في سيناء لإنقاذ سكان غزة، تقل كثيرًا عن المساحات الشاسعة التي طُرحت فعليًا من قبل لتوطين الفلسطينيين، الذين رفضوا هذه المشاريع وتظاهروا ضدها حين حاول قائد قومي مثل عبد الناصر تطبيقها في الخمسينيات!

غزة التي كانت في حماية مصر 

التخلي القانوني الأهم تاريخيًا لمصر عن مسؤوليتها تجاه قطاع غزة، كان توقيعها تفاهمات كامب ديفيد سبتمبر/أيلول 1978. 

فقد كانت غزة تقع دوليًا تحت مسؤولية مصر وفي حماية جيشها منذ توقيعها اتفاقية الهدنة مع إسرائيل 1949، ليتمتع الحاكم العام المصري لقطاع غزة بسلطات لا تقل عما كانت للمندوب السامي البريطاني في فلسطين، قبل قرار التقسيم 1947، والذي رفضته الحكومات العربية وحاربت إسرائيل عام 1948، فخسرت حتى مناطق دولة فلسطين المحددة في القرار.

على من يعتقد أن الفلسطينيين قد يقبلون انتزاعهم مرة أخرى من غزة لإعادة توطينهم في سيناء، أن يقرأ التاريخ القريب

وبدلًا من إعلان سلطة فلسطينية على ما تبقى من أراضٍ في فلسطين، وضع الأردن نفسه وصيًا وحاميًا عسكريًا على القدس الشرقية والضفة الغربية، ووضعت مصر يدها على قطاع غزة.

وبالتالي، كان يُفترض، حتى لو أرادت مصر السادات صلحًا منفردًا مع إسرائيل دون الحاجة لتقديم أي مبررات لأحد غير شعبها، أن تستعيد في المفاوضات الأراضي التي خسرتها في حرب يونيو/حزيران 1967، وتشمل قطاع غزة ولا تقف عند الحدود التاريخية مع فلسطين.

كانت حجة المفاوض المصري في كامب ديفيد أنه حصل على ترتيبات في "إطار السلام" لحكم فلسطيني ذاتي خمس سنوات للضفة وغزة بمشاركة أردنية، لم يوافق عليها الفلسطينيون والأردنيون وبقية العرب. وناهيك عن اعتراض الكنيست على ما وافق عليه بيجن في كامب ديفيد بشأن الضفة وغزة، فلم يكن هناك مبرر لأن تصر مصر على استعادة القطاع الفلسطيني الذي كان في عهدة جيشها، ثم تسلمه للأمم المتحدة وقوات حفظ السلام الدولية، لتتمكن من غسل أيديها من القضية الفلسطينية!

بعد عشر سنوات، فعل الأردن ما فعلته مصر، ولكن بإخراج مختلف. فقد أعلن عام 1988 "فض الارتباط" عن الضفة الغربية، وكأنها كانت في حوزته ولم تؤخذ من جيشه عام 1967، ليمهد بعد ذلك للسلام الكامل مع إسرائيل 1994.

انتفاضة غزة ضد توطين عبد الناصر

على من يعتقد أن الفلسطينيين قد يقبلون انتزاعهم مرة أخرى من غزة لإعادة توطينهم في سيناء، أن يقرأ التاريخ القريب الموثق من الأمم المتحدة والفلسطينيين أنفسهم، حين رفضوا ذلك وتظاهروا وسُجنوا في مصر في منتصف الخمسينيات، حين كانت مصر مكان جذب وفي وضع اقتصادي أفضل، وفي عهد زعيم القومية العربية عبد الناصر وبإشراف الأمم المتحدة!

تسمي المراجع الفلسطينية المظاهرات ضد الإدارة المصرية في القطاع مارس/آذار 1955 "هَبَّة غزة". وبتنسيق "اللجنة الوطنية العليا" لمختلف التيارات الفلسطينية من شيوعيين (معين بسيسو) وإخوان مسلمين (فتحي البلعاوي)، وبمساهمة من نقابة المعلمين لمدارس الأمم المتحدة، تظاهر الآلاف وهتفوا بشعارات مثل "لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان"، و"كتبوا مشروع سيناء بالحبر، وسنمحوا مشروع سيناء بالدم"!

بدأ المشروع عام 1953 بين الحكومة المصرية ووكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وبتمويل أمريكي قدره 30 مليون دولار، لنقل نحو 12 ألف أسرة من مخيمات اللاجئين المكتظة على حدود غزة ناحية النقب، والواقعة بين عمليات فدائية وهجمات انتقامية عسكرية إسرائيلية، ليعاد توطينهم في الشمال الغربي من رفح في سيناء، بعد استصلاح وزراعة آلاف الفدادين وتوصيل المياه إليها.

لا يمكن استخدام "فزّاعة التوطين" ونظريات المؤامرة، إلا باعتباره مطلبًا وشرطًا إسرائيليًا

لكنَّ مشروع التوطين أُجهِض؛ ليس فقط بتظاهر ثم سجن بعض زعماء الحركة الوطنية الفلسطينية في غزة، ولكن الأهم بعد فشل مبادرات أمريكية للسلام بين مصر وإسرائيل، حين انفجرت فضيحة لافون وزير الدفاع الإسرائيلي بزرع شبكة عملاء في مصر لتفجيرات تعيد القوات البريطانية لمنطقة القناة، ثم الهجمات التي شنها خليفته في وزارة الدفاع بن جوريون على معسكرات الجيش المصري بغزة مما أودى بحياة 36 جنديًا مصريًا عام 1955، وبعد كشف صفقة الأسلحة التشيكية لمصر، مما قوّض العلاقة المصرية الأمريكية وانتهت برفض واشنطن تمويل السد العالي.

مشاريع التوطين.. مقترحات وشائعات

تعددت مقترحات وأفكار التوطين الإسرائيلية لكنها لم تجد تجاوبًا فلسطينيًا أو مصريًا بعد حرب 1956. وحتى حين كانت سيناء بأكملها في قبضة إسرائيل لست سنوات لم تجرِ أي إعادة توطين لسكان غزة من القطاع إلى سيناء.

كانت الأفكار المطروحة على الورق خيالية وغير عملية، تتحدث عن مقايضة مساحات كبيرة من سيناء متاخمة لحدود غزة صعودًا إلى العريش وبمساحة 600 كيلومتر مربع، لإعادة توطين الفلسطينيين ليس من غزة بل من مناطق في الضفة، مقابل تخلي إسرائيل لمصر عن حوالي 200 كيلومتر مربع من صحراء النقب لترتبط بريًا بالأردن. 

لم تتجاوز هذه الأفكار مرحلة سماع بعض المسؤولين المصريين عنها في سنوات عهد الرئيس مبارك، وفي سنة عهد الرئيس مرسي، دون أن يُبدِ أيُّ منهما أيَّ جدية تجاه مشروعات أول من سيرفضها الفلسطينيون أنفسهم، خاصة بعد أن استقرت العلاقات السياسية والأمنية بين إسرائيل وكلٍّ من مصر والأردن.

ولهذا، خرجت أمس الثلاثاء السفيرة الإسرائيلية في القاهرة أميرة أورون عن صمتها المعهود، وردت عبر إكس على موجة التحذيرات والتخويف الرائجة في الإعلام المصري الموجه بشأن إعادة توطين فلسطينيي غزة في سيناء لتقول "ليس لدى إسرائيل أي نوايا فيما يتعلق بسيناء، ولم تطلب من الفلسطينيين الانتقال إلى هناك".

فتح الحدود مع غزة لن يتعدى مناطق آمنة

حين تولت مصر وجيشها إدارة القطاع بعد حرب 1948 كان عدد سكانه تضاعف ثلاث مرات من 80 ألفًا إلى 280 ألفًا، بسبب اللاجئين الذين فروا من عصابات الهاجاناه ثم جيش إسرائيل. هذا العدد ازداد نموًا بنحو عشرة أضعاف ما كان عليه وقتها، ووصل الآن إلى مليونين وثلث المليون نسمة، منهم نحو مليون في مدينة غزة وحدها.

تجعل هذه الأرقام قطاع غزة، البالغ مجموع مساحته 365 كيلومترًا مربعًا، أكثر مناطق العالم كثافة سكانية، بل إن البعض يصفه في الكتابات الغربية القليلة المتعاطفة بـ"أكبر سجن في العالم"، بعد الحصار المفروض عليه عقب سنتين من انسحاب إسرائيل الأحادي وتولي حركة حماس وحدها إدارته عام 2007، وإحكام اتصاله بالعالم وسفر مواطنيه عبر بوابتين فقط؛ معبر إيريز إلى إسرائيل ومعبر رفح إلى مصر.

استتب الأمن واستقرت السيطرة المصرية على سيناء بعد أن إخلاء سكان المناطق الحدودية المتاخمة لقطاع غزة من مساحة خمسة كيلومترات بعيدًا عن الحدود، وأيضًا مع سماح إسرائيل لمصر بنشر قوات وأسلحة ثقيلة في المنطقة "ج" التي كانت معاهدة السلام تحظر دخولها إلا للشرطة بأسلحة خفيفة، بعد سنوات من التغاضي عنه بشكل استثنائي.

هذا الوجود العسكري بررته، فعليًا وبشكل استثنائي، من إسرائيل منذ عشر سنوات، مكافحة تنظيمات مسلحة مثل داعش، والتصدي لأنفاق حماس الممتدة لرفح المصرية، ثم جعله رسميًا منذ سنتين تحسن العلاقات الوثيقة والتعاون الأمني والمخابراتي بين البلدين، إلى حد قول وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في لقاء مع نظيره المصري قبل عامين، بأن بلاده "لم تر العلاقات بين مصر وإسرائيل أكثر قوة مما هي عليه اليوم".

بالتالي، لا يمكن استخدام "فزّاعة التوطين" ونظريات المؤامرة ضد الأشقاء الفلسطينيين والحلفاء الأمنيين الإسرائيليين، إلا باعتباره مطلبًا وشرطًا إسرائيليًا، بعد قصف إسرائيل للمنطقة العازلة وسط معبر رفح، كإشارة للجدية، وعودة قوافل الإغاثة على أعقابها في سيناء بدلًا من الوصول إلى رفح، باعتبار أن هذه السياسة العسكرية التي أعلنها على الهواء قادة جيش إسرائيل بقطع الكهرباء والماء والطعام والوقود عن الفلسطينيين في كل قطاع غزة، ومعاملتهم "كحيوانات بشرية"، وهو تعبير مقصود منه اعتبار الفلسطينيين في درجة أدنى من الحيوانات التي تدافع عن حقوقها جمعيات كثيرة ومؤثرة في الغرب، المنحاز لإسرائيل في كل ما تفعله.

بعد يوم واحد من القصف الجوي الإسرائيلي المكثف والمتوقع استمراره لفترة طويلة على غزة، أعلنت وكالة غوث اللاجئين (أونروا) أن عدد النازحين داخليًا وصل 137,500، يقيمون في 83 مدرسة تابعة للأونروا. وتضيف الوكالة عما بيدها أن تقدمه وسط القصف والحصار "تم توزيع الخبز على النازحين في الملاجئ"!

فتحت ألمانيا أبوابها لمليون لاجئ سوري على بعد قارة كاملة منها ومعظمهم مسلمون وعرب من غير دين ولغة شعبها. وتتفاخر مصر دوليًا بأن لديها ستة ملايين لاجئ، يدفع كلُّ واحد منهم ألف دولار لتجديد إقامته، ولم يعد هناك دعم كبير لمواطنيها يخافون عليه من لاجئيها. أليس من الأحرى بالبلدين فتح أبوابهما لمحنة الفلسطينيين الذين يُبادون في غزة؟

ستحصل مصر على المساعدات العربية الباحثة عن سبيل الوصول للفلسطينيين، ليس فقط من معبر رفح، بل وفي المعسكرات والخيام والمستشفيات الميدانية في المنطقة الحدودية العازلة، حتى تنتهي الخطة العسكرية الجهنمية لإسرائيل ويعود هؤلاء الضيوف، ممتنين لبلد شعروا أنه خذلهم من قبل، ليس فقط في اتفاق كامب ديفيد، بل وحتى بمرارة المعاملة الخشنة في كل مرة عبروا فيها من معبر رفح!

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.