activestills - فليكر - برخصة المشاع الإبداعي
طفل فلسطيني يجلس في سريره بعد هدم منزل عائلته في تجمع خربة طانا بالضفة الغربية - أبريل 2016.

استعادة الطفولة التي صادرها الإسرائيليون

منشور السبت 23 ديسمبر 2023

يسجل حسين البرغوثي في سيرته الذاتية سأكون بين اللوز رحلة عودته بعد ثلاثين عامًا من المنفى الطوعي، بين أمريكا والمجر، إلى السكن في ريف رام الله، حيث كانت بداياته، لتكون نهاياته أيضًا هناك،"كأنني مأخوذ بالوقوف في مهب ذكريات أهلي القدماء هناك، وأحاول تركيب بداياتي مع نهاياتهم".

يتذكر الكاتب طفولته، حيث تشكلت بدايات ذاكرته بين حدائق اللوز التي زرعها أبوه حول البيت عند زواجه من أمه، وتلتحم، في العودة، وفي الكتابة، مع نهايات ذاكرة القدماء من أهله وأهل المكان وحكاياتهم. لتجري الدماء والحياة عبر تداخل الذاكرتين، وهكذا تكون نهايته أيضًا نقطة بداية لذاكرة جديدة ستدخل في هذه السلسلة من الذاكرات المتتالية باتجاه المستقبل، فالحركة تتم من الماضي نحو المستقبل، لتستمر الحكاية حية.

هذه الذاكرة الجديدة المستقلة ستحفظ ذاكرته وذكرياته بعد أن يموت داخل ذاكرة المكان الأم الخالد. فحركة الذاكرة باتجاه الماضي ليست إلا قناعًا لحركة جديدة باتجاه المستقبل الكامن في عنوان السيرة "سأكون بين اللوز".

ذاكرة المستقبل

ولكن ما دخل الموت هنا؟ تتكشف نية أخرى وراء عودته من المنفى وكتابته عن طفولته، هي إصابته بالسرطان، المرض الذي يراه الكاتب "وجهة نظر في الحياة"، ويمثل نهاية معلقة، أو مُنتظرة، فيبدأ رحلة عكسية ضدها، بالعودة إلى بداياته داخل قرية الطفولة، ليُحيي ذلك الطفل الذي كانَهُ، الخالد الذي لا يموت، الذي لا يزال يعيش هناك، مع نهايات أجداده القدماء، كأنه يستعين بتاريخ يحتوي على ذاكرات عدة ليقاوم بها موته المنتظر، أو موت ذاكرته.

"ربما كنت أتنفس بالحكايات، هواء أمكنة أخرى، لأشعر بفضاء مقمر آخر في داخلي، وأعود إلى 'دير جواني' ما في روحي يمنحني قوة البدايات كي أواجه قوة النهايات، الخيال طاقة".

سيعود عبر طاقة الخيال ليواجه الموت، ويبعث مكانًا جديدًا حيًا بداخله.

ربما من يلعب دور ذاكرة المستقبل الممتدة في هذه السيرة ابنه آثر، الذي يلازمه في رحلة عودته. فالابن ليس إلا رمزًا لهذه الذاكرة الجديدة سيتم الالتحام بها، بوصف الأب أحد القدماء، وبهذا تتحول ذاكرته ورحلته إلى نقطة وصل بين ذاكرتين؛ الماضي والمستقبل. وعندما يسمي سيرته "سأكون بين اللوز"، فكأنه يقول "سأعيش أبدًا بين اللوز"، بوصفه ذاكرة لا تموت.

يطمح البرغوثي في هذه السيرة لتتبع مقولة السويسري بول كلي: الرسام لا يرسم المرئي بل يجعله مرئيًا

واللوز هنا هي حدائق اللوز التي زرعها أبوه في عام النكبة عند زواجه بأمه، وهو أيضًا عام بداية الذاكرة لهذا الابن المنتظر، فالزواج حجب النكبة، وبالتالي البعث سيحجب الموت المنتظر، وكأنَّ المكان يحمل صفة الديمومة والتجدد، وهناك زواج دائم يحدث فيه، وكما حدث التحام بين أمه وأبيه، هناك في المستقبل سيحدث أيضًا التحام بين ذاكرته وذاكرة ابنه.

طفولة المكان

العودة للبدايات بكل ما تحمله من بعثٍ لواقعٍ آخر ومكانٍ آخر وأرضٍ أخرى، ليست حنينًا فارغًا مستلبًا للماضي وعبادته، ولكنه تثبيت في أرض الذاكرة واستعادة لها عبر الذكريات والحكايات، واستدعاء لهذا الماضي نحو الحاضر، ليصبح جزءًا منه.

فالماضي ضمن هذه العملية لا يثبت على جزء معين من الذاكرة، ولا يقتصر فقط على ذاكرة الطفولة، بل يتعداها لذاكرات أخرى تنتظر هناك في الماضي، بدون تعصب لزمن معين. يتحول الكاتب إلى مؤرخ ذاكرات تاريخ إنساني واسع، يحتوي ذاكرته نفسها وذاكرات الحيوات والحكايات التي مرت من هناك، فالماضي يتعدَّى طفولته إلى طفولة المكان، أي طفولة تاريخ لا يشيخ.

ذاكرة الضحية

يكشف حسين البرغوثي قليلًا عن طبيعة هذه الذاكرة التي يمتلكها، ويسميها عرضيًا ذاكرة الضحية يضعها في مقابل ذاكرة الجلاد. وهو يقف بين الذاكرتين، ليكتب، كما وقف من قبل عند مهب ذاكرة القدماء "ذاكرة الضحية وذاكرة الجلاد بينهما صدع عميق وأنا واقف على شفير هذا الصدع اللامرئي".

هذه هذه الهوة التي تقف فوقها الكتابة والنص والجسد.

يسخر من كلمة رئيس وزراء إسرائيل إسحاق شامير حين يقول إن "العرب أفاعٍ"، فيستعير الكاتب ذاكرة الأفاعي وينسب ذاكرته لها. تلك الأفاعي التي تسكن الوادي وتزغرد أثناء طيرانها، بينما ذاكرة الجلاد ثابتة ومقيدة لا تطير بل تُبيد فقط "ذاكرة أخرى من رؤى وأساطير مسلحة تمامًا لإبادة الأفاعي".

ربما ما يطمح إليه حسين البرغوثي في هذه السيرة تتبع مقولة الرسام السويسري بول كلي، بأنَّ "الرسام لا يرسم المرئي بل يجعله مرئيًا". فالنية هي تمرئي الذاكرة، لأنها أصبحت مكان الصراع الخفي، وجُعِل اللا مرئي فيها مرئيًا، حسيًا، وبهذا الصراع بين الذاكرتين، يكتسب النص حسَّه الملحمي.

وداع الذاكرة الطويل

ربما الهدف الأساسي من هذه السيرة هو الإحياء الملحمي لكل تفاصيل الحياة وتنشيط الذاكرة وحكايات القرية وأساطيرها.

فالدير الجواني؛ حيث كان يلعب في طفولته، أصبح رمزًا لهذا التمدد العرضي والرأسي لذاكرته. ربما هي طريقة المقاومة التي اجترحها الكاتب بالرغم من عودته مريضًا بالسرطان، وهي نقطة مهمة؛ أنَّ الموت دخل وسيطًا في التذكر وإحياء التفاصيل، بوصفها لحظة وداع طويلة ستمتد على عدة سنوات.

خلال هذا الوداع الطويل، يُشفى حسين من السرطان، كما يكتب، أو كما يتمنى، ربما بسبب شفاء هذه الذاكرة بتوسيع وظيفتها، واستنهاض كل عوامل المقاومة بداخلها. المقاومة عبر الذاكرة.

شفاء الذاكرة جزء أصيل من شفاء الجسد؛ فالاثنان يبحثان عن الخلاص والتجاوز، سواء لآثار  الجلاد، أو آثار الألم، بزرع هذه الذات داخل محيط  ذاكرة أكبر، أي تأصيل لها، وردها لزمن أسبق بكثير من زمن الجلاد: زمن الأسطورة. كأنَّ زمن الجلاد مرحلة عابرة ومؤقتة.

المرئي واللامرئي

في هذا النص الإحيائي، لا يُحيي الكاتب فقط تفاصيل مكان طفولته، بل يرصد علاقات حسية وأنواعًا متباينة من العناصر اللا مرئية مثل الضوء. يقارن بين ضوء القمر الذي تعيش فيه قريته ليلًا، وضوء النيون في المستعمرات الإسرائيلية الضفة الأخرى. ثم يربط بين الضوء والقوة، ليستبقي بالطبع للطبيعة قوتها في ضوء قمرها، فيما ينفي ضوء النيون الآخر الزائف.

النص كله قائم على التماهي والتقمص والتناسخ وتبادل الأدوار، فلا شيء يموت بل يبعث في صورة أخرى

باستخدامه الضوء علامة مميزة للمقارنة بين ثقافتين، يتبع الكاتب خطى الروائي الياباني جينشيرو تانزاكي في كتابه "مديح الظل"، الذي يوضح فيه اختلاف الثقافة اليابانية عن الثقافة الأمريكية الحديثة في طريقة استخدامهما للضوء في الحمام، فالأولى تميل للظلال، بعكس الثانية التي تفضِّل الضوء الساطع في حماماتها.

هناك أيضًا أنواع من الصمت في المكان، وأنواع من الذاكرة، وأنواع من الإلهام، أو التوحد مع الجمال العميق الذي يطرحه المكان. فهذه النية التي يبيتها حسين الرغوثي مقتديًا ببول كلي، أن "الرسام لا يرسم المرئي، بل يجعله مرئيًا"، جعلته يقوم بإعادة رسم المرئي من جديد، بكشف هذه الأنواع  المتباينة من الصمت والصوت والذاكرة والضوء.

الطفو الزمني

ربما هناك يأس خفي يغلف هذه السيرة، لأنَّ نهايتها الموت الذي ينتظره. ولكنه يأس لا يجرح الذات عميقًا، ولا يمنعها من الحركة، لأنَّ هذه الذات تعبر طافية، عبر الانفصال عن نفسها أحيانًا بوصفها شخصًا آخر، ثم الاتصال بذاكرة أسبق، ما جعلها تقف في مفترق طرق بين عدة أزمنة. لذا تحقق لها هذا البعث والطفو الزمني، لا التجذر في زمن ومكان ومرض واحد، حيث تفرض المأساة سطوتها.

تجاوَز الكاتب الألم عبر هذا التوزع والطفو الزمني، وهو ليس اختيارًا سهلًا؛ أن يرى الحياة والذاكرة من هذا المكان البيني.

هناك تقشف في الحديث عن السرطان، دون تقليل أو تضخيم منه، بل جعله باعثًا لتنشيط الذاكرة لتقف بجانبه أمام النهاية. ليس هناك استغراق كون المرض أصبح قضية ضمن قضايا مصيرية أخرى، على الرغم من أنه مات بعد نهاية النص، ولكنه داخل النص شُفِي من السرطان، وكان يتعامل بموضوعية معه كأن المصاب شخص آخر.

هذا الانفصال عن الهوية الشخصية في قراءة التاريخ، أو ذاكرة المكان، خلق هذه الذات الأخرى، التي خرجت كعنقاء من هذه الأزمة وأخذت تعيد كتابة التاريخ وتاريخها الشخصي، وتخلق قرية جديدة من الذاكرة.

ربما إحساس الموت على قلة ذكره في النص، ومتانة ارتباطه بالسرطان الذي يعاني منه الكاتب، يشكِّلان النهاية الطبيعية المنتظرة منه؛ فهو الذي منح الكتابة هذا الدفق الساحر في التشبث بذاكرة الطفولة، حيث لا موت في الطفولة.

الموت في السيرة يقف في الخلفية، كما تقف الانتفاضة الفلسطينية الثانية، دون ذكرها مباشرة، وراء ستار هذه الملحمية.

الإيقاع الثابت في السيرة هو التماس السريع مع عناصر المكان والذاكرة والحكايات، والتنقل بينها ذهابًا وإيابًا، صعودًا وهبوطًا، كماكينة خياطة تنسج صورة في النهاية. تماس مضيء، لأنه يرسم إحداثيات دالة عبر هذه الرموز المختارة، تنسج صورة النص وجوانيته.

ربما هذه السيرة بشكل ما، إعادة رؤية لكتابة المأساة الفلسطينية، من خلال رمزية هذه القرية، مثل ماكوندو ماركيز، ومحاولة كتابة حكاية جديدة/قديمة لها، وشحن هذه المأساة بنبرة تفاؤل صادقة، أو على الأقل، بنبرة غير مهزومة وغير قدرية.

تناسخ مستمر

هناك تعويل، كما ذكرت سابقًا، على حضور ابنه آثر داخل النص بشكل ملح، كأنه ناقل الذاكرة، والجزء المستمر والمستقبلي فيها. أحيانًا يحدث التماهي بينهما، كما يحدث بينه وعناصر أخرى في مكان الطفولة وتاريخه.

النص كله قائم على التماهي والتقمص والتناسخ وتبادل الأدوار، فلا شيء يموت بل يبعث في صورة أخرى، والحرية التي اكتسبتها الذاكرة في تخطي كل الحواجز جاءت بسبب هذه العقيدة، التي لا يمكن أن يصادرها المستعمر الجلاد.

يستعيد البرغوثي طفولته من يد الإسرائيليين وهو فعل مقاومة يوازي تمامًا فعل استعادة الأرض عبر الذاكرة

النص به سيولة فهو يشكل لحظة قيامة؛ تداخلٌ وغشيانٌ للعناصر فتكتسب حياة وطاقة جديدتين، أو ردُّ هذه العناصر المتشابهة لأصل واحد هي ذات الكاتب نفسه، الذي يصنع نسخة جديدة من الحياة الفلسطينية محفوظة داخل حس ملحمي شديد التماسك والخفة، لغة وأسلوبًا.

يذكر الكاتب دائمًا في أكثر من مكان المصريين القدماء وأسطورتهم حول تلك السماء الأولى المصنوعة من الحديد التي كانوا يرتقون إليها عبر الجبال. كان الكاتب يتمثَّل الجبل في طفولته، ويتبادل معه الأدوار، كما في الأساطير القديمة التي تتكلم فيها الجبال والحيوانات، فيحكي حكاية القرية بعين وقلب هذا الجبل القائم في مكان الطفولة في "الدير الجواني"، حيث كانت بداية التناسخ، وليست نهايته.

يكتب "صادر الإسرائيليون طفولتي". في النص يستعيد البرغوثي طفولته من يد الإسرائيليين، وهو فعل مقاومة يوازي تمامًا فعل استعادة الأرض عبر الذاكرة، بطاقة الخيال الذي يعيد ترتيب جغرافيا المكان والتاريخ، مستبقيًا العدالة، فالخيال يبحث عن العدالة لتستمر الحياة، واقعًا وخيالًا، محفوظة بصورتها البريئة، قبل أن تقام الحواجز، وتنتشر المظالم.