ويكيبيديا - برخصة المشاع الإبداعي
لوحة تصور فارادي في معمله في لندن

مايكل فاراداي وإطلاق مارد الكهرباء

كيف غيّرت تجارب الكهرومغناطيسية وجه العالم إلى الأبد؟

منشور السبت 13 يناير 2024 - آخر تحديث السبت 13 يناير 2024

يذكرني انقطاع الكهرباء، خصوصًا في الشهور الأخيرة، بحجم اعتماد البشرية على هذه الطاقة. فالمصانع والبيوت وغيرها من الأماكن تعتمد تمامًا على الطاقة الكهربائية التي ظهرت منذ 130 عامًا فقط كمارد بَدّل للأبد شكل حياتنا.

لعلك تتساءل من الذي أطلق هذا المارد وسَحَر به عالمنا، فأعطانا من سُبل الرفاهية ما لم يحلم به هو نفسه. إنه العالم الإنجليزي مايكل فاراداي (1791-1867) الذي قال عنه مؤسس علم الفيزياء الذرية إرنست رزرفورد "عندما ننظر إلى حجم وتنوع وتأثير اكتشافاته على تطور العلم والصناعة، نجد أنه لا حَدَّ لما ينبغي علينا منحه لهذا الشخص من شرف عظيم. فهو أحد أعظم المكتشفين العلميين على مر العصور". 

في عام 600 قبل الميلاد، وصف الفيلسوف اليوناني طاليس تجربة بسيطة، يحك فيها حجر الكهرمان (وله اسم آخر وهو الكهرب) بقطعة من الحرير لثوانٍ قليلة، بعدها يصبح لدى الكهرمان قدرة على جذب قطعٍ صغيرة من الريش.

الكهرمان يسمى Elektron أو إليكترون باليونانية القديمة، لذلك تُرجمت الكلمة إلى العربية فكانت "كهرباء"، وهو أصلها في الإنجليزية أيضًا.

العامل يصبح عالمًا

نشأ مايكل فاراداي في أسرة فقيرة بالقرب من لندن. كان أبوه حدادًا متواضعًا لم يستطع إكمال تعليم أولاده، واكتفى بتعريفهم مبادئ القراءة والكتابة والحساب.

لم يرد مايكل إلا أن يقوم بهذه التجارب الرائعة ويشاهد نتائجها البديعة

انطلق الأولاد بعدها للعمل حدادين أو في مهن أخرى، ومن بينهم مايكل الذي عمل في محل لبيع وتجليد الكتب، حيث قرأ الكثير منها وهو يتدرب على تجليدها، وبالأخص الكتب العلمية. وفي سن التاسعة عشرة، التحق مايكل بمجموعة من الشباب المتحمسين للمعرفة والعلوم، أطلقت على نفسها "جمعية المدينة الفلسفية"، فكان لانضمامه أثر كبير على تَعليمه وخبرته العلمية.

تعلم مايكل في هذه المجموعة اللغة الإنجليزية وقواعدها، إلى جانب العديد من التجارب والدراسات الأساسية في الكيمياء والفيزياء، وكان يدوّن بدقة تجارب الجمعية ويَدرسها جيدًا، ليضع بعد ذلك كلَّ ما كتبه في مجلد من أربعة أجزاء. وعندما علم مالك المحل بما فعله فارادي سعد بذلك كثيرًا، وكان يُحدِّث زبائنه عنه بفخر.

كان أحد هؤلاء الزبائن هو السيد دانس، الذي استعار من مايكل تلك المجلدات ليقرأها والده، الذي كان على صلة بعلماء المعهد الملكي البريطاني. أعاد السيد دانس المجلدات لمايكل معبرًا عن سعادة والده بقراءتها، وأعطى لمايكل أربع تذاكر لحضور أحد أهم العروض العلمية في بريطانيا وهو عرض الكيميائي الشهير همفري ديفي. وبالطبع حضر مايكل العرض واستمتع به استمتاعًا شديدًا، وقرر بعدها أن يكون باحثًا في علوم الكيمياء والكهربائية.

لكن كيف له أن يكون باحثًا في العلوم؟

لم يرد مايكل إلا أن يقوم بهذه التجارب الرائعة ويشاهد نتائجها البديعة. أرسل مايكل طلبات توظيف إلى جميع المؤسسات العلمية في إنجلترا ليعمل في أحد معاملها وفي أقل وظيفة ممكنة. ولم يقبل أحد بتوظيفه، لكن بعد ذلك بأسابيع تسبب حادث انفجار في معمل ديفي في فقدانه بصره بشكل مؤقت، فأرسل إلى مايكل ليعمل في وظيفة سكرتير عنده لعدة أيام. وغالبًا كان ذلك بتوصية من والد السيد دانس.

بعد شفاء ديفي رجع مايكل لتجليد الكتب من جديد، لكن بعد فترة قصيرة عمل مايكل مع ديفي منظفًا لأدوات المعمل، وسعد مايكل بتلك الوظيفة، واجتهد فيها.

في عام 1813 ذهب مع ديفي وزوجته في رحلة علمية طويلة لأوروبا استمرت عامًا ونصف العام. زاروا خلالها عدة عواصم وتناقشوا فيها مع أهم علمائها في تجارب ديفي التي حَضرها مايكل وشاهدوا كذلك تجارب هؤلاء العلماء. تعلم فاراداي الكثير في تلك الفترة، كذلك تعلم الفرنسية والإيطالية وعاد بعدها للمعهد الملكي في وظيفة مساعد لديفي وعمل معه باجتهاد لعدة سنوات لكنه في الحقيقة كان في طريقه ليكون عالمًا متمكنًا.

فاراداي زميل الجمعية الملكية

كانت ظواهر الكهربائية والمغناطيسية، قبل فاراداي، منفصلة عن بعضها البعض، ولكن تلك النظرة بدأت في التراجع مع حلول عام 1820، حينما قام العالم الدنماركي هانز أورستد بتجربة أظهرت علاقة بينهما، عبر توليد مجال مغناطيسي نتيجة لمرور تيار كهربائي في سلك معدني، فكانت بداية لسلسلة من الظواهر الكهرومغناطيسية.

قدم فاراداي اكتشافات في مجال علوم الكيمياء من بينها اكتشافه البنزين بوصفه مركبًا كيميائيًا

متأثرًا بنتائج أورستد، حاول العالم الإنجليزي وليام ولاستون عام 1821 تفسير تلك الظاهرة، بافتراض وجود مسار لولبي أو حلزوني للتيار الكهربائي في السلك.

لم يكن هذا التفسير صحيحًا كما بيَّن فاراداي فيما بعد. لكنَّ الغريب أن ولاستون أقنع ديفي بهذا التفسير المعقد، لدرجة أنَّ الأخير حاول إثباته تجريبيًا عدة مرات دون جدوى.

قد نفهم حماس ديفي لهذه المحاولات ببحث العلماء حينها عن إمكانية توليد حركة من تلك الظاهرة. بمعنى آخر؛ كيفية اختراع موتور كهربائي باستخدامها!

في تلك الفترة طلبت إحدى المجلات العلمية المرموقة من فاراداي شرح اكتشاف أورستد وتأثيره على علوم الكهربائية والمغناطيسية، وبدلًا من الشروع في كتابة مقاله للمجلة، بدأ فاراداي في إعادة جميع التجارب المرتبطة بهذه الظاهرة، بل إنه توصل لاكتشافات جديدة وأرسلها كورقة علمية للمجلة.

في هذه التجارب أكد فاراداي نتائج أورستد لكنه اكتشف أيضًا أن السلك حر الحركة والحامل لتيار كهربائي تؤثر عليه قوة تتسبب في دورانه في دائرة حول مغناطيس قريب.

كذلك وجد في تجربة أخرى أن المغناطيس حر الحركة تؤثر عليه قوة تتسبب في دورانه حول سلك قريب يمر به تيار. وسمى فاراداي هذه الظاهرة "الدوران الكهرومغناطيسي"، فكان هذا الجهاز إحدى صور الموتور البدائية.

وجد فاراداي أنَّ هذه النتائج مخالفة تمامًا لتفسير ولاستون. لكنه أخطأ في عدم ذكر أعمال كل من ديفي وولاستون في هذه الورقة مما أثار حفيظتهما، وترتب على ذلك إبعاده لعدة سنوات عن أبحاث الكهرومغناطيسية.

حاول ديفي أيضًا الوقوف ضد انتخاب فاراداي زميلًا في الجمعية الملكية، وهو منصب علمي مرموق، لكن نظرًا لإنجازاته العلمية وأهميتها تم انتخابه زميلًا في 1824.

في النصف الأول من عشرينيات القرن التاسع عشر، قدم فاراداي عددًا من الاكتشافات في مجال علوم الكيمياء، من بينها حصوله على الكلورين في صورة سائلة، واكتشافه المركب الكيميائي المسمى "البنزين" (وهو مختلف عن سائل الوقود الذي نسميه البنزين المكون من العديد من المركبات، التي منها أيضًا مركب البنزين). ويجب أن نذكر هنا أيضًا أن فراداي شارك جون دانيال (1790 - 1845) في تأسيس علم الكيمياء الكهربائية اعتمادًا على أبحاثه المهمة في الإلكتروليتات أو السوائل الموصلة للكهرباء.

وفي عام 1825 عُين فاراداي رئيسًا لمعامل المعهد الملكي، وبدأ بعدها في تقديم سلسلة من المحاضرات العلمية للعامة، التي يقوم فيها بعدد من التجارب الشيقة.

والغريب أنَّ فاراداي لم يرجع لمساحته المفضلة في أبحاث الكهرومغناطيسية إلا بعد ذلك بست سنوات. ويفسر بعض المؤرخين هذا بانشغاله الشديد في الإدارة والمحاضرات، بل وعلّق فاراداي نفسه على فترة انقطاعه هذه في مذكراته عام 1826 قائلًا إنَّ "كمَّ الأبحاث والكتب المنتجة في الفترة السابقة في الفيزياء والكيمياء ضخم ولسوف يأخذ استيعابها مني وقتًا طويلًا ولا أريد أن آخذ بعضه وأترك الآخر".

تأثير فاراداي ومفهوم "المجال"

في عام 1831، عاد فاراداي إلى مجال أبحاثه المفضل، مقدمًا أهم ما أنتجه في حياته، وهو ما نعرفه اليوم بـ"تأثير فاراداي".

كان اكتشاف المجال المغناطيسي من أهم اكتشافات القرن التاسع عشر

لقد رأينا أن مرور تيار كهربائي في سلك يولد مجالًا مغناطيسيًا. لكن هل يمكن أن يحدث العكس؟ هل يمكننا الحصول على تيار كهربائي من مجال مغناطيسي؟

شغل هذا السؤال فاراداي لسنوات، وبعد سلسلة من المحاولات قام فاراداي بالتجربة التالية: نوصل طرفي سلك موضوع على منضدة وعلى شكل دائرة بجهاز لقياس التيار الكهربائي (أميتر) ودون أيِّ مصدر كهربائي (أو بطارية)، لذلك لا يوجد تيار كهربائي ولن ينحرف مؤشر الأميتر.

الآن نُحضر مغناطيسًا ونحركه في اتجاه الدائرة بسرعة، سنجد مؤشر الأميتر يتحرك معلنًا مرور تيار في الدائرة، ويستمر لفترة وجيزة، ويكون مرتبطًا بحركة المغناطيس؛ كلما زادت سرعة المغناطيس زادت قيمة التيار! أي أنَّ المجال المغناطيسي المتغير يولد مجالًا كهربائيًا في السلك يدفع الشحنات الكهربائية داخله للحركة مولدة تيارًا في الدائرة.

كانت هذه التجربة مع بساطتها من أهم اكتشافات القرن التاسع عشر، ليس فقط لأنها فتحت مجالًا تطبيقيًا ضخمًا للطاقة الكهربائية، لكن لأنها أيضًا شكَّلت بدايةً لفهمنا للقوتين الكهربائية والمغناطيسية بشكل موحد عمليًا ونظريًا. فلا يمكن اليوم اعتبارهما قوتين مستقلتين، لأنّه بتغير إحداهما تظهر الأخرى! أدى تأثير فاراداي بشكل مباشر إلى ظهور الموتور والمولد الكهربائي، بل إنَّ فاراداي نفسه كان أول من صمم المولد الكهربائي الذي نعتبره النموذج الأولي لمولدات القوى التي نستخدمها اليوم في محطات توليد الكهرباء.

الإنجاز الأهم

على كل ما قدمه فاراداي من اكتشافات مهمة في الكيمياء والفيزياء التجريبية، يرى كثير من المتخصصين أن واحدًا من أهم إنجازاته هو تقديمه لمفهوم "المجال" أو ما سماه "خطوط القوى" في الفيزياء.

أثر هذا المفهوم كثيرًا في تطور الفيزياء الحديثة، حسبما صرح بذلك عدد من كبار الفيزيائيين منهم آينشتاين.

لكن ما الذي نعنيه بالضبط بمفهوم المجال؟

في زمن فاراداي كانت مفاهيم الفيزياء عامة متأثرة بمفاهيم علم الميكانيكا التي استخدمت في عدد من الأفرع الأخرى، منها مفهوم القوة: وهي مصدر الحركة ومفهوم الجسيم: وهو كتلة مادية مركزة في حجم صغير. لكن نتيجة لأبحاث الكهربائية والمغناطيسية، كان من الضروري الاستعاضة عن القوة بمفهوم آخر وهو المجال، الذي يعبر عن شدة القوة عند كل نقطة في الفراغ.

فمثلًا إذا حركنا شحنة صغيرة في الفراغ حول أخرى كبيرة فسنجد أنه بالقرب من الشحنة الكبيرة تزداد شدة المجال (أو شدة القوة المؤثرة على الشحنة الصغيرة) وتقل عندما تبتعد الشحنة الصغيرة عن الكبيرة.

سبق فاراداي عصره عندما رأى أنَّ الشحنات التي اعتبرها معاصروه مصدرًا للمجال الكهربائي ما هي إلا مجال كهربائي مكثف، مثل الثلج الذي نعتبره حالة مكثفة للبخار! أي أنَّ المجالات هي البنية الأساسية للعالم الفيزيائي والشحنات ما هي إلا صورة مكثفة من هذا المجال.

هذه الفكرة هي أساس ما نسميه اليوم بنظرية المجال في الفيزياء الحديثة، التي بالفعل تفسر خصائص جميع الجسيمات الأولية مثل الإلكترون والبروتون وغيرهما، كذلك تفسر التفاعلات الكهرومغناطيسية وغيرها.

كان فاراداي أول الداعين لإعادة كتابة الفيزياء باستخدام لغة المجال، وتركت أفكاره أثرًا لدى جيمس كلارك ماكسويل (1831-1879)، أحد أهم الفيزيائيين النظريين بعد نيوتن، الذي صاغ نظريته في الكهرومغناطيسية في ورقة علمية مستخدمًا فيها رياضيات متقدمة وتحت عنوان "عن خطوط القوى لفاراداي".

تم هذا الإنجاز في حياة فاراداي الذي كانت معرفته بالرياضيات محدودة. فكتب لماكسويل مستغربًا كثرة وتعقيد الرياضيات المستخدمة في الكهرومغناطيسية ومتعجبًا/ متهكمًا من قدرة أفكاره على الصمود أمام هذا التعقيد الرياضي!

لو كان فاراداي بيننا اليوم لتعجب أكثر، ليس فقط لصمود أفكاره عن المجال إلى الآن، حتى بعد تسونامي الفيزياء الحديثة العظيم الذي أطاح مفاهيم راسخة في الفيزياء الكلاسيكية، لكن أيضًا لاتساع رقعة تأثيرها على أفرع الفيزياء المختلفة!