جانب من مظاهرات التحرير يوم السبت 5 فبراير 2011

خيالات عمرانية.. لو كانت الثورة نجحت

منشور الخميس 22 فبراير 2024

بعد أيام قليلة من الاعتصام في ميدان التحرير، الذي انتهى بتنحي مبارك في مثل هذا الشهر قبل ثلاثة عشر عامًا، سألتني صديقة "أمنية، هو دلوقتي ممكن نعمل إيه في عمران القاهرة بعد ما الثورة نجحت؟". شغلني السؤال كثيرًا بسبب ما تحمله سنوات ما قبل الثورة من ميراث ثقيل من محاولات تغيير ملامح القاهرة إلى طابع أكثر نيوليبرالية، وضد مصالح سكانها الأصليين.

وفي يوليو/تموز عام 2012 حاولت الإجابة عن السؤال من خلال معرض العمران موقف، الذي شرحتُ خلاله سياسات التطوير العمراني التشاركي، وفشل سياسات الإخلاء والتهجير من المناطق العمرانية بالقاهرة والجيزة. احتوى المعرض على قاعتين؛ واحدة للخرائط والصور، والأخرى لعرض فيلم وثائقي مدته 25 دقيقة نستمع فيه لسكان القاهرة يقترحون تصوراتهم لتطوير مناطقهم، ويشكون من تهجيرهم قسرًا وإلقائهم في شقق سكنية في مدينة 6 أكتوبر البعيدة.

وخلال نفس المعرض، نظمت ورشتي عمل مع خبراء لمناقشة التدهور العمراني في مصر، وآليات الحل. وتولّت منال الطيبي ومحمد عبد العظيم ودينا شهيب وخليل شعث والراحل هاني المنياوي تحليلَ المشكلات واقتراح حلول، بعضها عملوا عليها بالفعل، وبعضها كانت تصورات مستقبلية طبقًا للوضع وقتها.

أحاول هنا رسم ملامح القاهرة كما تصورناها قبل أكثر من عقد، ونحن في فورة حماسنا بانتصار ثورة يناير، ثم أقارنها بزحف النمط العمراني النيوليبرالي، الذي أخذ دفعة قوية منذ 2014 حتى الوقت الراهن.

كما أسعى لإثبات أن النمط العمراني الحالي ليس إلا امتدادًا لتصورات السلطة قبل ثورة يناير، يقوم على ركيزتين أساسيتين؛ تسليع المساحات العامة، وتهجير فقراء المدينة إلى مناطق بعيدة.

خيال المنتصر

بعد مرور ثلاثة عشر عامًا على ثورة 2011، كيف يمكن تخيل القاهرة لو نجح الحراك الثوري في فرض نفسه على عمران المدينة؟ 

الخيال العمراني السياسي لا يعني رسومات لأشكال مبانٍ فحسب، ولكنه تغيير في العملية السياسية المؤدية لشكل اتخاذ القرار، وعلاقة الحاكم والمحكومين، وتغيير في نمط الحكم المحلي أيضًا.

وأول ما تخيلناه حال نجاح الثورة، هو تغيير دور المجالس الشعبية المحلية. نَظَّم قانون 43 لعام 1979 عمل المجالس الشعبية المحلية، التي من المفترض أن تتجاوز مركزية القرار عبر إتاحة مستويات مختلفة من إشراك المواطنين في قرارات توفير وإدارة المرافق والخدمات المختلفة.

ومن المفترض كذلك أن تتولى المجالس الشعبية مسؤولية إقرار المشاريع الخدمية والإسكانية المختلفة، التي تبدأ من شق طريق ورصفه، مرورًا بوضع إشارة مرور، حتى بناء التجمعات السكنية الكبيرة. كما تتولى مراقبة ومراجعة أولويات الإنفاق الحكومي في منطقتها. لكن هذه المجالس حُلّت بعد شهور قليلة من الثورة.

في 4 سبتمبر/أيلول لعام 2011، أصدر رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة وقتها المشير حسين طنطاوي قرارًا بحل المجالس الشعبية المحلية. وهي معطلة من وقتها، رغم النداءات المتكررة بإعادتها بالانتخاب، وآخرها توصيات في الحوار الوطني منذ عدة أشهر، لم تنفذ أي منها.

يمكننا تخيُّل القاهرة حال انتصار الثورة، وبها حكام محليون منتخبون في كل منطقة، يخضعون للمحاسبة ويعملون على تحقيق العدالة الاجتماعية وإنصاف الفقراء، والتوصل لنموذج تشاركي اقتصادي لتوزيع الخدمات والموارد للبنية التحتية.

على الأرجح، فإن نمط توزيع خدمات البنية التحتية في وجود حُكم محلي منتخب يكون أكثر عدالة في توزيع شبكات المياه والصرف والكهرباء، ويتكفل الأهالي ببناء منازلهم، أو ترميمها، أو تحديثها بعض الشيء لضمان امتداد العائلات داخل المناطق نفسها وعدم اضطرارهم لمغادرة قلب المدينة بعيدًا عن روابطهم الاجتماعية والثقافية والسياسية، ومصالحهم المهنية، والاستمتاع بمدينة غنية بالعديد من الامتيازات، أهمها الأمان.

لو نجحت ثورة يناير، كان من الممكن أن نرى مساحات خضراء تعم المدينة، من خلال الإبقاء على المساحات العامة الموجودة بالفعل، مع تطويرها وتحسينها، وإضافة مساحات جديدة إليها.

كان يمكن أن نرى بعض أعمال الهدم في مناطق سكنية بهدف التوسع الأخضر، لكنه لم يكن يتم إلا بالتشاور مع السكان، وضمان إعادة تسكينهم في نفس المناطق والشوارع التي كانوا يقطنونها.

يمكننا أيضًا أن نتخيّل تفعيل فكرة الملكية حسب الاستخدام الاجتماعي للمكان، والمقصود بها تمتع المواطنين بالحيازة الآمنة للأماكن والأراضي التي يشغلونها، حتى وإن لم تكن ملكهم، ما دامت صفتهم فيها تحمل الاستخدام الاجتماعي، ولا يتحصلون منها على مكسب.

أصبحت الميادين مجرد مساحات للعبور السريع بخوف وحذر من رجال الشرطة المنتشرين في أماكن متفرقة

دعت لذلك مبادرة مشروع دستور العمران، الذي تعاون في كتابته وإصداره العديد من العمرانيين والباحثين والحقوقيين العاملين على الشأن العمراني في أكتوبر/تشرين الأول لعام 2013، وقدموه للجنة الخمسين التي أشرفت على كتابة دستور 2014.

ونص دستور العمران على أن "تلتزم الدولة بضمان الحيازة الآمنة لجميع السكان دون تمييز مع الاعتراف بالحيازة العرفية، وينظم القانون آليات تملك المِلك الخاص للدولة بالتقادم المُكسِب للملكية. وتلتزم الدولة بضمان الحقوق التاريخية للشعوب الأصلية في إدارة الأراضي والموارد الطبيعية في مجتمعاتهم، مع الحفاظ على هويتهم وموروثهم الثقافي. كذلك يُحظَر نزع الملكية إلا في حالات المنفعة العامة وبموجب حكم قضائي نهائي".

كل ما سبق لا يمنع ولا يحظر الاستثمار في أماكن عمرانية عبر إنشاء مناطق تدر دخلًا ما على البلاد، بل إن هذا النمط من الاستثمارات موجود تاريخيًا في مناطق وسط البلد وجاردن سيتي والمعادي والزمالك وغيرها، لكنه كان يتم بالتعايش مع سكان هذه المناطق، دون طرد للسكان أو وصمهم لمجرد أنهم لا يملكون المساحات التي يشغلونها.

وسبق أن طبقت الدولة نفسها مفهوم الحيازة الآمنة، عندما قرر الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر تقنين وضع منشية ناصر، وكان ذلك إجراءً سياسيًا صحيحًا لاحتواء هؤلاء المواطنين، والاعتراف بأن منطقةً مبنيةً بالفعل ليست عارًا ولا عبئًا على الدولة.

واقع الهزيمة 

في نوفمبر/تشرين الثاني لعام 2013، صدر القانون رقم 107 لمنع التظاهر في مصر، وهو قرار سياسي، ولكن له تأثيرات عمرانية واسعة المدى. يحظر القانون التجمهر الشعبي بما ينطوي عليه من فعاليات، وعلى أثره أصبحت الميادين مجرد مساحات للعبور السريع بخوف وحذر من رجال الشرطة المنتشرين في أماكن متفرقة.

سهل هذا الحظر من تغيير ملامح مياديننا خلال السنوات الأخيرة؛ ميدان التحرير، ميدان رمسيس، ميدان الحجاز، والعديد غيرها، لتصبح أماكن قفراء، تحتوي على كثير من السيارات، ولكن لا يستطيع المواطنون التجول فيها.

لو كانت الثورة نجحت لتوفر للمشاة والنساء بيئة عمرانية آمنة تمنحهم الحق في السير والتجول والتعبير عن الرأي

ومع نزع المساحات الخضراء من الميادين، وإحلال الكتل الخرسانية مكانها، صارت أماكن الراحة في الميادين منفّرة بسبب ارتفاع حرارة مقاعد الجلوس العامة، وهو نوع من القمع غير المعلن أيضًا.

ميدان الحجاز بين عامي 2018 - 2020

كانت تحولات الميادين خلال السنوات الأخيرة واحدةً من ملامح انهزام الثورة. وحظيت تلك التحولات العمرانية بمساندة قوية من خطاب السلطة الحاكمة، التي وضعت سكان مناطق مثل ماسبيرو محل لوم، لمجرد تمسكهم بالبقاء في أماكنهم. وهو خطاب مبني على تصورات تحمل احتقارًا دفينًا تجاه قطاعات واسعة من المجتمع.

وامتدت حالة القمع في الميادين إلى تقييد حرية النساء في الحركة والتسكع، أصبحت المدينة خانقةً بشكل أبوي وذكوري مستمر، وأحيل هنا لمقال ريم شريف حول المدينة التي لا تتسكع فيها النساء.

من أشكال القمع تلك عدم وجود مسارات آمنة للمشاة، خصوصًا النساء والأمهات والأطفال، وهم من تحتاج حركتهم مساحات مريحة وحاضنة للمشي في حياتهم اليومية، بالإضافة لغياب الإنارة عن بعض أنحاء المدينة.

كما تعاني النساء من غياب دورات المياه العمومية المناسبة، فهن يحتجن إلى مساحات آمنة للاعتناء بنظافتهن والأطفال. ولا يمكنهن الاعتماد على المقاهي المسموح فيها باستخدام دورات المياه الآمنة للعملاء فقط. كما لا يمكنهن الاعتماد على مراحيض المقاهي الشعبية أو محطات البنزين، مثلما يفعل الرجال، لأنها تمثل خطرًا صحيًا كبيرًا.

لو كانت الثورة نجحت لتوفرت للمشاة والنساء بيئةٌ عمرانيةٌ آمنةٌ تمنحهم الحق في السير والتجول والتعبير عن الرأي.

الجذور تعود لجمال مبارك

انقلاب الأحلام إلى الكابوس الذي نعيشه حاليًا يعود بشكل رئيسي للمخطط العمراني الذي تتبناه الدولة منذ بداية عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهو مخطط تنمية مصر المستدامة 2030، الذي  يتشابه إلى حد كبير مع مخطط القاهرة 2050، الذي أُعدَّ خلال حقبة صعود جمال مبارك.

لا يعني ذلك فقر أفكار الحكومة الحالية، لأن المخطط القديم ساعدت في تصميمه كوادر داخل الدولة كانت تتبنى تصورات أمنية وعمرانية تسعى إلى تضييق الخناق على مساحات التجمع ونقل مباني الدولة المهمة بعيدًا عن مساءلة الجماهير، مع تسليع السكن حتى وإن كان على حساب تهجير الآلاف من مساكنهم، وهو التصور نفسه الذي لا تزال الحكومة تتبناه حتى وقتنا الراهن.

وفي سبيل تيسير الطريق نحو العاصمة الإدارية الجديدة، أُنشئت عدد من المحاور السريعة داخل وخارج المناطق السكنية، ومُحيت العديد من المناطق الخضراء، سواء الصغير منها الذي يحتل جانبي الطرق، أو الجزر الفاصلة بين محاور حركة السيارات، بل والأضخم منها مثل الحدائق السكنية الداخلية أو العامة، مثل مساكن شيراتون، أو حديقة المريلاند وغيرها.

كما أخليت العديد من المناطق السكنية بدعوى أنها غير آمنة أو عشوائية، وأزيلت بالكامل من على الخريطة العمرانية الاجتماعية السياسية للتكوين المديني والطبقي للقاهرة.

التهجير سياسة دولة

عادة ما يغلب الطابع الجمعي لتعريف الخريطة الشخصية للحركة في المدينة، حسب مناطق نرتبط بها لظروف عدة، وفي الفقرات التالية سأسرد بعضًا من حكايات التهجير القديمة التي شكّلت تاريخ القاهرة قبل الثورة، ومثّلت جذور سياسات التهجير التي شهدناها بعدها.

يوم 20 مارس/آذار من عام 2007، احترقت قلعة الكبش، وعلى أثر الحادث انهارت نحو 80 عشة ووحدة سكنية، وتشردت مئات الأسر. تظاهرت العديد من الأسر أمام مبنى المحافظة لشهور طويلة دون الحصول على أي مساكن بديلة رغم الكارثة التي حلت بهم.

من ظفر بالتعويض، انتقل إلى حي النهضة في مدينة السلام، التي تبعد عن مسكنه الأصلي في قلعة الكبش حوالي 30 كيلومترًا، أي نحو ساعتين في المواصلات العامة.

وفي 6 سبتمبر/أيلول 2008، تهاوت مئات العشش تحت صخرة الدويقة في القاهرة، ومات معها ما يزيد عن المائة مواطن. وبالمثل تم تعويض الناجين من هذا الحادث المروّع بشقق تبعد كثيرًا عن موطنهم الأصلي، في مدينة 6 أكتوبر أو النهضة.

تكرر هذا النمط من التهجير، فبين عامي 2008 و2010 نقلت نحو 13 ألفًا و530 أسرة من مناطق داخل القاهرة إلى مدن صحراوية.

خريطة الأسر المُهجرة ومسارات تهجريهم في القاهرة الكبرى – الخريطة من عمل الكاتبة (العمران موقف، 2012)

وخلال هذه السنوات السابقة على الثورة، تحولت أعمال التهجير العفوية، التي نشأت رد فعل لكوارث غير متوقعة، مثل احتراق القلعة أو انهيار الصخرة، إلى سياسة ممنهجة تهدف إلى تهجير فقراء المدينة للصحراء، وتسليع قلب المدينة وأطرافها.

من مظاهر مأسسة عملية التهجير إصدار رئيس الجمهورية في 2008 قرارًا بإنشاء صندوق لحصر المناطق العشوائية وإزالة المباني والمنشآت المقامة في المناطق غير الآمنة. وخلال نفس الفترة تقريبًا كان رئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف يستمع إلى تصورات مشروع تنمية محور القاهرة.

وفي أواخر عام 2008، تم تسريب أكثر من مائة صورة مرتبة في عرض رقمي دقيق عن القاهرة وأحيائها وخطة تطويرها ضمن مشروع يسمى بالقاهرة 2050. ودار جدل خلال 2010 حول إشكاليات المشروع باعتباره خطة لإعادة تشكيل مصر نحو وجهة نيوليبرالية.

وخلال الثورة احترقت العديد من المخططات، مثلما احترق مبنى الحزب الحاكم، لكن تم استعادتها تدريجيًا لتكون استراتيجية عمرانية تتبناها الدولة في الوقت الراهن.