دار الفتى العربي
مقطع من غلاف "ألفائية فلسطين" لـ محيي الدين اللباد، إصدار: دار الفتى العربي، 1986

ثورة فلسطينية صغيرة للأطفال

منشور الثلاثاء 26 مارس 2024

قبل بداية شهر رمضان بيومين، أعدتُ نشر ملصق محيي الدين اللباد "ألفبائية فلسطين" على فيسبوك. حكيت مجددًا حكايتي مع هذه الألفبائية، ومدحتُ الأهل الذين كانوا يهدون أبناءهم هذا النوع من الملصقات، لنعلقها في غرفنا، ونحفظها.

ألفبائية فلسطين، دار الفتى العربي ، 1986

الألفبائية الصادرة عن دار الفتى العربي في القاهرة عام 1986، ينهيها محيي الدين اللباد برسمٍ لنبات اليقطين/قرع العسل، ليكون تعريف حرف الياء عند الأطفال.

فاجأتني هذه المرة صديقة فلسطينية من حيفا، بافتراضها أنَّ الفنان احتار غالبًا في اختيار الشيء الذي سيربطه بهذا الحرف. وأضافت أنه ربما فكر في وَضْع اسم "ياسر" بدلًا من اليقطين، ورَسْم صاحب الاسم، ياسر عرفات، مؤسس منظمة فتح، لكنه تراجع لسبب ما.

لا أستبعد أنَّ اللباد الكبير(*) كان معجبًا في منتصف الثمانينيات بعرفات/أبو عمار، ومؤمنًا به وبأفكاره وبمساره. وأن دار الفتى العربي كانت تابعة، بشكلٍ أو آخر، لمنظمة فتح. لكنني أشكُّ في أنه فكر أن يربط أيَّ حرف بشخص محدد. فقد كان سيكسر وقتها وحدة أسلوب ألفبائيته، وكانت ستتحول إلى ملصق دعائي يمجد شخصًا، لا فكرةً أو قضيةً.

افترضت صديقتي أنَّ اللباد فكّر في اختيار عرفات لحرف الياء بدلًا من اليقطين، وإن رأت أنَّ اختتام الألفبائية بكلمة "يُعاد" أفضل، ليكون الملصق دائريًا، فحين نصل لحرف الياء، نبدأ في تأملها من جديد.

كلمة "يُعاد" ليست اسمًا، بل هي أقرب لقرارٍ موجَّهٍ للمتلقي، أو تقريرٍ بحقيقةٍ ما، ليس لها ما يُجسِّدها رسمًا. لكنَّ المشكلة الأكبر تكمن في قَدَريَّة الإعادة نفسها. هل كان اللباد يريدنا أن نُعيد القراءة من جديد؟! أن تتكرر هذه الألفبائية بلا نهاية، وتضمن بذلك خلودها؟!

زهو الألوان القديمة لفلسطين

تُعرَّف بعض حروف الألفبائية بما ليس فلسطينيًا خالصًا، بأشياء حاضرة في أغلب الثقافات واللغات. فمن المحتمل جدًا أن تقدم ألفبائية إنجليزية للأطفال كتابًا للتعريف بحرف B، مثلما فعل اللباد مع حرف الكاف، وحروف أخرى؛ أخضر، ثوب، ذرة، ضفيرة، طبل، نخلة، أو اليقطين الذي لم يعجب صديقتي كختام، ولم يعجبني ولا يزال، لسبب مرتبط بالإيقاع، فحين كنت أرددها طفلًا من الذاكرة، كان يصيبني شعور مبهم بانكسار الإيقاع مع الوصول لحرف الياء. لكنني لم أفكر، ولن أفكر، في بدائل عن اليقطين.

يمنح اللباد ما يستطيع من المفردات، إن استطاع، ملمحًا فلسطينيًا، مثل أن يرسم الثوب فلسطينيًا تقليديًا، لتنسجم مع نوعين من مفردات تقديم الحروف داخل عالم فلسطيني؛ الأول هو تلك الأشياء التي تستدعي في خيالاتنا ووعينا، نحن من تُشكِّل لديهم فلسطين قضية حميمية، ما هو قديم ومتخيل وسابق لزمن المذابح الكبرى الحالي، فيستعيد مفردات ثبتت في أرواحنا فلسطينيًا، لنكملها نحن في خيالنا رغم أنها لا تظهر في الملصق.

فحين نرى البرتقال نستعيد برتقال يافا، الذي سرقته إسرائيل ونسبته إليها.

وتصبح الجذور رمزية لتمسك الفلسطينيين بأرضهم، وانتمائهم لها.

لتتوالى المفردات الحاضرة في السردية الفلسطينية؛ فالدار المرسومة هي الدار البعيدة، أو الدار الأخرى المدمرة، الغائبة عن الرسم.

شجرة؛ زيتون، أرض، عَيشٌ سالِمٌ.

ظرف؛ خطاب من الأحباب في البلد البعيد، أو من اللاجئ المطرود.

عَلم؛ عَلم فلسطين.. العَلم الممنوع.. العَلم بألف لام التعريف، حتى عند من ينفرون من الرمزيات الوطنية الممثلة في علمٍ ونشيدٍ، لكنهم ينتسبون لفلسطين وجدانيًا.

وتكون خارطتها اكتمالًا لكلمة وطن.. وطننا.. واكتمالًا لحرف الواو.

لكن كابوسية الـ"يُعاد"؛ هذا المصير الحتمي المتكرر، تظهر في المفردات المنتسبة للنوع الآخر، المرتبطة مباشرةً بفلسطين القضية والنضال، وليس البلد، بكل رمزياته؛ الحطة الفلسطينية كرمز للعمل الثوري والمسلح لهذا الفدائي الذي يجسِّد حرف الفاء. وتحضر أدواته، نراها في حروف أخرى: قنبلة، وسيف، ومسدس، ورصاصة. بل نراه قبل أن يصبح فدائيًا، نراه في مثل أعمارنا ونحن نتعرف على ألفبائية فلسطين، شبلًا سيصبح فدائيًا حين يكبر، وحلمنا أن نكون مثله ونزامله، ويكون لدينا حرف الهاء، هدفه/هدفنا.

فكم جيل عليه أن يعيد ويعيد الألفبائية، وأن تشكَّل حياته ومساره ولغته، بدلًا من أن تتحول مفردات أطفال فلسطين لأشياء عادية، فيكون الهاء هدهدًا، والسين سُلَّمًا أو سنبلة، وبدلًا من رصاصة نجد رسمةً لريف، ويغيب المسدس لتحضر المنارة؟!

الحنين للألوان الزاهية

شكلت الألفبائية المنشورة في منتصف الثمانينيات، وغيرها من الصور والملصقات في غرفتي ببيت أهلي، والمرتبط أغلبها بانتفاضة أطفال الحجارة (1987 - 1993) جزءًا أساسيًا من طفولة لا تنظر للداخل، بل ترى ذاتها، والبيت، والشارع، والحي، والعالم، ككلٍّ متحدٍّ في انسجام. ولا تتصور هذا الكل معزولًا عن فلسطين ومفرداتها.

في كل مرة تستعيد ذاكرتنا هذا الملصق وغيره يتولد هذا الحنين لذلك الماضي ولصور أخرى

أكتب هذه الكلمات في اليوم الأول من شهر رمضان؛ محفز إضافي للحنين إلى ماضٍ انتهى، ولم تتبقَّ منه إلا آثار قليلة. في رمضان بعيد، أحضر المناضل اليساري رياض رفعت شابين من الفريق الغنائي الفلسطيني عباد الشمس، إلى شقة صغيرة في الحي السابع بمدينة نصر، ليغنيا لنا، لنعيش ثورة فلسطينية صغيرة مناسبة لحجمنا كأطفال(**).

انتهى الحفل، وركب الشابان عربة رياض ليوصلهما لمنزليهما. وقفنا في الشارع ملتفين حول العربة، نظرا إلينا من خلف الزجاج بوجهين جادين فيما نتطلع نحن إليهما بانبهار. تصورنا أنَّ هذه الجدية فلسطينية خالصة، فهما عائدان للنضال في بلدهما فلسطين بعد الحفل الرمضاني. تصورناهما فدائيين، فيما كانا في الحقيقة عائدين لحي قاهري آخر. ففلسطين لم تكن على مرمى حجر مثلما تصورنا.

تنتمي ألفبائية فلسطين لزمنٍ آخر، قديمٍ، كانت مذابحه متفرقة وأصغر، وللنضال والمقاومة بكل ما يحملانه من معانٍ رومانسية وبطولية حضور به، قبل أن نرى الدم على الهواء مباشرة بفضل الحداثة. زمن كنا نتصور فيه أنَّ فلسطين قريبة، سننالها، قبل أن يتمدد الزمن نفسه وتتراكم سنواته وعقوده.

وفي كل مرة تستعيد ذاكرتنا هذا الملصق وغيره، يتولد هذا الحنين لذلك الماضي، ولصور أخرى، رومانسية بدورها عن فلسطين وكل ما يُنسب إليها. فألوان اللباد الكبير زاهية، على عكس مفردات الواقع الرمادي والمظلم الحالي، الذي يتلون فقط بوهج القنابل الإسرائيلية وما تنتجه من لون أحمر؛ من دم.

الحاضر كمقبرة

لنودع الحنين ونعود لما هو آني. يؤكد الشعار الذي يهتفه الآلاف في شوارع المدن الأوروبية أنَّ "غزة ستكون مقبرة الصهيونية". نردده، بيأس أو بيقين، فيما تتحول غزة لمقبرة شعبها، وفيما تتوقف وسائل إعلام أوروبية كبيرة عن تسمية المكان باسمه في نشرات الأخبار، "غزة"، وتعدله لـ"ما تبقى من غزة".

نظن أحيانًا أن الصورة المؤلمة هي تلك التي تقدم شيئًا مؤلمًا بمباشرة ووضوح. فإن كانت المذبحة هي ما تشغلنا وتؤلمنا، فستكون الصورة الأكثر إيلامًا مرتبطة بصور الضحايا، وبالذات الأطفال. صور تحضر فيها مفردات الدم والأشلاء والدمار والجروح.

ولكن الصورة الأكثر إيلامًا ربما هي صورة نقيض ذلك؛ صورة للبهجة تستدعي الألم الواقعي والحاضر، رغم أننا لا نراه باكتماله فيها. مثل تلك المنتشرة في التقارير التليفزيونية والصحفية عشية شهر رمضان، للأهل، أو من تبقى منهم، يزينون مع أطفالهم، أو من تبقى منهم، الممرات الصغيرة بين خيامهم في وسط هذا الدمار الكبير، لاستقبال شهر رمضان "فيما تبقى من غزة".

الصورة مظلمة، لكنَّ الأطفال مبتهجون برمضان وهو يدخل عليهم، فلكلِّ جيل من الأطفال رمضانه المبهج أيًا كان الزمن والسياق. ويتولد الشعور المؤلم هنا من غياب مفردات الألم المباشرة، ومحاولة خلق الفرح رغم الموت والدمار والدم الكثير. يتولد باستدعاء ما نعرف أنه يشكل محور حياة هؤلاء الأطفال المبتسمين والمتطلعين للكاميرا، موتهم ذاته.

كيف تمتزج كل هذه المفردات معًا!! ملصق الألفبائية بصورة الأطفال والأهالي الذين يزينون من أجل رمضان خيامهم المعرضة للقصف فيما تبقى من غزة التي ستصبح مقبرة الصهيونية! لا بد وأن ينتج هذا المزج صورة مرعبة، لم نرها بعد، لشكل هؤلاء الأطفال حين يشيخون مبكرًا، وربما قبل أن يتعرفوا على ألفبائية فلسطين التي رسمها فنان مصري من أجلهم، ومن أجل غيرهم من الأطفال العرب، أو مرة أخرى؛ "مَن سيتبقى منهم".


* يُستخدم "اللباد الكبير" لتمييز محيي الدين اللباد عن ابنه، الفنان التشكيلي أيضًا، أحمد اللباد.

** ثورة للأطفال هو أحد المشاريع التصويرية لدار الفتى العربي.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.