صفحة المدرسة- فيسبوك
طالبات مدرسة نشا (محافظة الدقهلية) بالإسدال في طابور الصباح، نوفمبر 2022

فرط التدين وفرط الوطنية

منشور الأربعاء 27 مارس 2024

رمضان كريم، شهر الصبر وسعة الصدر، لكنني لا أراهن على سعةٍ غير مضمونة، فأقرُّ بأنَّ ما يرد في هذا المقال بريء من المساس بالدين أو انتقاد أحدٍ بعينه في اختياراته أو مناقشة العقيدة، فالعقائد لا تناقش، وإنما هو بعض الملاحظات عن تحولات السلوك العمومي المصري، وارتباطها بما يمكن وصفه بالنفاق الاجتماعي، واتساع المسافة بين التدين والإيمان، وابتعاد معاملات يغلب عليها فرط التدين عن روح الدين؛ فارتفع شعار "هذه نَقرة وهذه نَقرة" في التزام شكلي مبالغ فيه بالطقوس، وارتكاب جرائم تتجاوز الشخصي وبعضها يُصنَّف كجنايات، لكنها نقرة أخرى قد تنسحب أيضًا على أجواء مخيفة، تفرض السلام الوطني في مناسبات غير لائقة بهذا الرمز.

أيُّ أجواء، في أيام لا يعلم رعبها إلا الله، تفرض النشيد الوطني في افتتاح أنشطة ثقافية ومهرجانات الفنون؟ يصمت العرب الحاضرون، ويندهش الأجانب. البعض يصارح بأنَّ فرض إجراء ظاهره فرط الوطنية ينتهي بالابتذال، ويذكِّر بأجواء مغامرات ومقامرات أودت بأصحابها، بعد استمراء عمليات الشحن النفسي تمهيدًا للحروب، وفرز من يتكاسل في ترديد النشيد، وتهمد همته؛ فلا تنتفخ عروق رقبته بالقدر الكافي.

لا تدعو النهايات إلى التفاؤل

كان عمرو عبد السميع مريضًا بثورة 25 يناير، أدمن تسميتها "عملية يناير" في عموده في "الأهرام". يئست منه، وآمنت بمعنى الثورة وبأنها عظيمة، بدليل أنها رغم استضعافها تؤذي داعمي الطغاة. في حياة الدكتور عمرو، علقت على حالة إبلاغ تهدد لاعبين.

ففي 31 أكتوبر/تشرين الأول 2017، كتبتُ في صحيفة "العرب" اللندنية، عن الحالة البعثية، مقالًا عنوانه أكبر من فساد، أقل من هزيمة. في ظل الاحتفالات آنذاك بتأهل مصر لكأس العالم لكرة القدم للمرة الأولى منذ عام 1990، انشغل الدكتور عمرو عن المشاركة في أجواء الفرح بقضية أثارت انزعاجه، وكتب أنه أثناء عزف النشيد الوطني، "فوجئت باللاعبين محمد عبد الشافي وصالح جمعة لا ينبسان ببنت شفة". انسَ تعبير "ببنت شفة" وقد ابتذله الاستخدام المجاني، ولم تفلح حماسة الهتاف ولهيب التشجيع في إذابته، وتذكّر تأكيد الصحفي أن "شريط المباراة موجود لمن يرغب في التأكد". الكاتب فسّر الامتناع بأنه "أخطر الخطر".

قلت آنذاك "قد يكون هذا السلوك تطوعًا، ولكنه دالٌّ جدًا، وإذا مددناه على استقامته فسوف ينتهي إلى حالة بعثية لم تفلح هزيمة تلاها حصار في النجاة منها أو حالة ناصرية أنقذتها هزيمة ما زالت ارتداداتها قوية، ونعاني إلى الآن آثارها". ولم تتأخر الخفة.

فمن فوق أسوار المدارس قفز في بدايات 2018 نشيد سلاح الصاعقة "وقالوا ايه" بعد عزف السلام الوطني. ألبسوهم الزيَّ العسكري في طابور الصباح، وأجبروهم على ترديد نشيد الصاعقة، بصيغة رجولية آلية، خشنة، لا تخلو من رغبة في الانتقام، تناسب الظروف الميدانية القاسية لرجال الصاعقة، ولكنها تسلب روح الطفولة، بتكوين جيل يحفظ ولا يفكر، يتوعد ولا يحاور.


تلك الصرعة امتدت إلى المستشفيات بعد أشهر بقرار وزيرة الصحة إذاعة نشيد "بلادي بلادي" في المستشفيات. السلام الوطني لم يحسّن الخدمة الصحية؛ فالنفاق الوطني يخفي عوارًا سياسيًا واجتماعيًا ونفسيًا، ويخلق جيلًا من الخائفين والوشاة والمزايدين المراهنين على ديماجوجية تغازل السلطة والجماهير.

كان الهوس الوطني عرضًا لأمراضٍ نتائجها كارثية. النظام النازي اعتبر "ألمانيا فوق الجميع"، بمؤهلات عسكرية وقاعدة علمية افتقرت إليها النسخة الساداتية وهي ترفع شعار "مصر فوق الجميع". واختار حسني مبارك شعار "مصر أولًا". ولا تدعو النهايات إلى التفاؤل. والتنطع الوطني ظاهرة صوتية، لا توقف الكرة المتدحرجة في منتصف المنحدر.

استئناس القبح

حضرتُ افتتاح مهرجان المربد الشعري في البصرة عام 2017 بتلاوة القرآن. وبالقرآن يفتتح مهرجان السينما في إيران. تقليد لا يضيف شيئًا إلى جلال الذكر الحكيم. وما أقسى أن يجتمع في مكان واحد تنطعان؛ وطني وديني. الإصرار على السلام الوطني في غير محله ينزع عنه الهيبة. والحرص على مظاهر التدين، خصوصًا الرمضانية، يجعل شهر الصيام مناسبة لمضخات الفتاوى الأهلية في ميكروفونات الزوايا والمساجد.

لا أنسى مقال "ميكروفون الجامع" للدكتور فؤاد زكريا. نشره في مجلة "إبداع" أكتوبر 1991، وأعدتُ نشره في الأهرام المسائي ومجلة الهلال. وخلال هذه العقود نمت الميكروفونات وتناسلت، وزاد نصيب المسجد الواحد والزاوية الصغيرة على عدة ميكروفونات لا تتوقف.

استنادًا إلى عملي محرر حوادث وقضايا، حين كانت في مصر صحافة، فلا يخفى عليَّ أنَّ بَرَكة رمضان تشمل الجرائم أيضًا، فلم ينخفض منسوبها عددًا ونوعًا في شهر يتسم بالإفراط في التظاهر بالتدين. لا يريد سائق الميكروباص خفض صوت القرآن. هو لا يسمعه، ويسبّ دين مسلمٍ لأتفه الأسباب. معذور المتنطع، وهو إزاء فريضة تختلف عن فرائض وطقوس يمكن للغير أن يلاحظها، "إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به"، فالله وحده يعلم الصائم من غير الصائم. والمتنطع يجد حلًا في هوامش الصيام، بدوام كامل لميكروفون الزاوية والجامع، وإذاعة صلاة التراويح ومدّ الصفوف إلى رصيف المسجد. وفي نهايته كوم زبالة لا يبالي به المصلون.

الإيمان غير التدين. المؤمن مطمئن القلب، يحاسب نفسه ويعنيه الانتصار عليها، ويغنيه هذا الهم عن مراقبة الآخرين والحكم عليهم وتقرير مصائرهم في الآخرة. والمتدين يراقب الآخرين، ويشغله التظاهر بالطقوس ولو أمام نفسه.

زرتُ أقارب سرعان ما واصلوا كلامًا قطعه دخولي، ثم انقسم الكلام إلى أحاديث جانبية ثنائية، على خلفية تليفزيون يذيع صلاة التراويح من الحرم المكي، ومن غرفة داخلية تأتينا تلاوة مصرية من إذاعة القرآن الكريم. سألتهم: إلى أي تلاوة يستمعون؟ فضحكوا، لا هذه ولا تلك. المهم استمرار التظاهر بالتدين، ولو اقترن التشدد بقطع صلة الأرحام، وعدم التسامح. المهم تدفُّق التلاوة، المهم السلام الوطني في المهرجانات، وفي مستشفيات فقيرة الخدمات.

ماذا يستفيد المرضى في مستشفى أنصت أطباؤه بخشوع إلى السلام الوطني، وهم يفتقدون الكفاءة وتنقصهم الإمكانيات؟ الإتقان نفسه دين. ولا يعلن المتصوف أو الزاهد عن زهده، ولا يشغله انتباه الناس إليه، ولا يباهي بصفاء قلبه وترفعه عن الصغار والصغائر، "ربُّ أشعثَ أغبر لو أقسم على الله لأبره".

وللمسلم، ولغيره، حرية المبالغة في التظاهر بالتدين، ما لم يؤذِ أحدًا، ويقتحمه بفضول المحاسبة، ويضايقه في مجاله الخاص. وليت التنطع يقتصر على السلوك الشخصي، ولكنه سيؤدي إلى ظاهرة غير مستحبة، يتعايش فيها جيل جديد مع انفصام الشخصية بين الجوهر والمظهر. سيألف صعود التدين، مع استئناس القبح، واستحلال فوائض الفساد، وضيق الصدر بالاختلاف.

لعل الصدور، في رمضان، تتسع لهذا المقال.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.