تصميم: أحمد بلال، المنصة 2024
الحرب على غزة وموقف الدول العربية

حرب غزة في حقل المتناقضات| أزمة دول الاعتدال العربي

منشور الجمعة 10 مايو 2024

تشمل دول الاعتدال العربي مصر والأردن وعددًا من دول الخليج، وهي تهدف، على خلاف موقف الممانعة، إلى حل القضية الفلسطينية سلميًا. أقرت الدول العربية منذ عام 2002 "مبادرة السلام العربية" التي طرحتها السعودية في قمة بيروت. خلاصة المبادرة فيما يتعلق بفلسطين، هي السلام والتطبيع الشامل بين إسرائيل والدول العربية بشرط إقامة دولة فلسطينية على حدود 4 يونيو/حزيزان 1967.

ومؤخرًا، أُعلِن على لسان بعض القادة العرب شرط إضافي، هو أن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، بما يُبطِل حجة إسرائيل القائلة بأنَّ قيام دولة فلسطينية سيكون أكثر تهديدًا لإسرائيل من "إمارة حماس".

تراجع القضية الفلسطينية

تاريخيًا، ظلّت القضية الفلسطينية تمثل القضية/المشكلة الكبرى لعديد من الدول العربية طيلة عقود، واستنزف الصراع مع إسرائيل جهودًا جبارةً، وحروبًا عديدة، بخسائر اقتصادية وبشرية هائلة، وأنتج أزمات دولية، وخططًا رسمية للمقاطعة شملت دولًا غربيةً وشركات عالمية، ودعاية مكثفة، وصلت إلى ترويج أفكار مضحكة، من قبيل وجود خطة إسرائيلية للتوسع لتمتد من النيل/مصر إلى الفرات/العراق.

لكن القضية تراجعت على سلم أولويات كثير من الدول العربية بفعل تطوّرين مهمين في المنطقة: أولهما تغير خريطة الصراع العسكري مع إعلان تفاهمات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978 التي أفضت في العام التالي إلى توقيع معاهدة السلام مقابل استعادة سيناء، واتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل عام 1994. أما سوريا، ولها أراضٍ محتلة في الجولان، فلم تعد قادرةً على مقارعة إسرائيل، حتى قبل الدمار الواسع الذي لحقها في أحداث ما يُعرف بالربيع العربي.

أما التطور الثاني، فكان تراجع الأهمية النسبية للقضية الفلسطينية بالنسبة لعدة دول خليجية، تمثل الثقل الأكبر فيما يسمى محور الاعتدال العربي، بسبب مواجهتها تهديدًا مصيريًا آتيًا من إيران منذ ثورة 1979 وقيام الدولة الإسلامية بزعامة الخميني، حيث أعلنت عزمها على نشر "الثورة" الإسلامية في المنطقة.

تفاقم هذا الخطر مع نجاح إيران في الاستفادة من ظروف إقليمية مختلفة في بناء أو تعزيز وتمكين القوى الميليشياوية التي تناولها المقال السابق، وما ترتب على ذلك من اكتساب مواقع عديدة في المنطقة: في لبنان ثم سوريا فالعراق فاليمن.

وفشلت السعودية ودول الخليج في إيقاف هذا التمدد: فشلت الحرب التي أعلنتها على الحوثيين عام 2015 بعنوان عاصفة الحزم، بحيث اضطرت في النهاية إلى التودد إلى إيران لإبرام اتفاق "لوقف دائم لإطلاق النار" عام 2023، وهو ما يعني أن يظل حكم الحوثي لمناطق واسعة في اليمن سيفًا إيرانيًا مسلطًا على دول الخليج، ووسيلة ابتزاز لها.

كما فقدت السعودية نفوذها التقليدي في لبنان، فتوقفت عن دعم الحكومة اللبنانية ماليًا. فإذا أضفنا إلى ذلك المشروع النووي الإيراني، الذي لا يزال يثير قلقًا إقليميًا قبل أن يكون دوليًا، سيبدو تراجع الوزن النسبي للقضية الفلسطينية عند معظم دول الخليج طبيعيًا.

على هذا النحو، أصبح الصراع الرئيسي في المنطقة بين دول وميليشيات مدعومة إيرانيًا، خصوصًا بعد تخلي الخليج عن الميليشيات السُنية التي دعمها في محاولة فاشلة لإسقاط النظام السوري الموالي لإيران بعد قيام ثورة 2011.

ولما كانت إيران تعادي إسرائيل صراحةً، نشأت مصلحة موضوعية مشتركة بين دول الخليج وإسرائيل تتمثل في مواجهة الخطر الإيراني. تبدّى هذا التوافق في المصالح في رفض الاتفاق النووي الذي أبرمته إيران مع السداسية الدولية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما، ثم في إبرام اتفاقيات تطبيع بين إسرائيل وبين دولتي الإمارات والبحرين في عهد خَلَفه ترامب. كما عقد المغرب اتفاقية مماثلة مقابل اعتراف الولايات المتحدة بحقه في ضم الإقليم الصحراوي الجنوبي.

أصبح الصراع الرئيسي في المنطقة بين دول وميليشيات مدعومة إيرانيًا

كانت السعودية أيضًا ماضيةً في هذا الطريق، لرغبتها في الحصول على حماية أمريكية من الخطر الإيراني، غالبًا مع إضافة شرط يتعلق بالبدء في عملية سلام تسمح بإقامة دولة ما للفلسطينيين. وهو ما كان يمثل بطبيعة الحال تهديدًا لقدرة إيران على التمدد في المنطقة، وتغييرًا في ميزان القوى في منطقة الخليج.

في ضوء ذلك يمكن ترجيح القول بأن وقف هذا المسار كان أحد الدوافع الأساسية، إن لم يكن الدافع الأول، لهجمة السابع من أكتوبر.

أزمة دول الاعتدال العربي مع حرب غزة

في سياق الصراعات الأساسية المذكورة في المنطقة، أتت هجمة السابع من أكتوبر لتدفع القضية الفلسطينية مجددًا إلى مقدمة الأولويات، ولو مؤقتًا. وبالتالي توقف، أو تأخر، قطار التطبيع بين إسرائيل والسعودية (فما زالت المساعي الأمريكية في هذا الشأن مستمرة). اضطرت دول المنطقة، بالذات دول الخليج المعتدلة، إلى إعادة حساباتها، وأصبح تحقيق نوع من التسوية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي مطلبًا أساسيًا للسعودية مقابل التطبيع.

لا تحمل معظم دول المشرق العربي الكثير من الحب لحماس، إذا أردنا تعبيرًا مخففًا، لعلاقتها الوثيقة حاليًا بعالم الميليشيات التابعة لإيران. هذه الدول أقرت رسميًا على أي حال منذ عام 1974 أنَّ منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني؛ وفي القمة العربية الإسلامية الذي عُقدت في الرياض في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بشأن الحرب، طالبت الدول العربية بوقف إطلاق النار، لكن حماس لم تُذكر، بخيرٍ أو بشرٍّ، في البيان الصادر عن القمة.

لكن حتى أقل الدول العربية حبًا لحماس تظل مهتمة بوقف الحرب في غزة من أجل تجنب نتائج سلبية قد تنتُج عن اكتمال سيطرة إسرائيل عسكريًا على قطاع غزة.

أخفُّ هذه النتائج تقاذف الاتهامات المتوقَّع لاحقًا بشأن المسؤولية عن الكارثة الإنسانية الحاصلة هناك، وما قد يرتبط بذلك من إثارة اضطرابات داخلية في دول عربية مختلفة، اعتمادًا على مشاعر التعاطف الطبيعية مع أهل غزة. وهي اضطرابات سيدعمها بالضرورة المعسكر الميليشياوي الإيراني لبناء، أو لتدعيم، قوى موالية له في هذه البلدان، على أساس الطعن في مشروعية النظم الحاكمة فيها.

هذه ليست إمكانية متخيَّلة، فقد تكررت دعوات قادة حماس للشعوب العربية "للزحف" على فلسطين، وظهر بالفعل قطاع من الرأي العام في بلدان عربية عديدة يفترض أن الدول العربية الواقعة على الحدود مع إسرائيل، على الأقل، يجب أن تحرر القدس كمكان إسلامي مقدس، أو أن تحرر فلسطين كبلد وشعب (حسب الميول). وهي دعاية ساهمت فيها أيضًا منظمات إسلامية عابرة للوطنية بطبيعتها مثل الإخوان المسلمين، كل منها لأسبابها الخاصة.

لا شك أن الأردن هو الحلقة الأضعف في هذا المخطط؛ لأن نصف حاملي جنسيته أو أكثر من أصول فلسطينية، كما أن القوى الإسلامية المتعاطفة مع المعسكر الميليشياوي متغلغلة فيه، وقد انعكس ذلك على مظاهرات حاشدة تطالب بإلغاء اتفاق السلام مع إسرائيل، لاستنزاف شرعية النظام المَلَكي الحاكم.

الخوف الأكبر من جانب دول الاعتدال هو من نوايا إسرائيل بشأن الحرب سواء فورًا أو على مدى أطول

لكنَّ سعي معسكر الاعتدال العربي إلى وقف الحرب مدفوع أيضًا بالضرر الاقتصادي الذي سببته للمنطقة ككل، سواء بسبب عرقلة الملاحة عبر البحر الأحمر، أو لتأثير الحرب على تدفق الاستثمارات الأجنبية، أو تكلفة المساعدات الملحة لأهل غزة، وهو ضرر سيتضاعف في حالة توسُّع الحرب.

بطبيعة الحال كانت مصر الأكثر تضررًا من كافة هذه النواحي، بسبب هشاشتها الاقتصادية النسبية، خصوصًا في فترة الإصلاح الاقتصادي الحالية، ولموقعها الجغرافي اللصيق بالحرب الجارية.  

لكنَّ الخوف الأكبر من جانب دول الاعتدال هو من نوايا إسرائيل بشأن ما تريد تحقيقه من الحرب، سواء فورًا أو على مدى أطول. في البداية تركزت المخاوف على نوايا أعلنها بعض وزراء إسرائيل لدفع سكان غزة ليدخلوا أرض مصر (وهو ما أثار قلق الأردن أيضًا، تحسبًا من تصور مماثل بالنسبة لسكان الضفة الغربية)، وما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة لا يتسع المجال لشرحها.

مع تراجع هذه المخاوف نسبيًا (وهي لم تختفِ تمامًا، بسبب اجتياح إسرائيل رفح)، ظهرت مخاوف أعمق من أن انتصار إسرائيل الحاسم، أي القضاء على حماس، قد يؤدي، سواءً وفق خطة مسبقة أو وفق مسار الصراعات السياسية في إسرائيل، إلى إعادة الاستيطان الإسرائيلي في قطاع غزة وتوسيعه. وهو ما سيحوّل القطاع إلى مناطق فلسطينية عديدة معزولة، على غرار الوضع في أقسام معتبرة من الضفة الغربية؛ بما يعني مزيدًا من اليأس من أي حل سلمي تفاوضي للصراع، وبالتالي تعميق هيمنة خطابي الممانعة واليمين الإسرائيلي على سكان المنطقة ككل.

هذه النتائج أسوأ بما لا يقارَن من النتائج السلبية الهامشية لإيقاف الحرب، الذي ستقدمه حماس كالعادة وكأنه نوع من الانتصار. ففي النهاية، بعد "أفراح الانتصار" ستواجه حماس والمعسكر المناصر لها النتائج الوخيمة لعملية السابع من أكتوبر.

لهذا كله، وإشفاقًا على أوضاع سكان غزة، تضغط دول الممانعة بقدر ما تستطيع لإيقاف الحرب. بل وتأمل في قلب المائدة في وجه معسكر الممانعة باستثمار الحرب الكارثية وتدهور مكانة إسرائيل الدولية، في تدشين محاولة جادة لإقرار إنهاء الصراع بتحقيق حل الدولتين.

وهناك مناقشات دبلوماسية جارية بشأن إمكانية تجنُّب أسوأ النتائج بنشر قوات من بعض الدول العربية في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، على أساس انسحاب مُفترَض للجيش الإسرائيلي، وسقوط حكم حماس هناك. وهو ما قد يبدو وسيلةً مناسبةً كمرحلة انتقالية إلى حين تسليم القطاع للسلطة الفلسطينية في رام اللـه وقطع خطوة أساسية في اتجاه حل الدولتين.

لكن هذا الاقتراح محفوف بمخاطر عديدة، ويعني فعليًا احتمال انغماس هذه القوات العربية في الصراعات الفلسطينية الداخلية، فضلًا عن تحمل تكلفة إدارة القطاع الذي تعرض إلى تدمير هائل ويحتاج إلى استثمارات ضخمة على مدى عقود.

الخلاصة

تبدو أماني معسكر الاعتدال العربي في تحقيق حل الدولتين بعيدة، سواءً أدار قطاع غزة أو لم يُدره. فمن جهة، يصعب تحقيق توافق بين السلطة الفلسطينية وحماس، ومن جهة ثانية ترفض الحكومة الإسرائيلية ومجمل اليمين الإسرائيلي تسليم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية، كما تستبعد حل الدولتين.

وأخيرًا فإن مفاوضات حل الدولتين، إذا بدأت، يصعب أن تصل إلى نهايتها، في ضوء ضعف أنصار السلام على الجهتين، الفلسطينية والإسرائيلية، كما مرّ بنا في المقال الثاني من هذه السلسلة.

لا يبقى إذن سوى الأمل في أن يسفر الضغط الأمريكي والعالمي عن إقرار حل الدولتين. وهذا ينقلنا إلى المقال الخامس والأخير في هذه السلسلة، عن الأبعاد العالمية للحرب.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.