Loving Vincent.. جمالٌ ينساب من صورة سينمائية

منشور الخميس 23 نوفمبر 2017

 في سابقة هي الأولى من نوعها، يعرض فيلم "(2017) Loving Vincent"، كأول فيلم مرسوم يدويًا بالكامل في تاريخ السينما، في مجموعة من اللوحات الزيتية (Oil on canvas). الفيلم إنتاج بولندي ناطق باللغة الانجليزية، تأليف وإخراج دوروتا كوبيلا وهيو ولشمان، بطولة دوجلاس بوث، روبرت جولاسزايك، سيرشا رونان، إليانور توملينسون وهيلين مكروري.

تدور أحداث الفيلم في العام التالي لوفاة الفنان الهولندي فنسنت فان جوخ، حيث تقود الأحداث إحدى شخصيات العمل للبحث في غموض وفاة فنسنت بقرية أوفير بفرنسا، عام 1890. يلتقي الباحث عددًا من الأشخاص، الذين كانوا على صلة بفنسنت، في أيامه الأخيرة، ويُطرح تساؤل: هل انتحر فنسنت، حقًا، أم قتل؟

بعيدًا عن سيناريو الفيلم، والذي كان متماسكًا وناجحًا إلى حد كبير، في توظيف لوحات فان جوخ  الفنية في صناعة الخط الدرامي للحدث، إلا أنه لم يكن لاعبا أساسيا في نجاح التجربة، كانت الغلبة للصورة، أهم عناصر العمل وأكثرها تعقيدًا وتأثيرًا على المشاهد. 

عمل صنّاع الفيلم على إعداده في أربع سنوات، لوضع تصور عن آلية العمل؛ عامان من التنفيذ جرى فيهما تصوير السيناريو بالكامل، عن طريق ممثلين تشبه ملامحهم بورتريهات فان جوخ في 14 يوم، ثم عرضت مشاهد الفيلم بواسطة بروجيكتور مسلط على قماش مشدود على نول، ليتم تلوين عناصر المشهد تلو المشهد وإنتاج ما يزيد عن 850 لوحة زيتية بواسطة 125 فنان اختيروا بعناية، لامتلاكهم أسلوب فان جوخ في الرسم، وبعد ذلك صوّرت اللوحات باستخدام كاميرا فوتوغرافيا احترافية، وتوظيفها لإخراج 65 ألف كادر سينمائي، في 93 دقيقة، هي مدة عرض الفيلم. 

صورة الفيلم اعتمدت أسلوبين فنيين للتعبير عن زمنين مختلفين للحدث، زمن الفترة الأخيرة في حياة فنسنت، والذي يتم العودة إليه، من حين لآخر للرواية بتقنية (الفلاش باك flash back). هذا الزمن، تم رسمه بأسلوب انطباعي، الخطوط وتفاصيل عناصر الصورة واضحة وحادة ما بين الأبيض والأسود، وتدرجاتهما اللونية، بينما زمن ما بعد وفاة فنست، الزمن الحاضر، يسوده أسلوب فان جوخ ما بعد الانطباعي في الرسم، حيث ضربات الفرشاة القوية، وسيادة اللون الأصفر. 

لوحاته الفنية التي عرف بها، انتشرت لتكون تفاصيل صورة الفيلم؛ المقاهي والبيوت والحقول والسماء والطرقات؛ بورتريهات، رسمها فنسنت لشخصيات عايشها باتت حية في هذا الفيلم تعبر عن اعتقاداتها، وتتبنى وجهة نظرها ومعارفها في مسألة موته على وجه التحديد. 

تنوع الأسلوب الفني في تكوين صورة العمل وتصوير خط الزمن ما بين انطباعي وما بعد انطباعي Impressionism and Postimpressionism، أسهم بقوة في تصاعد دراما النص المكتوب، وكأنما العالم بعد فنسنت لم يعد بالفعل كما كان من قبل، كما أن جودة الصورة والعناية الشديدة بدقة إنتاجها، جعل تأثيرها طاغيًا بالفعل، وكأنما هي دعوة حقيقية للعودة للاهتمام بجمال الصورة والكادر السينمائي. 

ربما لأن الفيلم هو الأول من نوعه، كان لابد لظهوره أن يرتبط بمجموعة أسئلة، تبحث في الأسباب والإمكانات، فلمَ فنسنت على وجه التحديد؟ ولمَ كان اعتماد هذه التقنية في التصوير بالغة الصعوبة؟ معلوم أن اللوحات الزيتية فن قائم بذاته، وله جمهوره، وهو أقدم من فن السينما بقرون طويلة، فما القيمة؟ ما الذي تستطيع السينما أن تمنحه كإضافة لفن اللوحات الزيتية؟ وما الذي أفادته التجربة السينمائية من بطولة اللوحات الزيتية لفيلم متحرك؟

تقول المؤلفة ومخرجة العمل كوبيلا إنه "بالرغم من الظروف القاسية التى مر بها فنسنت، ونوبات اكتئابه المتكررة، إلا أنه أستطاع أن يستمر، ويمنح العالم ما في قلبه من محبة وإحساس بالجمال". كما تقول في الصناعة "لم أكن لأتخيل فيلمًا يستكشف قصة فان جوخ بصورة أخرى غير تلك، فهو من قال، في إحدى رسائله التي خطها قبل وفاته بأسبوع واحد (نحن لا نستطيع أن نتكلم سوى بلوحاتنا)".

 

كلمات كوبيلا، ربما، تحمل جزءًا من الإجابة عن التساؤلات المطروحة، بينما لوحات فنسنت ذاتها تحمل الجزء الأهم والأكثر قيمة، فضربات الفرشاة القوية التي ميزت لوحات فان جوخ، تلك الخطوط المتقطعة المستمرة في مساراتها؛ لمعة الزيت والإضاءة القوية لطيف الألوان المستخدمة، جميعها استطاعت أن تمنح من يشاهد لوحات فان جوخ احساسًا بالحركة، وهي الساكنة في ذاتها. هذا الاحساس بالحركة، تحديدًا، تم تسجيله، تاريخيًا، في وصف أسلوب فان جوخ الفني، وهو كذلك ما سمح باستخدام لوحاته، بصورة مجردة، في صناعة فيلم سينمائي، هو بطبيعته فن متحرك (A Movie). 

فان جوخ رسم في تسع سنوات ما يزيد عن 800 لوحة، وفي ال 70 يومًا الأخيرة فقط من حياته، كان يرسم لوحة كل يوم. تناول في لوحاته جميع المشاهد التي أحاطته؛ تفاصيل كل الأشياء؛ أدق الأشياء؛ بورتيريهات لكثير من الشخصيات التي أحاطت به؛ بورتريهات لنفسه في مراحل حياته المختلفة شهدت تطور أسلوبه الفني. كل ما سبق جعل الخط الزمني والمكاني للشخصية متصلًا، وفي حالة تصلح لصناعة فيلم. فضلا عن تراث أدبي كبير خلفه، متمثلًا في تسجيل حياته اليومية، وأفكاره الخاصة، عن أعماله، ونظرته للحياة، من خلال رسائله الدائمة واليومية لأخيه، ثيو فان جوخ.

"أن تصور كانطباعي!" يقول المخرج ولشمان، الذي اكتشف أن بعضا من لوحات فان جوخ لم يتم رسمها بالكامل من منظور واحد، كلوحة "مارجريت جاشييه"، التي تصورها وهي جالسة على البيانو، كما رآها لأول مرة. ففي واقع الأمر، رسمها فنسنت في البداية وهو جالس، ثم عند نقطة ما أكمل الرسم واقفًا، لذا كان من الضروري تغيير وضعية الكاميرا، لتصطف زاويتين وربما ثلاثة للرؤية في خط واحد للحفاظ على نسب الصورة. إن إيجاد كادر، يلائم هذه النظرة الانطباعية في الفن، لهو أمر مثير للاهتمام.

وبالرغم من أن لوحات فنسنت تتمتع بالحركة في ذاتها  Kinetic، إلا أن إضافة عنصر الحركة السينمائي عليها منحها اتصالًا واستمرارية Continuity، كما منح المشاهد تجربة أن يرى من خلال عيني فنسنت؛ ذات الطريقة التي كان يرى بها الموجودات والعالم؛ اتصال الأسلوب الفني لفنسنت، وشيوعه وامتداده، وكأنما فنسنت لم يمت. 

كان هذا ردًا حقيقيًا من داخل العمل على موضوع السيناريو. فلم يكن موت فنسنت هو مكمن البحث في القصة، بل منجزه الجمالي؛ كل شخصية رسمها؛ كل لوحة؛ كل مشهد جمالي؛ ديمومة الجمال، ونبضه، وانتشاره خارج حدود الفيلم. هذا ما ينبغي له أن يستمر حتى بعد نهاية المشهد الختامي.

في ذات السياق، يبدو أن صانعي الفيلم حاكوا ما فعله دكتور جاشييه، طبيب فنسنت وصديقه، الذي أدى افتتانه بأسلوب فان جوخ، وسريان حالة الاحساس بالجمال الفني، وديمومته، إلى قيامه بنسخ العديد من لوحات فنسنت الفنية، وكذا قام  125 رسامًا، من جميع انحاء العالم، بنسخ أسلوب فنسنت فان جوخ الفني في صناعة الفيلم. فكانت النتيجة عدة آلاف من اللوحات  الفنية تحمل أسلوبه، وعدد من اللوحات الختامية، المعروضة للبيع بأسعار تتراوح ما بين 1200 وما يزيد عن 9500 دولار على موقع الفيلم على الانترنت.

 

نجح الفيلم في صنع علاقة تبادلية من شيوع الجمال والمحبة؛ علاقة كتلك طالت عنوان الفيلم  "Loving Vincent"، الذي يحتمل ترجمات عدة: "في محبة فينسنت"، أو "أنا أحب فينسنت"، أو "مع حبي.. فنسنت"، كما كان يذيل خطاباته إلى أخيه ثيو.