تصميم: المنصة

عنبر الأمهات: أطفال لا يعرفون سوى اليونيفورم

منشور الخميس 25 فبراير 2021

 

تتبدد أحلام الجدة باحتضان البراء، حفيدها الذي ظهر أخيرًا مع والدته منار عادل المعيدة بجامعة طنطا في نيابة أمن الدولة العليا بعد 714 يومًا من مداهمة منزل العائلة بالإسكندرية واختطاف أفرادها وإخفائهم قسرًا، حيث لم يكف الطفل عن البكاء والصراخ ومحاولات الهروب إلى السجن، الذي لم يعرف غيره طوال عمره الذي لم يتجاوز الثلاث سنوات. 

ظل البراء مع والدته طوال سنتين منذ اختفائهما مع أبيه عمر في مارس/ آذار 2019، داخل حجرة من حجرات الأمن الوطني بمحافظة الإسكندرية، وفقًا لما أخبرت به منار محاميها أثناء الدقائق المحدودة التي تمكنا فيها من تبادل الحديث عند ظهورها. تعلم الطفل المشي والكلام في حجرة مغلقة، يجهل وجود عالمٍ أوسع خارجها، ويجهل كيف يتعامل معه.

بالنسبة للبراء، فإن الناس نوعان؛ نساء يرتدين ملابس السجينات، ونساء أخريات يرتدين ملابس السجّانات.

يروي أحمد شقيق منار للمنصة، لحظات تسليم الطفل لجدته "الموقف كان فوق ما حد يتصوره، البراء مش عاوز يروح لأمي، وخايف من الشارع، والناس ومش عاوز يتفاعل مع أي حد، وإحنا قلنا يمكن علشان ما شافش حد طول الفترة دي، لكن لما عساكر السجن اللي شافهم برضه لأول مرة حاولوا يتفاعلوا معاه تفاعل معاهم وكان أهدى، وكأنه مش عارف حد غير بالهدوم دي".

استمر الطفل في الصراخ عند ركوبه السيارة، فشلت محاولات الجدة وأولادها في تهدئته، كان يردد جملة واحدة "عاوز أروح أوضتي"، الحجرة الوحيدة التي يعرفها "كان بيبكي وبعدين فجأة يسكت وهو بيبص على شكل الشارع كأنه أول مرة يشوف المشاهد دي، ويرجع تاني للعياط والصراخ"، أحمد أوضح أن أشقاءه اشتروا له بعض الألعاب في المنزل، وظلوا في انتظار عودته لاستقباله "دخل البيت وهو مواصل على الصراخ، وملفتش نظره اللعب خالص، بيتعامل مع الأشياء اللي حواليه كأنها أشياء لأول مرة يشوفها".

لم تروِ منار تفاصيل العامين باستفاضة للمحامين عند ظهورها في النيابة، فقط أخبرتهم أنها كانت في حجرة صغيرة في مبنى الأمن الوطني، تخرج منها عند استدعائها للتحقيق معها من قبل أحد الضباط داخل المبنى ثم تعود لنفس الحجرة مجددًا بعد انتهاء التحقيق.

عاشت منار مع طفلها في هذا المكان دون اختيار منها، بعكس عدد آخر من الأمهات، قررن العيش مع أطفالهن في السجن، فوفقًا للائحة السجون، يحق للسيدة حضانة طفلها داخل السجن حتى يكمل سنتين من عمره، كما تضمن نصوص القانون حصول السجينات الحوامل على متابعة طبية مستمرة، كما يوقف تنفيذ حكم الإعدام على السيدات الحوامل وحتى شهرين من الوضع.

عنبر الأمهات

ولكن ما تقره لائحة السجون يتعارض مع ما يتم على أرض الواقع خاصة فيما يتعلق بالزيارات والرعاية الصحية، وفقًا للمحامية هالة دومة التي أوضحت للمنصة أن السجينات الأمهات يتواجدن في عنبر يسمى عنبر الأمهات بصحبة أطفالهن "طبعًا لأننا مش بنعرف نعمل زيارات فمن خلال السجينات والموكلات بنعرف الوضع اللي جوه عامل إزاي، عنبر الأمهات ده بيكون فيه السيدة اللي معاها طفلها، هي مبتاخدش أي مميزات عن باقي السجينات، يعني ليها نفس وقت التريض هي وطفلها، ونفس الزيارات، ولأن الأطفال لحد سنتين بترضع فبيكون اعتمادهم على الرضاعة من الأم، ولو طفل بياكل ممكن يبقى له تعيين، بس في النهاية السجينات مش بتعتمد على أكل السجن، هي بتعتمد على الأكل من الزيارات، وكل زيارة بيجيب أهل السجينة أكل يكفي الأوضة كلها، وفي اليوم التاني يتكرر الأمر مع سجينة تانية وهكذا".

الرعاية الصحية أمر تشتكي منه العديد من السجينات، وأيضا الأطفال، كما قالت دومة "في موكلة عندي خلفت في مستشفى السجن، وبعد الولادة بكام شهر الولد طلع عنده فتق، وده من خلال الكشف عليه في عيادة السجن، ومع ذلك معملش العملية، الرعاية الصحية في السجن منعدمة للأمهات وكمان الأطفال".

تضطر الأمهات إبقاء الأطفال معهن عند عدم وجود أحد من أفراد الأسرة يمكنه رعاية الطفل بالخارج، وبعد بلوغه عمر سنتين يُودع بأحد دور الرعاية، وفقا لحديث دومة "علشان قلة الرعاية ووضع السجون الأمهات؛ اللي بتخلي الأطفال معاها هي الأمهات اللي فعلًا معندهاش حد بره ممكن تسيب الطفل معاه".

لا توجد إحصائيات رسمية منشورة بعدد الأطفال المتواجدين مع أمهاتهم داخل السجون المصرية. حاولت المنصة التواصل مع مسؤول العلاقات العامة بوزارة الداخلية اللواء طارق محمد لاستيضاح الأمر دون استجابة حتى نشر التقرير. هذا التعتيم لا يتعلق بالصحفيين فقط ولكن أيضًا بالمحامين. دومة أشارت إلى أن مصلحة السجون أو إدارات السجون المختلفة لا تفصح للمحاميين عن هذه المعلومات أيضًا. 

القانون المصري ولائحة السجون يقران العديد من الحقوق للسجينات الحوامل والأمهات وأطفالهن، ولكن أثر تلك النصوص ينعدم بداخل السجون، وفقًا لتقرير أصدرته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية عن وضع السجينات، يوضح أن القانون المصري ما زال يسمح باستخدام أدوات التقييد مثل الكلبشات مع السجينات الحوامل وهذا إجراء محظور بالمعايير الدولية، وينتقد غياب نص قانوني يحظر الحبس الاحتياطي للنساء الحوامل أسوة بما هو مقرر بقانون الطفل من عدم جواز حبس الأطفال الأقل سنًّا من 15 عامًا احتياطيًا.

وأضاف التقرير، أن المشرّع في قانون تنظيم السجون "أغفل ضرورة عدم ذكر ميلاد الطفل في السجن إن حدث ذلك بشهادة الميلاد، كما لم يهتم المشرع بالنص على وجوب اتخاذ التدابير اللازمة لإنشاء دار للحضانة بها موظفون مؤهلون، حيث يوضع بها الأطفال عندما لا يكونون في رعاية أمهاتهم".

دومة أوضحت أنه وفقًا للقوانين من حق الأم رعاية طفلها في السجن، ولكنها لا تطبق طوال الوقت "واحدة من الموكلات اتقبض عليها وراحت القسم ومعاها طفل مكملش 9 شهور، ووقت ترحيلها لسجن القناطر خدوا منها الطفل وحطوه في دار رعاية".

داخل السجن يعيش الطفل عامين مع أمه، لا يرى سوى سجينات بزي موحد، وسجانات يرتدين زيًا موحدًا آخر، ليخرج إلى العالم الخارجي ويصطدم به ويكتشف أن هناك ألوانًا أخرى غير التي تعود على رؤيتها، وهو ما حدث مع البراء، وما وصفه خاله بأنه صدمة نفسية شديدة، تحتاج علاجًا نفسيًا، وبالفعل بدأت خالته بالبحث عن أطباء نفسيين للأطفال، للحجز وبدء رحلة العلاج مع الطفل، كما يقول شقيق والدته "حجزنا بالفعل ميعاد ومستنين نشوف الدكتور هيقولنا إيه، وعارفين إن موضوع التأقلم مع الوضع الخارجي هياخد وقت".

تأثير السجن على الأطفال

ويتفق الأطباء أن السجون تشكل شخصية الإنسان، محمد الحديدي أستاذ الطب النفسي يوضح للمنصة أن الأطفال الذين يقضون وقتًا داخل السجون تتشكل تلك الفترة في أذهانهم، وتحتاج إلى التأهيل النفسي عندما يخرجون، فالطفل سواء ولد بداخله أو دخله في شهور عمره الأولى، لن يعرف سوى والدته والسجانات، يصبح هذا عالمه، فيصطدم بعالم جديد عند خروجه من خلف جدران السجن.

ولكن الحديدي يشير أيضًا إلى أن صغر سن الطفل يساعده في المقابل على نسيان هذه الفترة بسهولة، بشرط مساعدة الأسرة بالخارج في هذا الأمر "الطفل هيمر بنوبات اكتئاب وقلق وصعوبات في النوم، ولازم أهل الأم أو الأب اللي هيعيش معاهم الطفل يتفهموا ده، ويتكلموا معاه طول الوقت إنه في شوارع وناس، وهيكون له صحاب، ويخرج كتير حتى لو أبدى انزعاجه من الخروج في الأول".

تأهيل الطفل مرحلة ستستمر معه عند زيارات أمه في محبسها مجددا "كمان الطفل مينفعش ينفصل عن الأم، لازم يزوها ونفهمه بشكل مبسط إن ماما في مكان مش هتعرف ترجع معانا منه، ولازم نزوها شوية ونرجع، لأن انفصال الطفل عن أمه ممكن يخلي عنده قلق أكبر ويتخيل إنها تخلت عنه، وللأسف إحنا بنعامل الأطفال إنهم مش فاهمين حاجات كتير، وده بيعمل مشاكل، لازم نفهّم الطفل بحاجات مبسطة طول الوقت اللي بيدور حواليه".

السجون المخصصة للنساء في مصر لا يتجاوز عددها الخمسة سجون وتقع في محافظات رئيسية وهي سجن القناطر وهو أكبرهم ويغطي القاهرة الكبرى والأجزاء الشرقية، وسجن دمنهور ويغطي مناطق الدلتا من الإسكندرية ومطروح والبحيرة، وسجن المنيا الذي يغطي الصعيد، بالإضافة إلى سجني بورسعيد وطنطا وهما سجنان صغيران ولا يستوعبان الجرائم الكبيرة التي تتطلب قضاء مدة طويلة في السجن، وفقا لمركز نظرة للدراسات النسوية.

ويوضح المركز في أحد تقاريره أن العنابر في سجن طنطا لا تحتوي على حمامات، وإنما تقوم السجينات بقضاء حاجتهن في "جرادل" لذلك يطلقون عليه "سجن جردل"، بالإضافة إلى تكدس السجون وتحملها أضعاف طاقتها، وتابع التقرير أن السجون المصرية تعاني بشكل عام من قصور توفير الرعاية الصحية اللازمة للمساجين، وهو ما ينطبق على الأمهات وأطفالهن أيضا داخل السجون.

قواعد الأمم المتحدة لمعاملة السجينات والتدابير غير الاحتجازية للمجرمات والمعروفة باسم قواعد بانكوك، تنص في قاعدتها الثالثة على أن يسجل عدد أطفال النساء اللواتي يدخلن السجن وبياناتهن الشخصية عند الدخول، وتحفظ جميع المعلومات المتعلقة بهوية الأطفال سرية، ولا تستخدم إلا بما يخدم مصلحة الطفل.

وعن أماكن احتجاز النساء تقرر بالقاعدة رقم 4 أن تُودَع السجينات حيثما كان ذلك ممكنًا في سجون قريبة من ديارهن أو من مراكز التأهيل الاجتماعي، أخذًا في الاعتبار المسؤولية عن رعاية أطفالهن وخياراتهن الشخصية وما يتوافر من برامج وخدمات ملائمة لهن.

خرج البراء من السجن الذي وضع به لمدة عامين، لتبدأ أسرته رحلة تأهيله نفسيًا واجتماعيًا، التي بدأت بالاستحمام كما وصف خاله للمنصة "ماما وأختى لما بدأوا يحموه اتعامل مع الميه على أنها شيء غريب برضه، وفضلوا يغسلوا في شعره وجسمه كتير كأنه فضل طول السنتين من غير حموم، ولقوه لسه لابس بامبرز، وده معناه إنهم كمان هيبدأوا يعودوه على دخول الحمام"، بينما ينتظر عدد غير معلوم من الأطفال تلك المرحلة من التأهيل بعد بلوغهم العامين، وخروجهم للعالم الخارجي بعيدًا عن أسوار السجن.