تصميم: يوسف أيمن- المنصة

يوسف إدريس: صورة للقصة القصيرة التي طالت قليلًا

منشور الاثنين 30 أغسطس 2021

مرّت في مطلع الشهر الحالي الذكرى الثلاثين لرحيل يوسف إدريس(1927– 1991) وأريد هنا أن أكتب عن الرجل، أو بالأحرى أن أمتدحه. هو واحد من كبار الحكائين المصريين، راو، ضمير جمعي، رأى وعاش وتعلم من الناس، وخاض كل تجاربه الأولى باندفاع وحرارة من تفتحت عيناه على شيء بالغ الخصوصية، لم يُقدّر لسواه أن يدركه.

أدرك يوسف بناء الحكاية المصرية ونبرة الصوت المصري، وشيّد عالمًا كاملًا من القصة القصيرة وأنشأه إنشاءً، عبر كل أولئك الذين اختارهم من المهمشين والدخلاء على الكتابة السائدة: الخادمات الصغيرات، والفلاحون الأجراء، وبائعو دمهم، ومرضى المستشفيات الفقيرة، وصولات البوليس، والمناضلون السياسيون، والسهرانين والفرانين والأسياد والعبيد. عالم كامل من الدخلاء قادوا يوسف وقادهم ليقتحم ويغزو ويرى وينتصر وينهزم وينهض ويتعثر، باحثًا عن يقين مفقود لابن الحركة الوطنية منذ انتفاضة 1946 في لحظات ازدهارها وانكسارها.

عاش يوسف باحثًا وكاشفًا وحكاءً بكل ماتحمله الكلمة من دلالة. وإذا كانت الكتابة السابقة عليه تراثها المباشر أوربي، وأهدافها، طبعًا باستثناءات قليلة مثل أعمال يحيى حقي، واضحة ولها مغزى ومؤطرة و"مؤسلبة" سلفًا على الرغم من ريادة بعضها، لكن يوسف خاض في بحار ومحيطات وشيّد مدنا بكاملها. لقد صنع ببساطة عالمًا ورؤية وأداة معًا، وعلى نحو ما ظل قادرًا على أن يدهشنا ويصدمنا بدربة وصدق مذهلين.

على أي حال أدرك يوسف منذ اللحظة الأولى، وربما على نحو غير واع، أن جنونه الحقيقي وعشقه ومحبته الغامرة للناس والحياة كلها أمور وثيقة الصلة بنبرة الصوت الذي يؤدى به، وببناء الحكاية الذي شيّده حجرًا فوق حجر. لقد تشكل برؤيته، وصاغ حواره مع الكتابة عبر الكتابة ذاتها.

حسب شهادات عديدة كتبها هو، ربما كان من أهمها ماكتبه في مجلة فصول؛ ينتمي لفلاحين شديدي الفقر، وكانت أمه ذات شخصية قوية للغاية وتحدث باستفاضة عن تأثيرها عليه بوجه خاص. درايته بأهله الفقراء ساطعة الوضوح في أعماله، أما حرفة الكتابة فأدركته في وقت متأخر أثناء دراسته في كلية الطب بتأثير مباشر من زملائه أمثال يسري أحمد، وصلاح حافظ، وبتأثير أيضًا من انتفاضة 1946 ضد الاحتلال والقصر معًا.

أضطرُ هنا لفتح قوس لتسجيل إشارة سريعة حول انتفاضة 1946، التي شاركت فيها الأمة بكاملها، ولعب اليسار والوفد دورًا قياديًا فيها، وشاركت النقابات العمالية بإضرابات واعتصامات لا حصر لها، وهي أيضا أول انتفاضة تتخذ من ميدان الإسماعيلية (التحرير الآن) مركزًا لها بسبب قرب الميدان الشديد من معسكرات جيش الاحتلال، وسقط فيها الطلاب والمتظاهرون برصاص الإنجليز. والمعروف أن الشرارة الأولى للانتفاضة انطلقت من كلية الطب التي كان يوسف أحد قادتها في المظاهرات، وخطيبا مفوها في التجمعات الجماهيرية، ولا شك أنه كان منتميًا آنذاك لمنظمة، حدتو، السرية اليسارية، الأمر الذي أضاف له وزوّده بخبرات جديدة.

 

جزء من مكتبة يوسف إدريس المنزلية. الصورة: هشام عبد الحميد- المنصة بإذن من السيدة زوجته

بدأ خطواته الأولى في الكتابة كبيرًا، حيث نشر له عبد الرحمن الخميسي أولى قصصه في أهم صحف ذلك الزمان وأكثرها انتشارًا وهي المصري. عمل فور تخرجه طبيبًا في عنابر السكك الحديدية، حتى اعتقل في إحدى الحملات الموسمية التي طالت قليلًا عام 1954. أما الإفراج عنه فقد جرى في واقعة كوميدية وعبثية تمامًا، فحسب المناضل والكاتب فتحي خليل، الذي حكى لأحمد حمروش في كتاب الأخير قصة الثورة كاملة، إن ملف السودان كان مسؤولية صلاح سالم أحد كبار الضباط الأحرار المتنفذين آنذاك. وعندما سأل الأخير وتقصى علم أن الشيوعيين المصريين لهم تأثير كبير على الشيوعيين السودانيين، والأخيرون كانوا قوة ذات شأن ولا يمكن تجاهلها إذ كانت هناك مشكلة متفجرة لأن مصر والسودان كانا مملكة واحدة يملكها ملك مصر والسودان تحت الاحتلال. وبسبب قرب تنفيذ اتفاقية الجلاء بين الضباط الأحرار وإنجلترا، أثار الاحتلال مشكلة كبرى فيما يتعلق بوضع السودان بعد تنفيذ الاتفاقية، في الوقت الذي كانت فيه قوى سياسية في السودان تطالب بالانفصال عن مصر.

أما صلاح سالم الذي كان ملف السودان مسؤوليته، فتوصل من خلال مصادره إلى أن الأكثر تأثيرًا على الشيوعيين السودانيين هم فتحي خليل وزهدي العدوي وإبراهيم عبد الحليم، فاستدعاهم من سجن أبو زعبل، حيث كانوا مضربين عن الطعام منذ 18 يومًا لتحسين شروط اعتقالهم ووقف التعذيب اليومي، فأخرجوهم من السجن إلى مكتب صلاح سالم مباشرة، ووجدوا يوسف إدريس سبقهم للسبب نفسه، وقد استدعوه من محبسه في سجن القناطر.

اجتمع سالم بهم، وكان ذلك في سبتمبر/ أيلول 1955، وهم في حالة مزرية، يحكي حمروش في كتابه مقتطفات من حديث سالم الذي كان أقرب للهلفطة التي تتسم بالبلاهة لكنه كان كاذبًا في أغلبه، ذكر لهم أن الثورة مقبلة على مرحلة خطيرة، وأن هناك صفقة شراء سلاح من الاتحاد السوفييتي تم الاتفاق عليها بالفعل، وسيتم الإفراج عن كل الشيوعيين المصريين قبل 23 يوليو/تموز 1956. ثم انتقل إلى موضوع السودان، وقال إن أصدقاءه أخبروه أن الطريق إلى قلب الحزب الشيوعي السوداني هم الشيوعيون المصريون، ولذلك استأذن مجلس القيادة ليستعين بهم ليسافروا إلى السودان، ويقنعوا الحزب الشيوعي بتأييد الضباط الأحرار والدخول في اتحاد مع مصر، فطلبوا مهلة للتفكير، وهنا اقترح عليهم وضعهم في مكان أمين يقومون فيه باتصالاتهم.

على أي حال رفضوا العرض لصعوبة التشاور مع زملائهم في الخارج وهم رهن الاعتقال، وتم التوصل في النهاية إلى الإفراج عنهم على أن يعودوا بعد أسبوع لصلاح سالم للاتفاق على التفاصيل. وقبل أن يمرّ الأسبوع نشرت الصحف نبأ استقالة صلاح سالم، فعادوا للاتصال بأحمد عباس صالح وسامي الليثي، اللذان لعبا دور الوسيط منذ البداية، وكان رد الأخيرين أن صلاح سالم في بيته والاتصال به انقطع وهو ما يعني أن يتمتعوا جميعًا بالحرية خارج السجون، على الأقل في المدى المنظور.

أما مسيرة يوسف إدريس بعد ذلك فكانت حافلة حقًا. في وقت ما بعد منتصف الخمسينيات عمل في منظمة المؤتمر الإسلامي، وهي منظمة دعائية ديكورية ترأسها السادات، ولم يكن لها نشاط حقيقي. وكان الأخير هو الذي كلّف إدريس بترتيب موعد بينه وبين محمود أمين العالم أحد قيادات الحزب الشيوعي المصري، وهو ما فعله يوسف على الفور، وإن كان لم يحضر اللقاء الذي دار حول مطلب حكام يوليو بحل الحزب الشيوعي المصري، وانتهى اللقاء برفض محمود أمين العالم حل الحزب بشكل حاسم، فما كان من السادات إلا أن صرف العالم من منزله في الثالثة بعد منتصف الليل، واعتذر ضاحكا لأن سائقه الذي جاء بضيفه كان نائمًا على حد قوله. وأنهى اللقاء قائلًا للعالِم إنه رجل بروليتاري ويمكنه العودة إلى منزله سائرًا على قدميه، وهي نكتة سمجة وبالغة السُخف كما هو واضح، مثلما وردت في شهادة للعالِم.

بعدها شن النظام حملة اعتقالات جديدة وهو ما أغضب محمود العالم بشدة، وعندما تحدث مع إدريس شاركه الأخير غضبه حسبما أكد محمود أمين العالِم. وفي ذروة حملة عبد الناصر ضد الشيوعيين عام 1959 بادر بنشر رواية البيضاء، ورأى الشيوعيون أنه صوّرهم كمجموعة من المسعورين جنسيًا، وتبدو كما لو كانت بلاغًا لمن يهمه الأمر لتجنب الزج به في الحملة المخيفة كما بدت آنذاك.

في السنوات التالية واصل اشتغاله بالصحافة، وكانت له أياد بيض ليس فيما يتعلق بإنجازه الضخم في القصة القصيرة فقط، بل قدم أيضا للحياة الأدبية عددًا من الكتاب مثل صنع الله ابراهيم ويحيى الطاهر عبد الله وأحمد الخميسي، وفي الوقت نفسه واصل تناقضاته بالموافقة على نيل الجائزة المالية لـمجلة حوار البيروتية، التي ثارت حولها شبهات كثيرة، وقيل إن عبد الناصر غضب بشدة، فسحب يوسف موافقته وأعلن رفضه للجائزة، وبعدها أمر الرئيس بصرف قيمة الجائزة له.

 

يوسف إدريس مع الرئيسين حسني مبارك وحافظ الأسد. الصورة: أرشيف الكاتب شعبان يوسف- فيسبوك

قبل حرب أكتوبر بعدة شهور، تعرض للفصل من الأهرام، بعد أن شارك مع عدد من الكتاب في مقدمتهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ في البيان الشهير ضد حالة اللا سلم واللا حرب. تلك الوقائع المتناثرة تشير في حقيقة الأمر إلى التناقضات التي كان يعيشها ابن الحركة الوطنية منذ انتفاضة 1946 المجيدة، وتأرجحه بين انتمائه لتلك الحركة، واضطراره لإخفاء انتمائه بين الحين والآخر، حيث كان يعشق الحياة والتواجد والظهور والزهو بنفسه.

من بين تلك الوقائع أيضًا، ما جرى عندما توجهت جموع المتظاهرين الثائرة نحو مبنى جريدة الأهرام، التي كان إدريس أحد نجومها في يناير عام 1977 أثناء انتفاضة الطعام العارمة. لم يتمالك إدريس نفسه وخرج إلى الناس يهتف فاختطفوه وحملوه على الأعناق ورددوا الهتافات وراءه. وبعد أن راحت السكرة، برّر للأجهزة ماجرى بأنه كان يبعد المتظاهرين عن المبنى خشية اقتحام الأهرام وتخريبه، كما كتبها يوسف إدريس نفسه في مقاله الأسبوعي بالأهرام.

ومع تولي الرئيس المخلوع حسني مبارك، رحبّ به يوسف بشدة، وسارع بالظهور في برنامج تليفزيوني خصيصًا مقدمًا دعمه ومساندته للرئيس الجديد، وبدا متفائلًا جدًا، وفي الوقت نفسه واصل معاركه من خلال مقاله الشهير الذي كان يحتل صفحة كاملة من الأهرام من مفكرة يوسف إدريس، مثل معركته مع وزير الثقافة آنذاك عبد الحميد رضوان، وكذلك الشيخ الشعراوي، وإن كان تراجع في المعركة الأخيرة وانسحب انسحابًا غير مشرّف.

حديث يوسف إدريس عن محمد متولي الشعراوي في ندوة بمعرض الكتاب.


على أي حال، لم تتوقف معاركه التي كان يخسرها غالبًا ويكسبها أحيانًا. ووسط كل ذلك الضجيج، كان طوفانًا هادرًا وموهبة حوشية، وأصدر 37 عملًا بين 1954 و1989 وشكلّت أعماله في القصة القصيرة إضافة كبرى لذلك الفن في العالم.

وأخيرًا وفي لقاء تليفزيوني أجري معه قبل رحيله بشهور قليلة وصف نفسه بأنه "قصة قصيرة طالت قليلًا". ورحل بالفعل عن أربعة وستين عاما، بعد أن غيّر وجه القصة القصيرة.


فصل من كتاب" الإمساك بالقمر" للكاتب محمود الورداني الذي يصدر قريبًا عن دار الشروق.