الصورة: USAID Egypt برخصة المشاع الإبداعي - فليكر.
سيدة تحجز تذكرة مستشفى في مدينة الأقصر.

قراءة أخرى في تقرير التنمية البشرية: قصة تراجيدية عن القطاع الصحي

منشور الخميس 16 سبتمبر 2021

 

في صيف 2019 وأثناء مناقشة الموازنة العامة للدولة، طالبت وزيرة الصحة هالة زايد بزيادة مخصصات القطاع الصحي 33 مليار جنيه، لتستطيع تنفيذ الالتزامات الملقاة على عاتقها. كانت تلك واحدة من المشاهد المعبرة عن السياسات المالية الحالية التي تميل للحد من الإنفاق الاجتماعي.

ظهرت آثار هذا التقشف بشكل واضح على إحصاءات البنية الأساسية للصحة، التي تناولها أحد فصول تقرير التنمية البشرية لمصر 2021 الذي أصدرته وزارة التخطيط مع برنامج الأمم المتحدة الانمائي يوم الثلاثاء الماضي، بعد توقف نحو 11 عامًا، بعنوان "التنمية حق للجميع: مصر المسيرة والمسار".

بدا تقرير التنمية البشرية مفتونًا باستعراض الإحصاءات أكثر من معايشة الواقع، وصاغ نصائحه بلهجة شديدة الدبلوماسية تتجنب، قدر الإمكان، أن تتضمن نقدًا لسياسات الدولة، التي احتفت قيادتها السياسية ووسائل إعلامها بالتقرير ونتائجه.

لكن إذا استنطقنا بيانات التقرير عن أحوال الصحة في مصر، سنجد أنها ترسم لنا ملامح قصة تراجيدية، عن أطباء يحققون نجاحات بأقل الإمكانيات المالية المتاحة. فالأرقام الكلية التي يعرضها التقرير توضح تراجع عدد أسرّة المستشفيات العامة خلال العقد الأخير ما قاد لزيادة كثافة الإقبال على المستشفيات المتاحة. ففي عام 2010 كان لدينا 99.2 ألف سرير، تقلص عددهم في 2018 إلى 95.6 ألف، وبالتالي ارتفع عدد متوسط زوار كل مستشفى من 86.4 ألف إلى 135.5 ألف خلال نفس الفترة.

لا تعطي الأرقام الكلية صورة كاملة بالضرورة، فأحيانًا تكون هناك أسرّة كثيرة من حيث العدد ولكنها تفتقر إلى الإمكانيات الطبية أو الكوادر الماهرة، ما يجعل وجودها بحد ذاته أمرًا غير مفيد، وكانت الدولة لجأت خلال السنوات الأخيرة لغلق بعض المستشفيات بسبب عدم جدواها.

لذا، فالأهم من الرقم الكلي لعدد الأسرّة الحكومية هو أن نعرف إلى أي مدى تتوفر في هذه الأسرّة الإمكانيات اللازمة لتقديم الخدمة الصحية، تشير العديد من المشاهدات إلى الإقبال الكثيف من المواطنين على مستشفيات مثل قصر العيني، ولا يتضح إذا كان هذا الإقبال نابعًا من سوء توزيع للمرضى على المستشفيات أم بسبب ندرة المنشآت الحكومية التي تجمع، مثل قصر العيني، بين انخفاض تكلفة العلاج وجودة الخدمة.

على أية حال، يبدو بطء التوسع في الخدمة الصحية أكثر وضوحًا عندما يتحدث التقرير عن وحدات الصحة الأولية، التي تنشئها الدولة لتقديم خدمات الصحة الأساسية. هنا يقول التقرير بشكل صريح إن بناء هذه الوحدات لم "يكن بنفس وتيرة زيادة عدد السكان"، وبالتالي انخفض متوسط الوحدة لكل مئة ألف مواطن من 6.2 في 2010 إلى 5.6 في 2017.

ولم يكرر التقرير مقارناته مع مستوى الطلب على الخدمة وهو يتحدث عن إنجازات الحكومة في التوسع في أسرة العناية المركزة بين 2015 و2018، من 1968 سرير إلى 5144 سرير، وكذلك وحدات الرعاية المركزة لحديثي الولادة من 2269 وحدة إلى 5046، وهي قفزة كبيرة دون شك، إلا أن العديد من المشاهدات توحي بأن محدودية هذا النوع من الخدمات لا تزال مشكلة كبيرة في مستشفيات الدولة. 

في يناير/ كانون الثاني عام 2020، وبعد أشهر من رفض مجلس النواب منح وزيرة الصحة الـ 33 مليارًا التي طالبت بهم للوفاء بالتزاماتها، انتقد المجلس نفسه، ممثلًا في لجنة الصحة هذه المرة "العجز الشديد في أسرة العناية المركزة والحضانات في معظم المستشفيات الحكومية".

بعد شهرين من انتقاد لجنة الصحة في البرلمان العجز في أسرّة العناية المركزة، ستتفشى جائحة كورونا ليظهر أثر هذا النقص بشكل أكثر وضوحًا. يتحدث عن ذلك خالد سيد أحمد، الكاتب بجريدة الشروق، وهو يروي قصة وفاة زوج شقيقته بعد أن تدهورت حالته في مستشفى الصدر بالمنصورة وكان في حاجة لدخول العناية ولكن لم يجد سريرًا خاليًا.

المحصلة؛ أن التقرير عندما حاول تقديم صورة إجمالية عن إنفاق الدولة على الصحة، وجد أننا متأخرون في العديد من المقارنات الدولية، وهو ما يفسر لنا العديد من أوجه هذه التراجيديا الاجتماعية التي تحدث في مستشفيات الدولة.

تُظهر بيانات التقرير أن الإنفاق على الصحة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي كانت تنخفض منذ العام المالي 2015-2016، من 1.6% حتى وصلت إلى 1.2% في 2019-2020، ومن المهم أن نلتفت إلى هذا التاريخ، فعام 2016 هو عام تعويم الجنيه، وساهم انخفاض قيمة عملتنا بأكثر من النصف في مواجهة الدولار في رفع تكاليف المعدات الطبية المستوردة، في ظل هذا الظرف الضاغط يتراجع نصيب الإنفاق العام على الصحة من كعكة الناتج، ولا يزيد.

وعندما وضع التقرير بيانات مصر في مقارنة دولية وجد إن الإنفاق على الصحة كنسبة من الناتج أو كنسبة من إجمالي الإنفاق الحكومي "أقل من المتوسط العالمي والمتوسط السائد في الدول متوسطة الدخل وبعض الدول متوسطة الدخل التي يمكن مقارنتها مع مصر"، وإن كان قد أشار إلى أننا متفوقين على إندونيسيا والفلبين وهما ضمن البلدان التي تسبق مصر في مؤشر التنمية البشرية.

لا يفوتنا أن نشير إلى أن رقم الإنفاق على الصحة الذي يتحدث عنه التقرير يختلف عما تتحدث عنه وزارة المالية، الملتزمة دستوريًا بأن يصل نصيب الصحة في الإنفاق من الناتج إلى 3%، لذا فهي تدرج العديد من نفقات الموازنة تحت بند الصحة لكي تصل للنسبة الدستورية، ومنها نصيب قطاع الصحة في نفقات خدمة الدين العام وهي نفقات لن نشعر بأثرها ونحن نبحث عن سرير خالٍ في مستشفىً حكوميٍّ، ولكنها تظهر في بيانات الموازنة الكلية.

والنتيجة الطبيعية للإنفاق العام، المتزايد على الورق والمحدود فعليًا، هو ما أننا كمواطنين ننفق الكثير للحصول على الخدمة الصحية من السوق الحر، وهو ما يفرض عبئًا كبيرًا على ملايين الأسر المصرية. يقول التقرير في هذا السياق "مصر واحدة من أعلى الدول في مجال مساهمة إنفاق الأفراد المباشر على إجمالي الإنفاق الصحي وصلت إلى 62% تقريبًا في 2018، هذه النسبة تقترب من ضعف المتوسط العالمي".


اقرأ أيضًا: طبيب لكل 1100 مواطن: كيف هرب 62% من أطباء الحكومة؟

 

من إحدى الوقفات احتجاجية للأطباء في فبراير 2016. الصورة: الدكتورة امتياز حسونة

أرقام التقرير التي تتحدث عن محدودية الإنفاق، هي نفسها التي تتحدث عن تحسن لا يستهان به في بعض مؤشرات الصحة العامة، من أهمها  أننا استطعنا أن نحقق معدلات أفضل من تلك التي توصي بها الأمم المتحدة بشأن متوسط عدد وفيات الأطفال أقل من خمس سنوات، ضمن أهداف التنمية المستدامة.

كذلك أثمر عدد من المبادرات الأخيرة لإجراء الفحوصات ومتابعة الأمراض المنتشرة بين المصريين في وصول تلك الخدمة لملايين من الأفراد، فبحلول عام 2021 كان تم الوصول لنحو 13 مليون امرأة  لإجراء فحوصات بشأن سرطان الثدي ومتابعة أمراض أخرى مثل السكر والقلب أو لتقديم خدمات تنظيم الأسرة، كذلك بنهاية 2020 كان تم فحص نحو 10.7 مليون طالب للكشف المبكر عن السمنة والتقزم وفقر الدم.