بورتريه لفريدريك نيتشه

العهدة على نيتشه: اِعتنق المعاناة وكن متشائمًا نشطًا

منشور الخميس 25 نوفمبر 2021

البشر كسالى أكثر مما هم خائفون، وخوفهم الأكبر هو الأعباء التي يمكن أن تحمّلهم إياها الصراحة والصدق اللا مشروط. الإنسان مجبر أن يعيش حياته بجرأة وخطر، وخاصة لأن الإنسان سيفقدها في كل الأحوال دائمًا.

"نيتشه"


كان نيتشه يسمي شوبنهاور مربيًا، وآمن مثله أن الحياة معاناة، وأن مصدر قلق الإنسان وعذابه هو الوعي بالزمن، كما اعتنق فلسفته عن الإرادة التي ترى أن الحياة تهيمن عليها دوافع غير عقلانية ورغبات حيوانية وتسوقها إرادة عمياء لا تكترث بنا.

لكن بينما كانت استجابة شوبنهاور للحياة بوصفها معاناة وشرًا هو أن نحد من رغباتنا لأن لا إشباع سيدوم وفي كل مرة سترفع اللذة، التي ليست إلا تخفيفًا مؤقتًا للألم، من متطلباتها، كان رد فعل نيتشه مختلفًا، ورأى في اقتراح معلمه حيلةَ أحمق، فكرة تصلح لجبناء يختبئون من الحياة، يعيشونها بإنكار، حياة بلا حياة على الإطلاق، مجرد وصفة للعدمية والسلبية.

اِعتنق المعاناة يخبرنا نيتشه. فإرادة الحياة العمياء، هي في الأصل تدفق وتحول، نمو وازدهار وتغير دائم، وعلى المرء أن يقبل فكرة عدم الثبات وأن الحياة غير عادلة بطبيعتها، إذا ما نظرنا إلى المعاناة كحافز للإبداع والتقدم، سنتمكن من كسر الوضع القائم وتبديله.

يخبرنا نيتشه أن نقول "نعم للحياة"، أن نرفع رأسنا في مواجهتها رغم ضعفنا، وألا ننتظر عدلًا أو إنصافًا لن نصنعه بأيدينا.


إذا ما ألقينا نظرة على الرأسمالية، سنجد أنها شوهت معنى السعادة، وجعلت منها سلعتها الرائجة دومًا. تخبرنا أننا قد نجدها على شكل منتج أو حبة دواء أو في كوب قهوة أو زجاجة مياه غازية أو وجبة، أنها شيء مادي ملموس يمكنك دومًا الحصول عليه، تخبرنا الإعلانات أن منتجها الذي سيحقق السعادة هو بالضبط ما نرغب به.

نيتشه يجادل أن الإنسان لا يبحث أصلا عن السعادة، بل المعنى، وأن السعي المجرد وراء السعادة التي تخلط في الأغلب بالمتعة الصافية هو إهدار لطاقات الحياة البشرية.

يضرب نيتشه مثلًا بالعقول العظيمة، التي اختارت السعي وراء المعنى بدلا من السعادة باسم هدف وضعوه، التي لا يمكن لإنجازها أن يكون ابن المتعة الصافية، بل التضحية والمعاناة. هل أنجز نجيب محفوظ مشروعه الروائي على سبيل المثال أو بلغ محمد صلاح ذروة أدائه كواحد من أفضل لاعبي العالم، عبر المتعة أم التضحية؟ الشخص الذي يعاني لسنوات في صنع تحفة لا يفرح بها أثناء إنجازها ، بل يجد الفرح في الجمال الذي انتهى من صنعه.

إذا أردت أن تحقق شيئًا في حياتك، لا يكون السؤال ما مردود المتعة الصافية التي ستحصل عليها، بل مدى استعدادك للمعاناة والتضحية من أجل تحقيق هذا الشيء.

لكن هل كلنا عقول عظيمة؟ هل ينتظر منا جميعًا صناعة تحفة فنية أو بلوغ قمة مجال بعينه؟ هل يرغب جميعنا في ذلك؟ لا بالطبع، قد نجد سعادتنا في أشياء أقل، وهذا حق مشروع، لكن ربما يفيدنا هنا ما قاله عالم النفس فيكتور فرانكل، صاحب الكتاب الشهير الإنسان يبحث عن المعنى، الذي استقى أفكاره العلاجية من الوقت الذي قضاه في معسكر اعتقال نازي، ولاحظ كيف تمكن المعتقلون اللذين عانوا من أهوال لا يمكن تصورها من الاستمرار من خلال إيجاد المعنى، لا السعادة.

طبعة إنجليزية من كتاب هكذا تكلم زرادشت

 الجميع يريدون أن يكونوا سعداء؟ هذا بالضبط ما احتقره وتوقع أن يكون عليه مستقبل البشرية، الإنسان الأخير، الذي يصفه في كتابه هكذا تكلم زرادشت "وستصغر الأرض في ذلك الزمان فيطفو على سطحها الرجل الأخير الذي يحول إلى حضارة كل ما يدور به، إن سلالة هذا الرجل لا تباد، فهي أشبه بالبراغيث، والإنسان الأخير أطول البشر عمرًا.

ويقول أناسي الزمن الأخير متغامزين لقد اخترعنا السعادة اختراعًا، إنهم يقتحمون الحياة باحتراس؛ لأن الوجل والمرض في عينهم خطأ، وما سلم من الجنون من يتعثر منهم بالحجارة وبالناس".

إنسان يخشى أقل ألم ، ممل، بليد، لا يعرف الشوق، أو الهدف أو الشغف لشيء، والذي سيزعم أنه سيخترع السعادة داخل "صوبة"، لا تعنيه سوى ملذات آمنة باهتة، أن يرفه دومًا، وعوضًا عن الحقيقة لا يريد سوى التسلية، المختبئ من كل ألم، فلم يعد يفهمه.

لم يكن الإنسان الأعلى الذي اخترعه إلا محاولته لإنقاذ مستقبل البشرية من تفاهة الإنسان الأخير.


لا يمكنك أن تعرف الحب دون الشعور بالوحدة، بالجمال دون القبح، بالإيمان دون الشك. الآلام وحدها هي ما تجعل الملذات شيئًا ذا مغزى، الألم والمتعة صنوان، لا ينبغي فصلهما، تتشابك أفراحنا مع معاناتنا، بل إن المعاناة هي ما تنشئ العمق والمعنى، عبر التغلب عليها.

هذا ما تعلمه إيانا الفنون، خاصة المآسي اليونانية وأبطال روايات دوستوفيسكي اللذين نسج نيتشه منهم فكرته وسؤاله.

بدلًا من الاختباء من الوجود، علينا أن نحتضنه بامتنان وفرح، أن نعلم أن ليس ثمة خطأ إذا ما تألمنا، بل شيء مرتبط بهوياتنا كمخلوقات تنمو وتتغير، كل ما يضمن المستقبل يفترض الألم في الحاضر، الاستمتاع في المستقبل يعني الرغبة في تدمير الظروف الضيقة للحاضر.

لا يخفف الفن التراجيدي آلامنا، لكنه يعلمنا أن المعاناة قد تكون جزءًا من شيء أعظم بانتظارنا.

يرفض نيتشه المتفائل الساذج، والمتشائم العدمي، ما يطلبه هو تشاؤم نشط، ومثاله في ذلك كان من الأدب أيضا: دون كيشوت، الشخصية التي اخترعها ثيربانتيس، كرجل نشط وهادف في عالم قاسٍ وعنيف، يسعى وراء أهدافه على الرغم من المعاناة المستمرة والهزيمة والموت في نهاية المطاف، دون التوقف لإحصاء صافي الملذات والآلام.


في النهاية ما يخبرنا نيتشه إياه هو مجرد اختيار، قد يعينك في حياتك، وقد لا يكون مناسبًا لك، فكرة في صلبها شيء من غياب الرحمة، لذا أفضل أن أراها في ضوء آخر، ضوء الصوفية الإسلامية، التي تتردد بها الفكرة عينها، عن الإنسان الكامل، الذي يتجاوز ضعفه وصولًا إلى الإله الكامن فيه، لكنها على عكس نيتشه، لا تحتقر الصوفية الضعف الإنساني فينا ولا تجعلنا نزدري ضعف الآخرين، بل تفتح سبيلًا للرحمة، للفهم، محاطة بالغفران والتوبة وقدرة الإنسان على أن يبدأ دومًا من جديد.

السعي للإنسان الكامل هنا، هو سعي يدرك من البداية مدى نقصانه وضعفه، لكنها أيضًا ومثل نيتشه ما يطلبه في الجوهر هو أن يتحرر الإنسان من سطوة ذلك الشعور بالضعف، تضعه على عكس تصورات رجال الدين، أو الكهنوت المسيحي القديم الذي ثار عليه نيتشه، كهدف للوجود، خلق كل شيء لأجله، لا مجرد نكرة تدينها السماوات والأرض وتحمل فوق ظهرها عبء الخطيئة. ما يطلبه نيتشه وفلسفة الإنسان الكامل في الصوفية أن نرفع رؤوسنا بكرامة، ولو في مواجهة السماء، لأن ذلك ربما هو عين ما تريده.