IMDB
جان لوك جودار

جان لوك جودار: البحث عن غصن شجرة في السماء

منشور الخميس 22 سبتمبر 2022 - آخر تحديث الخميس 22 سبتمبر 2022

لم يكن "على آخر نفس"، A bout de souffle، إنتاج 1960، الروائي الطويل الأول لجان لوك جودار فيلمًا فقط، بل مانيفستو.

تكلف الفيلم 40 مليون فرنك فرنسي، وهو مبلغ زهيد بمقياس تلك الفترة، وقد أدى التقشف المالي الذي فرضه منتجه إلى اصطناع جودار لتقنيات مونتاجية مثل القفزات والوصل الخاطئ، هدفها تقليل مدته وبالتالى تكلفته. ولترشيد الميزانية أيضًا، استخدم جودار الكاميرا المحمولة، وسجل الفيلم على شريط كاميرا فوتوغرافية، وصوره خارج الاستوديو، "حيث توجد الحياة": في شوراع المدينة، في الريف، في المكاتب والغرف؛ لكن تلك القيود الاقتصادية رغم ذلك، أصبحت واحدةً من الأسباب الرئيسية لابتداع لغة سينمائية جديدة.

يبدأ الفيلم/ المانيفستو بجان بول بلموندو وهو ينظر إلى المشاهد مباشرة، ويحدثه بسخرية "لو مش بتحب البحر، لو مش بتحب الجبل، لو مش بتحب المدينة... فلتذهب إلى الجحيم".

كان نصيب بلموندو من سيناريو الفيلم الذي كتبه فرانسوا تروفو في 20 صفحة فقط، هو ثلاث صفحات فحسب. يذكر بلموندو أن النص الذي تسلمه كان مذكورًا فيه بعض الأحداث بشكل مختزل للغاية، وكان عليه في كل يوم تصوير جديد أن يكتشف ما الذى سيحدث للشخصية وكيف ستتطور وما الذى ستقوله.

الإعلان التشويقي للفيلم


"جودار فى إدارته للممثل يشبه قائد الأوركسترا العظيم الذى ينسى أن يعطي للعازف المدونة الموسيقية التى عليه أن يؤديها"؛ يقول الممثل جاك دوترون الذى شارك لاحقًا فى فيلم "انجوا بحياتكم" (1980) "Sauve qui peut [lavie]". الارتجال إذًا هو سيد الموقف في أعمال جودار الذي يبدع الفيلم أثناء التصوير، أما المعنى، فالمتفرج هو من يمنحه للصور: يتولد المعنى بعد المشاهدة وليس قبلها.

كان جان لوك جودار، المغرم بتحطيم القواعد من خلال التجريب بكل أشكاله، يتلاعب بالكلمات والصور والألوان، يتلاعب بقواعد المونتاج وبعلاقة الصورة والصوت؛ يخلط بشكل عشوائي بين الخيالي والوثائقي، بين الفن التشكيلي والسوسيولوجيا، بين الموسيقى وفن الفيديو، أفلامه لا تحتوي بالضرورة على سيناريو أو حوارات سابقة الإعداد، ولكن هناك سلسلة من الصور المجمعة أو فسيفساء من العناصر المرئية والملاحظات المتناثرة، يتم تجميعها وفقًا لروابط بصرية وصوتية.

كان رائد الموجة الجديدة "يسير لساعات بحثًا عن كادر معين قد يكون لغصن شجرة له ملمح خاص يخط شكلًا ولونًا في فراغ السماء"، بحسب واحدة من مساعديه، التي تصفه بالباحث الشغوف الذى لا يكل حتى يجد الكادر الذى يريد رسمه فى الفيلم. 

وفي حفل تسليمه جائزة الأوسكار الفخرية عن مجمل أعماله عام 2010، يصف كاتب السيناريو فيل ألدن روبنسون، جودار بأنه غيّر "طريقة الكتابة والإخراج والتصوير والمونتاج" فهو "لم يخل فقط بالقواعد، بل دهسها تحت عجلات السيارة، قبل أن يعود للوراء ويمر عليها مرة أخرى لكي يتأكد أنها ماتت بالفعل".

أما فرنسوا تروفو فيعتبر "على آخر نفس" نقطة تحول في تاريخ السينما، مثله مثل المواطن كين (1941) لأورسن ويلز، حيث حطم من خلاله جودار "كل النظم وآثار الفوضى في السينما (...) وجعل كل شيء ممكنًا".

متى أصبح كل شيء ممكنًا؟

في الثالث من ديسمبر/ كانون الأول عام 1930، ولد جان لوك جودار في باريس في عائلة كبيرة وثرية من عائلات البرجوازية البروتستانتية فى فرنسا، وحظي طفلًا بتربية ثقافية كلاسيكية رفيعة المستوى ومارس الرياضة بكثافة، لكنَّ العلاقة مع أسرته تخلخلت بشكل متزايد بسبب خروجه على التقاليد واهتمامه المتزايد بالسينما التي لم يُنظر إليها بعين الاعتبار في وسطه العائلي، بالإضافة إلى ممارسته للسرقة في شبابه.

وفي واحدة من تلك المرات، سرق جودار كتب الشاعر الفرنسي بول فاليري من مكتبة جده، وكان فاليري صديقًا للجد، وقد أهداه طبعات خاصة من دواوينه، وبعد سرقتها باعها الشاب لمكتبة جاليمار الكائنة أمام منزل الجد، إمعانا فى الاستفزاز والسخرية من العائلة ومن قيمها.

لم يحصل صاحب "هنا وفي مكان آخر" على شهادات دراسية ولم يهتم باستكمال تعليمه، بل بدأ منذ 1947 فى ارتياد نوادي السينما والسينماتيك الفرنسية، فتشكلت ذائقته ووعيه السينمائي من خلال حركة تلك النوادي وكذلك حركة المجلات السينمائية التي نمت وتكاثرت بعد الحرب العالمية الثانية، حيث بدأ مفهوم السينيفيليا (الشغف بالسينما وبثقافتها) يترسخ من خلال شخصيات مثل أندريه بازان وجورج سادول وهنرى لانجلوا مؤسس السينماتيك الفرنسية، الذى كان أول من دعا إلى حفظ كل شيء يتعلق بالأفلام وبصناعة السينما وعرضه على الجمهور.

وفي السينماتيك تمكن جودار من رؤية "كل شيء" كما تعلم الكثير، فكان هنري لانجلوا أشبه بالأب الروحي لجيل جودار من شباب السينفيل.

حوار تلفزيوني مع جودار 1980


وكيف صار؟

بعد أن هجر العائلة تعرف جان لوك، الذي بدأ حياته كناقد، على مجموعة من شباب السينمائيين ممن سيشكلون معًا ملامح حركة الموجة الجديدة في السنيما الفرنسية: إريك رومر وفرانسوا تروفو وكلود شابرول وجاك ريفيت.

ومن خلال مجلات "جازيت السينما" (La Gazette du cinéma) و"كراسات السينما" (Les cahiers du cinéma)، بدأ جودار وزملاؤه في تطوير مفاهيمهم عن سياسة المؤلف فى السينما، وكتبوا عن شغفهم بالسينما الأمريكية واضعين هيتشكوك وهوارد هوكس بوصفهم مخرجين- مؤلفين في مكانة مناظرة لمكانة روسللينى ورينوار: الـ"هاء" الأمريكية في مقابل الـ"راء" الأوربية، وهو الأمر الذي صدم الكثيرين في تلك الفترة ممن كانوا يرون في السينما الأمريكية منتجا تجاريًا لا مجال لمناظرته بأعمال كبار السينمائيين الأوربيين.

وفي مارس/ آذار 1960 قدم جودار أول أفلامه "على آخر نفس" الذى شكل ثورة على أكثر من مستوى، ثورة تقنية وفنية، ثورة من خلال الحرية التي يتنفسها وتتردد أصداؤها في صدور مشاهديه.

صنع الفيلم قطيعة مع كل ما سبق وحقق نجاحًا منقطع النظير وأصبح بامتياز الفيلم التأسيسى للموجة الجديدة، وذلك بالرغم من صدور أفلام سابقة عليه فى هذا التيار مثل "400 ضربة" (Les 400 coups) لتروفو و"سيرج الجميل" (Le beau Serge) لكلود شابرول.

صار جودار مخرجًا ذا أهمية كبرى وشخصية رائدة في عالم الفن والمثقفين، واستمر فى صنع الأفلام الناجحة حتى 1967 التي أصدر فيها فيلمين: "نهاية الأسبوع" (Weekend) و"الصينية" (La chinoise)، وعندما قامت ثورة 1968 التي استشرفتها بعض أفلامه السابقة، اتخذ مواقفَ سياسيةً راديكاليةً باتجاه أقصى اليسار، جعلته ينفصل عن عالم السينما ويرفض الأضواء، وصار يوقع بعض أفلامه تحت اسم جماعي مستعار هو "مجموعة دزيجا فيرتوف"، واتجه إلى السينما السياسية وتخلى عن فكرة سينما المؤلف.

وفي 1974 تعرف على من ستكون رفيقته حتى آخر أيامه آن ماري مييفيل، وقدما معًا تجارب في الفيديو والتلفزيون، لكن تلك المرحلة لم تحظَ بنجاح جماهيرى، وهو ما لم يكن يبحث عنه جوادر في تلك السنوات.

عاد جودار إلى السينما في مطلع الثمانينيات مع فيلم "انجوا بحياتكم" Sauve qui peut (la vie). وحقق بهذا الفيلم نجاحًا كبيرًا استعاد به المكانة المركزية التي احتلتها أفلامه خلال الستينيات. أخرج بعدها للسينما أكثر من 30 فيلمًا ما بين 1981 و2018، وتوجت آخر أعماله "كتاب الصورة" (Le livre d’image) بسعفة ذهبية خاصة، عند عرضه في المسابقة الرسمية لمهرجان كان في عام 2018.

الإعلان التشويقي لفيلم Sauve Qui Peut


إلى اليسار ومع القضية

يقول جودار في حوار مع جان ناربوني، المحرر السابق في مجلة "كراسات السينما"، إن "الهجمات الانتحارية للفلسطينيين التي تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية، تشبه ما فعله اليهود ذاتهم عندما تركوا أنفسهم يُقادون مثل الأغنام ويُبادون في غرف الغاز، ومن ثم ضحوا بحياتهم من أجل تحقيق وجود دولة إسرائيل".

على مدار تاريخه قدم جودار رؤيته عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي سواء من خلال أعماله التي تعبر عن مواقفه المعادية لإسرائيل، أو من خلال مقولات يسعى بها لاستفزاز المتلقي، أو من خلال التصوير في المخيمات الفلسطينية في لبنان والضفة الغربية، وهي المواقف التي تسببت في اتهامه بمعاداة السامية.

في عام 1974، عندما صور فيلمه الوثائقي "هنا وفي مكان آخر" (Ici et ailleurs) قدم مفهومه عن المونتاج كرؤية مقارنة للتاريخ من خلال كادرات تتداخل فيها صورة لجولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية حينها، مع صورة أدولف هتلر، لمقارنة الإسرائيليين بالنازيين، مما تسبب فى إثارة الرأى العام الفرنسي بشكل عنيف.

وفي عام 2018، وقع على عريضة مع عشرات المشتغلين بصناعة السينما الفرنسية بهدف المقاطعة الثقافية لإسرائيل، أثناء فاعليات موسم فرنسا وإسرائيل الذي نظمه المعهد الفرنسي. وفي العام التالي، وقّع على نداء مع 400 شخص نشرته صحيفة "ليبيراسيون" (Libération) بهدف رفض تجريم المعارضين للأيديولوجية الصهيونية التي تدعو إلى توطين يهود العالم في فلسطين.

حصد جودار الذي هرب من التكريمات العديد من الجوائز المرموقة، لا سيما في مهرجان كان السينمائي وسيزار والأوسكار وفي مهرجان برلين وفي مهرجان البندقية السينمائي، قبل أن يختار الموت الرحيم فى 13 سبتمبر 2022، محاطًا بأحبائه فى منزله بسويسرا.

رحل جودار لكنه ترك إرثًا سينمائيًا ضخمًا وملهمًا لأجيال من المشاهدين ستظل تدهشهم قدرته على التجديد بلا حدود.