مدنيون يهربون من قصف القوات الإسرائيلية لمدرسة للأمم المتحدة بالفوسفور الأبيض. غزة ٢٠٠٩.

غزة.. معمل تجارب لأفكار المستقبل

منشور السبت 9 ديسمبر 2023

أعادت حرب غزة طرح علاقتنا الشائكة، كشرق وعرب، بالغرب. تتركز الأشواك عادة في خانة الإحساس بدونيَّتنا أمام ذلك الغرب المستعمِر. كأنَّ الإحساس بالدونية تحوَّل إلى عَرَضٍ أصيل ومتأصل لمشكلة لم تُحل بعد، كونها تُكرَّر وتتفجر شظاياها في فضاءات مخيلتنا وثقافتنا، وليس هناك أيُّ حِلٍّ أو برءٍ منه ومن آثاره النفسية العميقة.

ربما تحوَّلت العلاقة إلى عقدة نفسية مُركَّبة ليس لها طريق واحد للعلاج، لأنَّ حلها ليس من طرف واحد، بل تتداخل فيه صورة الآخر الغربي عنا، بجانب صورتنا نحن عن أنفسنا، لتجنب ذلك المأزق النفسي المعطِّل لأيّ نموٍّ أو تطور فكري.

لا تزال الحدود الاستعمارية فاعلة

حملت صيغ العولمة والكونية التي أذابت حدود العالم وجغرافيته القديمة والحديثة، المادية والمجازية معًا، بشارة بزوغِ عالم جديد، لكنَّ هذا العالم الجديد المتجانس بالعولمة، تحوَّل إلى عالمٍ افتراضيٍّ هشٍّ أكثر منه حقيقي.

فلحدود الاستعمارية القديمة بشقيها المرئية وغير المرئية، وميراثها النفسي الشائك؛ لا تزالان فاعلتين في لا وعينا، كشرق، وكعرب، نستشعرها في لحظات الفوران العالمي وانقلاب الخريطة رأسًا على عقب والحروب التي تستدعي ذلك المخزون النفسي من الخوف والقهر والإحساس بالدونية.

تحاول العولمة، كأحد أوجه الاستعمار الجديد، أن تخلق مكانًا واحدًا افتراضيًا، كما حاول الاستعمار من قبل أن يخلق مكانًا واحدًا ماديًا يشيِّد عليه إمبراطورياته التوسعية، التي لم تصمد كثيرًا، وظهرت الخروقات في جسدها مفرط التضخم/الترهل، وزالت.

التقدم التقني وحده لن يزيل تلك النظرة الدونية فكلُّ أدوات التقدم تحمل في طياتها نزعة استعمارية

إشكالية الدول المستعمَرة أنها تعيش دومًا في فلك وجاذبية ذلك المستعمِر. القرب المكاني الذي لا مفر منه، بجانب التفوق المادي، يولدان تلك الصيغة النفسية المركبة.

تتداخل الصورتان في مخيلتنا، صورتنا وصورة المستعمِر، حبًا أو كراهية. يتراوح حضوره في مخيلتنا بين كونه مثلًا أعلى، وشيطانًا أيضًا. نظل نتخبط في تلك المرايا المتعددة دون أن نُخلَّص صورتنا من هذا التشابك والتداخل المزمن، أو أن نتعالى فوق هذه الدونية، ونحرر صورتنا من أسر هذه الرقابة الأبوية.

ربما علامة من علامات شفائنا المستقبلية، ونهاية حقبة مرضية من تاريخنا كعرب؛ عندما ننسى هذه العقدة النفسية، ولا نستدعيها، وأن تكفَّ عن فرض نفسها علينا كلما مررنا بأزمة تاريخية كبرى كما يحدث الآن في غزة. عندها سنتحرر ويكون لنا وللأجيال القادمة مكان جديد، ننظر منه على الحياة والعالم، وعلى أنفسنا، دون صور مسبقة.

أعتقد أنَّ التقدم التقني وحده لن يفيد في إزالة تلك النظرة الدونية أو في تغطيتها أو إسقاطها من تلقاء نفسها. فكلُّ أدوات التقدم تحمل في طياتها نزعة استعمارية وتمييزًا تقوم بفرضه على مستخدمها بداية من الآلة الكبيرة حتى أصغر جزء أو معنى.

الكلُّ يحمل شبح ذلك الأصل القديم بداخله.

هل هناك شرق آخر؟

هل تلك مشكلة الاستعمار وحده أم أيضًا قلة حيلة الدول المستعمَرة؟ كونها أحادية في الاختيارات التي بنت عليها ثقافتها، كما ذكر تودوروف في كتابه فتح أمريكا. أو ربما قوة صورة المستعمِر السلبية والخاطئة، عنا وعن نفسه، التي تبنيناها وصدقناها، وأصبحت جزءًا من نسيج مخليتنا وصورتنا عن أنفسنا، كما أشار من قبل إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق؛ كانت أقوى من إمكانية تحقيق المساواة.

ربما خارج تلك الصورة يقبع مستعمِر آخر، وشرق آخر لم يتم التعامل معه ولم يعلن عن نفسه ينتظر الاكتشاف. شرق لا يزال طيَّ البحث، يعيد تكوين صورة جديدة بها بعض المساواة عن نفسه وعن الآخر. ربما نحتاج إلى امتلاك أدوات المستعمِر المعرفية في الاكتشاف، دون أن نملك أخلاقه عند التعامل مع الجانب النفسي المخفي من ثقافتنا.

ربما قتل إدوار سعيد الغرب

ربما الصورة التي صنعها إدوارد سعيد عن الغرب المستعمِر، في جزء منها، نموذجية، أخافتنا نحن، مَن وقع علينا الظلم. صنع نموذجًا من ذلك الغرب المخيف غير القابل للعدالة أو الحوار. ربما قتل إدوارد سعيد الغرب في طريق نقده للفكر الاستعماري وطريقة صناعته لصورة مزيفة عن الشرق، ولم يجد الطريقة التي نتعامل بها معه، أو يكتشف غربًا آخر يمكن التفاوض معه حول مفهوم العدالة، ربما هذا المنهج النظري على قوته، نفى أيَّ محاولة لإقامة علاقة مستقبلية بين المستعمِر والمستعمَر.

إدوارد سعيد

قد تصنع حرب غزة ذلك المشترك المستقبلي المفقود برمزيته الذي تاه وسط موجات من الاستهلاك والاستغلال على كل الأصعدة، فسحب من أي مشترك تحرري قديم فاعليته.

ما يحدث الآن في غزة معمل تجارب لأفكار المستقبل، بوصفه جزءًا من نظام وممارسة استعمارية لن يطول أمدهما بالشكل نفسه، وأيضًا ما سينتج عنه، سيحاول تغطية النقص القديم في نظرية الاستشراق، باحتدام الصراع والقرب بين المستوطن وصاحب الأرض.

أعتقد أنَّ طاقة الغضب والعنف التي ولدتها هذه الحرب ستأخذ طريقها في عدة مناحٍ دينية وثقافية واجتماعية، بل ودولية، جميعها تدور حول سؤال العدالة وجسر الفجوة والنقد الذاتي بين الشرق والغرب، بحثًا عن هذا الشرق الآخر، الجدلي، الذي لم يكتشفه الغرب.

ربما هذه الصورة التقليدية المتخيلة عن الشرق كانت سابقة على فكرة المستعمِر نفسه، وكانت لها آثار وجذور أسطورية منتشرة في ثقافات العوالم القديمة، وصُبَّت واستُغلِّت وأُلبست ثوبًا جديدًا.

غزة وخطاب حول الاستعمار

ما يحدث الآن في غزة، بهذه القوة والعنف المجاني الغريزي، والعنف المقابل، ووضوح النية في الإبادة، وأيضًا النفاق الدولي؛ إعادة لمشهدٍ استعماريٍّ قديم، بين المستعمِر مستوطِن هذه الأرض، والسكان الأصليين.

كان هناك دومًا ربط بين الاستعمار والحضارة، كون الأول أحد وسائل نقل الثانية مكانيًا. ولكن إيميه سيزار، المولود في جزر المارتينيك وأحد أبرز وجوه تيار الزنوجة في الشعر الفرانكوفوني وأحد رموز الحركة المناهضة للاستعمار، يدحض هذه الفكرة في كتابه خطاب حول الاستعمار*، بأنَّ الاستعمار لا يصنع حضارة ولا امتزاجًا. أيُّ مكان جاء إليه الاستعمار خلَّف وراءه تناقضًا غير قابل للاندماج بين ثقافتين، مثل بقعة زيت.

يكتب إيميه سيزار "إن المسافة بين الاستعمار والحضارة لا نهاية لها، وإن البعثات الاستعمارية مجتمعة وكل التشريعات التي سنها المستعمر أو المذكرات الدبلوماسية التي تم إرسالها خلال التاريخ الطويل للاستعمار، لم تأتِ بقيمة إنسانية واحدة".

ويضيف في مكان آخر "ما من مستعمِر بريء، وما من مستعمِر يمكنه أن يفلت من العقاب الذي ينتظره. فالأمة التي تستعمر غيرها، والحضارة التي تقدم التبريرات للاستعمار، وتبرر بالتالي استخدام القوة، هي حضارة مريضة أساسًا. إنها حضارة تعاني من أزمة أخلاقية وما أن تخرج من مطبٍّ حتى تنزلق في الذي يليه لتهوي فيه دون أدنى مقاومة، وهي حضارة ترفض باستمرار الاعتراف بما اقترفته بحق الآخرين. إن حضارة كهذه، لا بد أن تستدعي هتلرها، أعني عقابها".

ويشير إيميه سيزار من بعيد إلى أن "نموذج هتلر" قابع كشبح خلف أوروبا التنويرية، وتم توالد هذا النموذج في الدول المستعمَرة، مع إضافة تشوهات الدونية له، ليُعاد إنتاج الديكتاتوريات والسلطات مطلقة.

يضيف أيضًا عن النظرة الحيوانية التي ينظر بها المستعمر للآخرين، كما جرى في غزة، والشر الذي يمارسه ويرتد على نفسه، ويدمر صاحبه؛ "الاستعمار (...) ينتزع الإنسانية حتى من أكثر الناس تحضرًا، ويُثبت أنَّ الممارسات والمشاريع والغزوات الاستعمارية التي تُرتكب عادة بدافع الاحتقار والازدراء الموجه للسكان الأصليين ويتم تبريرها بهذه الدوافع، لا بد أن تؤثر حتمًا على مرتكبها. فالمستعمِر، وفي محاولة منه لإراحة ضميره، يقنع نفسه بأن ينظر إلى الإنسان الآخر كحيوان، ويعوّد نفسه على أن يعامله كحيوان، حتى أنه يميل، وبكامل حواسه، إلى أن ينقلب هو نفسه إلى حيوان. (...) ويرتد الشر على نفسه، هذه هي نتائج الاستعمار التي أردت أن أسلط الضوء عليها".

ويرى أن "أوروبا الاستعمارية جاءت لتطعِّم المظالم التي كانت سائدة في المجتمعات الأصلية بانتهاكات حديثة، وتحقن مشاعر التمييز التي كانت موجودة قبلها بعنصرية مقيتة".

سارتر وفرانز فانون

ربما لن نجد صوتًا ضد الاستعمار، أقوى من صوت الفيلسوف الفرنسي سارتر في مقدمته لكتاب معذبو الأرض، للمناضل ضد التمييز العنصري وأحد رموز حركة التحرر في الستينيات فرانز فانون (1925 - 1961)، الذي يدور حول تفكيك مفهوم الاستعمار والاستعباد.

بوفوار وسارتر مع جمال عبد الناصر

هناك اتهام واضح يوجهه سارتر لفرنسا بسبب احتلالها للجزائر وغيرها من الدول الإفريقية، ويأخذ في طريقه اتهام أوروبا المسيحية وتنويرها بالاستغلال.

نقد لا هوادة فيه وسخرية من كلِّ الدول المستعمِرة. ينقد سارتر أيضا موقعه كمثقف، حتى لا يجد نفسه يتحول إلى بوق دعاية وآلة من آلات الاستعمار الذي يقوم بنقده، لذا يتخذ موقفًا صريحًا وواضحًا ويفضح هذه الحضارة الاستعمارية التي تقنَّعت بأقنعةٍ عِدَّة تحاول بها إخفاء وجه المستعمِر القديم.

هذا الصوت الذي ربما لا يضاهيه الآن سوى صوت نعوم تشومسكي في وضوح النبرة والأسلوب، لا يعرض نظرية عن الاستعمار، بقدر ما يتابع حكاية الاستعمار، ويتعامل معه كمريض نفسي ليكشف عقده التاريخية، وأساليبه وآثاره، وأخطاءه شديدة الوضوح.

سارتر الذي جعل من جان جينيه، صاحب يوميات لص، مرشدًا روحيًا لفرنسا الاستعمارية، ها هو يعيد ويرفع فرانز فانون، ويطالب أن يستمع الغرب الاستعماري لصرخته ضده في كتابه "معذبو الأرض"، لأنه يرشدهم إلى موقع الفضيحة في جسدهم الاستعماري.

يكتب سارتر في مقدمته عن خطوات زوال الاستعمار؛ "مسكين هذا المستوطن. لقد عرّى تناقضه. أنَّ عليه أنْ يقتل أولئك الذين ينهبهم. كما يفعل الجني فيما يقال. ولكن ذلك غير ممكن: أليس عليه أيضًا أن يستغلهم؟ وهكذا.. فلأنه لا يستطيع أن يمضي في التقتيل إلى حد إبادة النوع ولا يستطيع أن يمضي في الاستعباد إلى حد جعل البشر بهائم.. يفتقد مواطئ قدميه وينقلب الأمر. فإذا بمنطق محتوم يؤدي إلى زوال الاستعمار".

هذه نهاية الرحلة الاستعمارية التي تريد أن تصل بالآخر لحدٍّ مستحيل ومعدوم من المقاومة، فبطلبه هذا من الآخر، أن يكون صفرًا وجوديًا، يكون أكمل القضاء على فكرته المستحيلة اللاإنسانية، قبل أن يقضي على هذا الآخر الذي نهبه واستغله. فالمستعمر يحمل جوهرًا متناقضًا سيقضي عليه في النهاية.

ربما هذا النوع من المثقفين الجذريين، مثل سارتر، الذين يحملون عداء لحضاراتهم، لا يظهر إلا كنتاج لهذه الدول والحضارات الاستعمارية الكبرى. هذه الجذرية هي النقيض/الهامش لهذا الاستعمار الذي يُشكّل المتن.

كنز الكراهية

يدحض سارتر المستعمر الأوربي وأعذاره عن مبررات استعماره للآخرين؛ "أنه يقول إنه يلحق بالسكان الأصليين شرًا لكي يكبح الشر الموجود فيهم". وهنا يسائل سارتر متعجبًا هذا المستعمِر الأعمى "الذي لا يرى في هذه الغرائز قسوته هو وقد انقلبت عليه. كيف لا يرى في وحشية هؤلاء الفلاحين المضطهدين وحشيته هو".

ويضيف واصفًا الكره الذي يتولد عند السكان الأصليين بسبب ممارسات الاستعمار التعسفية، بأنه مثل الكنز، الذي يُستخدم لاسترداد الحق. فالكره، وهو إحدى أدوات الاستعمار القديمة التي يزرعها ويزكيها في من يستعمرهم، عاد وأصبح في أيدٍ أخرى حرًا وقادرًا على التدمير "أن الكره الذي ما يزال أعمى وما يزال مجردًا هو كنزهم الوحيد: أنَّ السيد هو الذي يثير فيهم هذا الكره لأنه يريد أنْ يجعلهم كالبهائم، وهو لا يظفر بتحطيم هذا الكره، لأن مصالحة تجعله يتوقف في منتصف الطريق".

يكتب أيضًا عن المناضل ضد الاستعمار، أيِّ استعمار في أي مكان وزمان، وعلاقته بالموت، وهي العلاقة الأثيرة، ركن الزاوية في مفهوم التحرر، يقول عن هؤلاء، ويجملهم في شخص واحد اعتباري؛ "لقد بلغ من فرط رؤيته لاحتضار الآخرين أنه لا يريد أن يعيش بقدر ما يريد أن ينتصر. غيره سيستفيد من هذا النصر لا هو. لقد سئم هو ولكن هذه السآمة هي مصدر شجاعة لا تصدق. نحن نجد إنسانيتنا سابقة على الموت واليأس. أما هو فيجدها بعد العذاب وبعد الموت".


  • من مقال خطاب حول الاستعمار: للشاعر والمسرحي والسياسي المارتينيكي إيميه سيزار- ترجمة نورا عدوان. موقع صفحات سورية.
  • "معذبو الأرض". فرانز فانون- ترجمة د. سامي الدروبي، ود. جمال الأتاسي. مدارات للأبحاث والنشر.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.