تصوير: محمد فرج
بشير السباعي في منزله

بشير السباعي: الشاعر المسكون بآلهة كثيرة

منشور الاثنين 6 مايو 2019

بعد أن دفنوا الشاعر/ تحت سماءٍ سكندريةٍ غائمة/ قال واحد منهم لآرسين يرجات*: "كان ملحدًا.../ بأمّ عيني رأيته ذات مَرَّةٍ/ أمام تماثيل التاناجرا،/ كان مفتونًا إلى حدِّ التلاشي!"/ لم يَرُدَّ يرجاتُ من فوره،/ بدا كما لو أنّه لم يسمع شيئًا/  كان يتأملُ السماءَ الغائمة./ ودون أن يتوقفَ عن السير/ ودون أن يُحَوِّلَ بصره الحادَّ عنها/ تمتم بنبرةٍ حزينة: "كان مسكونًا بآلهةٍ كثيرة ...".

كتب بشير السباعي القصيدة أعلاه في ديسمبر عام 1996، وأعطاها عنوانًا: "الشاعر". والأبيات كما هو ظاهر تتحدث عن رجل بعينه اعتبره كاتب القصيدة الشاعرَ بألف ولام التعريف دون حاجة إلى ذكر اسمه، فأسلوبية بشير وحدها بالسرد والمشهدية، واستدعاء الإسكندرية وتماثيل التناجرا اليونانية الوثنية تشير دون أي مواربة أو غموض إلى قسطنطين كفافي، الذي يظهر اسمه فقط في هامش الصفحة في التعريف بآرسين يرجات كشاعر مصري أرمني فرانكفوني من أصدقاء كفافي.

وكأنما الشاعر كاتب القصيدة يشير إلى ذاته بتلك العبارة التي أوردها على لسان الشاعر الأرمني : "كان مسكونًا بآلهة كثيرة!" نعم بشير السباعي أيضًا كان مسكونًا بآلهة كثيرة. آلهة بشرية، كفافي نفسه من أهمها،  وثمة موقع هام أيضًا لجورج حنين إلى جواره بينما يتبوأ ليون تروتسكي ربما المكانة الأعلى في هذا المجمع البشري.

 

كفافي، تروتسكي، جورج حنين

لم يستلهم بشير من كفافيس فقط ذلك التأرجح الأبيقوري بين الهيدونية والزهد، ولكن بالأخصّ الولع بشعرية التاريخ،  والقدرة على قراءة اللحظة الراهنة، لا في تاريخيتها فقط (وهذا بالطبع درس الماركسية الأول) ولكن وأيضًا من خلال منظور رأسي يرى لحظات من الماضي المجيد أو المُخزي متراكمة كطبقات تحتها، و تلك القدرة على التناسخ في أرواح عديدة بطول هذا التاريخ.

في قصيدة أخرى ينقل بشير مشهدًا من أيام أحمد بهاء الدين التي لها تاريخ، نقله بدوره عن أيام طه حسين، حول جمال الدين الأفغاني إذ كان يجلس بمقهى متاتيا إلى تلاميذه في نهايات القرن التاسع عشر  "يوزع السعوط بيد والثورة باليد الأخرى" فيراه بشير جالسًا بمقهى زهرة البستان عام 1989، بعد أن انتقل قلب المدينة النابض من مغاني الأزبكية التي تُذكِّر ب "المروج الفارسية الخضراء" إلى نواحي باب اللوق وقصر النيل، بين رميتي زهر، حزينا ومهموما وضجرًا لا يكاد يثبت عينيه على شيء و"يوزع السعوط بكلتا يديه"!  دون أن يفوت الشاعر المهووس بالتدقيق أن يردَّ لذلك الثوري الرحّال الغامض نسبه الحقيقي إلى أسد آباد، عوضًا عن صفة "الأفغاني" التي عُرِفَ بها في العالم العربي.

وإضافة لكونه روحًا مسكونًا بآلهة كثيرة، كان بشير أيضًا جسدًا مسكونًا  بأشخاص عديدين، مثقفًا متعدد الأدوار: هو دارس الفلسفة تلميذ الدكتور زكريا إبراهيم الأثير، وهو المناضل التروتسكي مؤسس العصبة الشيوعية، وهو المؤرخ المتخصص في تاريخ الانتليجنسيا المصرية،  وهو موظّف الحكومة مترجم الهيئة العامة للاستعلامات، وهو المترجم الحرّ الذي ينهل من ثلاث لغات، وهو المحرِّض الثقافي الذي ألهم أجيالاً ثلاثة أو أربعة من مثقفي مصر مفاهيم وأفكارًا جديدة ومختلفة عن الحق والجمال.

وفوق هذا كلّه هو الشاعر، لا بديوانيه الوحيدين الذين أصدرهما "مبدأ الأمل" و"تروبادور الصمت"، ولكن بكلّ ما ألهم وكتب وترجم.

لا ينتمي بشير السباعي (1944-2019) إلى جيلٍ بعينه في الحقل الثقافي المصري. فهو أصغر قليلًا من جيل الستينيات: من أصلان ودنقل وصنع الله وحكيم وبهاء ويحيى الطاهر وعلاء ومنصور وإبراهيم فتحي... وهو أكبر قليلًا من جيل السبعينيات: إمبابي والورداني والمخزنجي وحلمي ومنعم وطه وعبد المقصود.

سقط ومعه أحمد حسان في المسافة الفاصلة بين جيلين إشكاليين فكان   كلاهما أكبر من فكرة المجايلة التي أرهقت الوسط الثقافي في مصر بحروب العصابات الرمزية، وصارا عابرين للأجيال. وعلى الرغم من ذلك، تقارب بشير أدبيًا مع جيل السبعينيات في جناحه الشعري.  وتحديدًا مع جماعة أصوات التي ضمّت أحمد طه وعبد المنعم رمضان وعبد المقصود عبد الكريم وبعضوية شرفية لمحمد بدوي ومحمد عيد إبراهيم.

ولعل اقترابه من هذه المجموعة كان على أرضية اهتمامهما المشترك بالسوريالية. وإن اختلفت مداخل بشير إليها عن مداخل جماعة أصوات، فالتروتسكية بالتأكيد هي التي قادت بشير لها، من مفهوم الثورة الدائمة، ومن البيان المشترك الشهير بين تروتسكي وأندريه بريتون برعاية الرسام المكسيكي دييجو ريبيرا.

أما جماعة أصوات ففي الأغلب قد انتبهت إلى هذه الثورة الفنية الكبيرة عن طريق أدونيس وأنسي الحاج وترجمات مجلة "شعر" البيروتية. ولم يعرف عن مجموعة أصوات، باستثناء الشاعر أحمد طه، انتماءً سياسيًا واضحًا لليسار فضلا عن التروتسكية. أما جماعة مجلة شعر اللبنانية فمن الصعب وسمهم بأي هوى يساري، ما لم نقل إنّهم أقرب لأشكال اليمين المشرقي المتمحور حول العرق أو الطائفة، على الأقل في لحظة تأسيس المجلة.

عرفنا كفافيس للمرة الأولى من خلال مجموعة قصائد نقلها عن الفرنسية ونشرتها دار إلياس في طبعة أنيقة مزدوجة اللغة قدم لها الدكتور غالي شكري.  لم أكن عرفت ذلك الاسم الهام قبل ذلك إلا عبورًا أثناء تصفح عدد قديم من مجلة "جاليري 68".  

وفي نفس الوقت تقريبًا عرفنا جورج حنين عن طريق ترجمته المشتركة مع أنور كامل لمجموعة "لا مبررات الوجود". وذلك قبل أن نعرف بشير شخصيًا في مطلع التسعينيات. 

كان لهذين الكتيبين وقع السحر عليّ شخصيًا، وعلى الكثير من أفراد جيلي كما أعتقد. مع كفافيس اكتشفنا قيمة السرد كأداة شعرية، أحد روافد اللغة اليومية لقصيدة النثر المصرية في شكلها التسعيني، مع المشاهد المنفلتة في المقاهي التي تُضيؤها مصابيح الغاز في إسكندرية بدايات القرن العشرين، ذلك العالم الكوزموبلويتي المتوسطي الآفل لصالح حداثة وطنية قيد الإنشاء، والذي كان يجد الشاعر بذور انهياره في التاريخ الهلينستي الذي انتمى إليه جسدًا وروحًا، نقله بشير إلينا حيًّا ينبض في "المهالك" و"إيثاكا" والمدينة التي ستتبعك أينما سرت.

وحين صدرت تلك القصائد بالعربية عام 1991، كانت اللحظة التي تفتحت على أنقاض العالم الذي عرفه كفافي صارت بدورها في طور الأفول. ولا بد أن بشير المترجم هنا كان يعمل لحساب بشير الشاعر وبشير مؤرخ اللحظات المنفلتة.

أما عن حنين ومجموعة السوريالية المصرية فقد كانت كشفًا مبهرًا، لبشير وحده السبق في استخراجه من تحت ركام  النسيان المتعمّد  وتشويه الكُتاب المتعجلين والمنتحلين. وكتب بشير - المؤرخ الثقافي- سيرة تلك الحركة في مقدماته للترجمات وفي مقالاته المتفرقات، وقد جمع بعضها لاحقًا في كتاب "مرايا الانتلجنسيا"، مفندًا ومدققًا المعلومات المغلوطة حولها.  

لم يتأثر بشير كشاعر بجورج حنين كتأثره بكفافي، وإن وجد في السوريالية، في قوّة الحلم، وفي إطلاق وحوش الظلام النائمة من عقالها،  ثورةً قادرة على تفكيك البنى العقلانية القديمة التي خطفتها كل أنواع السلطات لتشيّد على أساسها معابدها وسجونها. 

كان بشير المترجم هنا  مع نصوص حُنين وإدمون جابيس وجويس منصور يعمل في خدمة بشير الشاعر وبشير مناضل الثورة الدائمة.

حين عرفته كان بشير قد اعتزل العمل السياسي التنظيمي، بعد أن أدرك أن مجال فاعليته الحقيقية هو مجال الأفكار.  كان في نهاية أربعينياته مديرًا بإدارة الترجمة بالهيئة العامة للإستعلامات في موقعها القديم بشارع طلعت حرب، بجوار سينما راديو.

يخرج يوميًا من العمل في حدود الثالثة عصرًا ليتناول غداءه في مطعم صغير بشارع محمود بسيوني مجاور لمدخل ممر "الجريّون" الشهير.  مطعم "الباشا والهانم" بأربع طاولات فقط يعتمد أكثر على التوريد للولائم والتوصيل للبيوت، طعامه كان مميزًا نظيفًا ومعتدل الأسعار، يديره شريكان، لبناني وإيطالي متمصّر.  زرت بشير عدة مرات به وتناولت معه الغذاء هناك، وكان الشريكان يتحركان على الموائد ، بين الزبائن القلائل يوزعان القفشات وحكايات العهود الخالية. قلت هذه هي أجواء بشير المفضلة.

من الموظف العتيد، الكاتب المصري جالس القرفصاء، استمد بشير ذلك الدأب المحفوظي (من نجيب محفوظ) على العمل والترجمة وفقَا لروتين قاس وصارم. بُعيد ساعات العمل الرسمي وتناول الغذاء ثم الشاي في المقهى، يتفرَّغ بشير لعمله الحقيقي.

يُترجم على أوراق مُسطّرة من مقاس "الفولسكاب" بقلم رصاص ثَلم، وبكلمات كبيرة يكتب على سطرٍ ويترك سطرًا للتحرير النهائي. مُلزمًا نفسه أن يترجم عددًا معينًا من الكلمات حتى موعد نومه. أيامها كان منفصلا عن زوجته، ويسكن بمفرده في شقة صغيرة بالجيزة خلف مصنع ماتوسيان الشهير للسجائر. شقته بضوئها الخفيف المتسرب عبر ستائر بيضاء كانت مسكونة برائحة التبغ الخام القادمة من المصنع القريب.

بشير السباعي بعدسة المهندس ناجي الشناوي

لم يقارب الحواسب والكتابة على الكومبيوتر إلا متأخرًا وبإيعاز وإلهام من صديقه الكاتب الكبير سليمان فياض، الذي على الرغم من ثقافته التقليدية الأزهرية، وكونه يكبُر بشيرًا بخمس عشرة عامًا، كان أول أفراد الجيل القديم في الاهتمام بالكومبيوتر وإتقان التعامل معه من وقتٍ مبكر.

ويذكِّرنا الدأب المحفوظي أيضًا أنّ بشير ومحفوظ تخرّجا في قسم الفلسفة نفسه بجامعة القاهرة بفارق يربو على الثلاثين عاما. وتشاء الأقدار أن أتخرج بدوري في القسم ذاته بعد بشير بثلاثين عاما أخرى، لكن يبدو لي محفوظ أقرب لروح القسم كما عرفته، بسيطرة المثالية الألمانية ثم النزعة الوجودية والفينومينولوجيا،  وحيث كان الطلبة الماركسيون،  كبشير، يبدون دائمًا كطلبة قسم الميكانيكا وسط طلبة الرياضيات البحتة.

وثمة تعليق على دأب محفوظ ذكره الدكتور لويس عوض، إذ حكى أنهم إبان دراستهم في الكليّة بمطلع الثلاثينيات ظهرت ترجمة إنجليزية لرواية توماس مان الضخمة متعددة المجلدات "آل بودنبروك". تهافت الطلبة المتأدبون جميعًا على قرائتها، لكنّ لم يصمد لإكمالها حتى نهايتها سوى محفوظ!

وعلق عوض : " عيَّن نجيب نفسه موظفًا لدى توماس مان فاستطاع أن يكمل روايته الضخمة حتى نهايتها" . وهكذا أيضًا كان بشير: الموظف بدأبه وانكبابه يدير المترجمّ الذي يعمل لصالح الشاعر والمؤرخ والمناضل.

كل موت لعزيز هو انقطاع لحوار وإمكانية، وأسئلة تقف كاليتامى تنتظر إجابات لن تأتي. وكل مثقف يوارى التراب هو مكتبة تندثر، فما بالك ببشير الأكاديمية المستقلة في جسد نحيل لرجل فرد.  

في العشرين سنة الاخيرة كرّس بشير معظم مجهوده لترجمة المجلدات الضخمة للأكاديمي الفرنسي المتخصّص في تاريخ الشرق الأوسط هنري لورنس، حول الإمبراطورية العثمانية والقضية الفلسطينية... وهي باستثناء كتبه الصغيرة من قبيل "المغامر والمستشرق"  مراجع أكاديمية لن يحيل إليها سوى باحث متخصص يرغب في معاينة وجهة نظر فرنسية فيما يخص هذه الشؤون الشرق أوسطية.

وقد  يظنّ مراقب أن تروبادور الصمت قد رحل بعد أن أقفل ملفاته كلها على نحو جيد، وترك في الأرض ما ينفع الناس ويعمل على تعزيز الحرية والكرامة الإنسانيين، وهو قد فعل بالطبع، ولكنني كنتُ أطمعُ، وحزني على بشير يستحيل إلى ما يشبه الغضب، لو كان ترك لنا تاريخًا مُجمّعًا وشاملاً  ومن منظور مصري للحركة السوريالية المصرية، الموجة الأكثر جذرية في تاريخ الحداثة العربية، وكان هو الوحيد المؤهل لذلك بكلّ ما امتلكه من مُدخلات ومفاتيح لذلك العالم.

وددت أيضًا لو كتب تاريخه الخاص، سيرةً ذاتيةً وشهادةً سياسية وثقافية. كنت مثلا أتوق لمعرفة فصول من صداقته للشاعر نجيب سرور التي كتب عنها شذرات قصيرة... كنت أطمع لو خصص بشير وقتًا أكثر في تلك السنوات للكتابة.

لمشهد جنازتي كفافي وجورج حنين شاعري بشير المفضلين  حضورٌ أسطوري يخصّ ارتباك المؤسسة الدينية في التعامل مع جثامين تلك الأرواح الحرّة المنفلتة، وهاهو بشير يلحق بهما في مجمع الخالدين بأسطورة مماثلة حيث جوقة من النساء الجميلات من حبيباته السابقات وصديقاته وتلميذاته تتولى إعداد جسده للمثوى الأخير. وهذا،  شأنه شأن كل الأساطير، صحيح إلى حدٍ ومبالغ فيه إلى حد أكبر، حسب شهود العيان.

كتب صديقه الشاعر والطبيب عبد المقصود عبد الكريم يرثيه "... يزعمن أن غُسلك كان مُزدانًا بالحسناوات ولذا كنت أنيقًا في موتك...".

وبالفعل، رحل بشير بأناقة تامة. تناول عشاءه وخلد إلى النوم، وعبر إلى الجهة الأخرى.

في واحدة من حوارتنا الأولى على مقهى زهرة البستان، وبعد أن قرأ قصيدة لي ولصديق آخر، انزعج بشير من اللغة النثرية واليومية الشديدة التي كان يراها نقطة ضعف لدى جيلنا في بداية ظهوره. ولكنّه كان يستوعب أن ذلك ما كان إلا ردة فعل على إغراق بعض شعراء الجيل الأكبر من أصدقائه في اللعب اللغوي والإبطال الدلالي.

فقال بحزم الأستاذ "لا يجب أن تكون اللغة فيتش أو وثنا، لكنّها لا يجب أن تكون مجرد مومس أيضًا!". وفي  قصيدة له تخيل حوارًا بين المستشرق الفرنسي جاك بيرك، والشاعر  أبي العلاء المعري.

يقول المستشرق في القرن العشرين بينما يتأمل البحر من شرفة السفارة اليونانية: "كلّ حرف في العربية يقود نحو الله!"، ليرد عليه صاحب "مُعجز أحمد" من محبسيه المظلمين في القرن العاشر: "كلّ حرف في العربيّة يقود نحو الإنسان!". ولعلّ هذا هو درس بشير السباعي الأهم.