ويكيميديا
بورتريه لجان جاك روسو

الوجه الآخر لجان جاك روسو: الشرس العنيف الجبان ذو الخيال السعيد

منشور الثلاثاء 2 يوليو 2019

جاءت الوفاة الغامضة للفيلسوف والأديب والموسيقار جان جاك روسو في الثاني من يوليو/ تموز 1778، والتي تأرجح المؤرخون بشأن ما إذا كانت انتحارًا أم وفاة عادية نتيجة نوبة صرع، لتستكمل غموضًا الذي أحاط بالكثير من تفاصيل حياته التي لم يعرف الهدوء طريقًا إليها، بين أوضاع متقلبة وأعمال غير محببة للنفس، وحبيبات تركهن أو تركوه.

كتب روسو، وخاصة العقد الإجتماعي وأصل التفاوت بين الناس، لم تكن فقط محركًا فكريًا ألهم الفرنسيين في ثورتهم نهاية القرن الثامن عشر، ولكن يمكن القول إن هذه الكتابات تتضمن الأساس النظري الذي تقوم عليه الدولة الحديثة اليوم. 

ولكن على الجانب الآخر من حياة روسو المولود في سويسرا عام 1712 لساعاتي فقير هو إيزاك روسو وأم من عائلة غنية هي سوزان برنار، كانت هناك شخصية متقلّبة بين الخوف والجرأة، بين الضعف الفطري وقوة السيطرة على النفس، طفل يشعر بظلم الحياة والمغامرة فيها. وظلّت مشاعره مبهمة عليه.

فهذا "الضعيف" الذي صنعت إرهاصات كتاباته السياسية واحدة من أكبر الثورات في التاريخ. لم يكشف عن نفسه بكاملها سوى في أعماله الأخيرة والأكثر قربًا إلى نفسه. بدأها بـ الاعترافات ومات قبل أن ينهي آخر سطور آخرها أحلام يقظة جوال منفرد.

في بداية حياته وحسبما يذكر في الكتابين، امتلك روسو تصورًا مثاليًا عن العالم، حتى أنه راح "يبحث دون طائل بين الناس عن المثالية والفضائل العظيمة، ويفتقد الحنان القديم". ولكن الطفل ماتت أمه وهرب أبوه لأسباب غير واضحة خارج البلاد وترك الطفل الصغير لخاله بلا عائلة، دون سابق إنذار!

أدت قراءاته صغيرًا والتي كانت تتجاوز عقله إلى تنبّه إحساسه قبل أفكاره. يقول "أحسّ بكل شيء دون أن أفقه معنى أحاسيسي.. إنسان ذو حميمية بالغة، إذا ما استبدّت بي، لن يعدل اندفاعي شيء؛ أنسى كل حكمة، وكل شعور بالاحترام والخوف والوقار، أبدو متهورًا، شرسًا، عنيدًا، عنيفًا، غير هيّاب، لا يصدّني أي إحساس بالعار ولا يرهبني أي خطر، بل إنني لا أكون من الكون كله إلا بالغاية التي تشغل بالي فحسب، على أن هذا كله لا يستمر إلّا لحظة، ثم إذا بي في اللحظة التالية أنغمس في سكون تام".

ويتابع موضحًا التضاد الكامل في نفسه "أمّا لحظات هدوئي؛ أنا الخور والجبن ذاتهما، إذ يخيفني ويثبط همتي كل شيء، فالذبابة التي تمر بي وهي تطن تفزعني، واضطراري إلى أن أقول كلمة أو أقضي حركة يرهبني، وهكذا يتسلط عليّ الخوف والخجل إلى درجة يسرني معها أن أختفي عن بصر زملائي من الآدميين، وإذا كان عليّ أن أقضي تصرفًا فإنني لا أدري ماذا أفعل، وإذا قدر لي أن أتكلم فإنني لا أدري ما أقول، وإذا نظر أحد إليَ تولاني الارتباك".

روسو الذي كان أكثر إحساسًا بالذات، والذي رغِب دائمًا أن يصبح محبوبًا ممن يتصلون به عن قرب. لم يرغب في هدم تلك الصورة المثالية؛ كل ذلك صنع أهمية خاصة لهذه الكتابات المحمّلة بقدر كبير من الوضوح والصدق في تعرية ذاته وكشف نفسه للجميع.

في حياة روسو، ثمة مواقف ربما تفسّر "المظلومية" التي يعرفها عنه قرّائه دون مناقشة أسبابها وسياقها بما يكفي؛ عاش سنوات طفولته يكاد يخاف الخروج من المنزل لاستهزاء الأطفال الآخرين به وابن عمه "الطويل النحيف ضعيف البنية". أيضًا أُتّهم صغيرًا بتكسير المشط الخاص بمدرسته الآنسة لامبرسيه -حبيبته المتخَيلة- التي عاقبته بكل الوسائل ليعترف أنه الفاعل في حين لم يكن هو (كما حكى)، بعد ذلك بـ50 سنة ظل خلالها يشعر بالظلم الشديد من الأصدقاء والمعارف بسبب هذا الموقف.

طُرد روسو من وظيفته "الآمنة" عدة مرات بسبب تمسكه بألّا يخسر أحد أصدقاءه بينما كان دائم الشكوى من العالم وأصدقاؤه الذين جعلوه "تعس وألعوبة للعامة وسخرية للرعاع وموضعًا لاشمئزاز الناس. كانوا يستطيعون أن يجعلوا منّي ألعوبة عن طريق وهم زائف، ثم يعاودون إيلامي من جديد نتيجة خيبة آمالي المرتقبة" كما ذكر في إعترافاته.

ترك حبيبته ومدرسته، عُهد به لأحد رجال الدين لتربيته، أحب الصلاة وتمجيد الله والطبيعة والعزلة في ذاتها، ثم انتقل لرجل يعلمه حرفة النقش على المعادن دون رضاه، يصفه بأنه "كان قاسي القلب". علّم روسو على يده الغش والكذب والسرقة، ما جعله يهرب من عالمه إلى الشارع وحريته.

عمل في المنازل لسنوات، وظل فترة مع السيدة دو فواران التي كان "يقدسّها" كأم وحبيبة بينما تحبه كولدِها، فـ"ملأت عليه شبابه وحبُّه" وجعلته يقرأ ويستمع للموسيقى بنهم أشد من سابقه.

اضطرته الظروف للابتعاد عن سيدته الكبيرة، التقى في طريقه مدام دولارناج التي ترك من أجلها سيدته الكبيرة، والتي "لولاها لمات من غير أن يعرف الملذات"، جعلته يستدعي لحظاته السعيدة دائمًا في كتاباته ولا يمل تكرارها، يتساءل: ما عساي أعمل لأطيل كما أريد هذه الذكرى البسيطة المؤثرة ولأقول وأُعيد الأشياء نفسها ولا يمل القاريء من إعادتها كما لا أمل أنا من استعادة ذكراها.

ذهب لفرنسا، وكان مؤسس الأدب الرومانسي وكاتب هلويز الجديدة التي اعتبرها "حلم يقظة طويل" يشتاق ممارسة الجنس. أقام علاقة مع الخادمة تريز لوفاسير التي "تبلغ مبلغًا كبيرًا من الغباء والبلادة". أنجب منها خمسة أطفال وعاش شبه كارهٍ لجهلها، تخلّص من أطفاله في الملجأ في حين كتب بعد ذلك إميل.. تربية الطفل من المهد إلى سن الرشد، الذي ترجمه عادل زعيتر عن المركز القومي للترجمة، يتحدث خلاله عن التربية وكيفيتها، ليصلح ما أفسده برمي أطفاله في الملجأ، ما جعله يواجه توبيخًا واستهزاءً كبيرين.

طبيعة روسو المتقلبة وتكوينه الريفي إلى جانب حبّه الفطري للنساء تجعله سريع التعلّق والحب وإظهار عاطفته تجاه سيدات عديدة تقاطعت طرقهم معه. كانت تربيته العاطفية والجنسية تستبعد واقعه وتحفّز خياله (الذي دفعه أحد المرات لتغيير اسمه وحياته مدعيًا أنه أستاذً موسيقى).

بدأت العاطفة بحبّه مدرّسته التي تكبره بـ10 سنوات أو يزيد. أثّر "الحرمان" و"الغموض" الذي عاشه على تصوراته العاطفية والجنسية التي ظلت ملتبسة ومبنية بالكامل على خياله. قضى عمره في شوقٍ وعجز، يقول " لن أستطيع أن أحيا على غير الذكريات ما دام ليس هناك أمل في الحالة التي أرنو إليها لأنني أشعر بها حقًا... نادرًا ما ضاجعت إمرأة، لكنني متّعت نفسي بطريقتي الخاصة، أعني في خيالي فقط".

يعرّف روسو أحلام يقظته بأنها أوقات اعتزاله، يقول "إنها جولاتي المنفردة، تلك الأيام السريعة الحلوة التي قضيتها مع نفسي وحيدًا... فلم تكن حياتي كلها سوى حلم يقظة طويل.

في كتاب أحلام يقظته ثمة تفسير آخر يستدعي الانتباه عن شخصية المتشرد الفقير، بخصوص تخبطه وحيرته أو بالأخرى ضعفه البشري. يقول "يجتمع فيّ شيئان متضادان أو يكادان يكونان كذلك، ولا أستطيع أن أعقل اجتماعهما؛ فإحساس شديد وعواطف قوية وشهوات متحكمة تقابلهما أفكار بطيئة التبين لا تظهر إلّا بعد زمن، فكأنما هي في قلب رجل وعقل رجل آخر".

روسو لم يكتب سوى خيالاته، لم يهتم بما عاشه بالفعل قدر كتابته عن ما تمنّاه ولم يتحقق أبدًا أو أن تحققه لم يكن بالقدر الكافِ، كان يعتقد أن نفسه خلقت "محصّنة ضد الحظ". عاش يتفادى الشعور بالمستقبل والواقع. ربما كان كاذبًا حين قال إن "الآلام الحقيقية لا تنال منّي إلّا قليلًا، وإني لأتغلب في يسر على ما أستشعره وليس على ما أتوجسه منها" لأنه -في الغالب- قد نالت جميع الآلام من واقع روسو كما لم تنل غيره.

حياته وصفت جيدًا في تقديم المترجمة لكتاب أحلام يقظة جوال منفرد ثريا توفيق له بأنه عاش حياة بطل رومانتيكي "بكل ما في تلك الحياة من عدم تجانس وفوضى وهروب دائم ومشاعر متقدة وأحزان".

كان الخيال يسانده ويزكيه، يحلّق من خلاله مع كائنات من خلقه، في عالمه الخاص الذي صنعه لـ"ينسى شرور الدنيا ومتاعبها" يستغرق في الطبيعة بكل ما فيها لينقش منها تصوراته. كان يحلم أكثر مما يحيا، وكانت أحداث حياته تدور في رأسه أكثر مما تدور خارجها، وعندما كان يرى بين الناس كان حب المرء له يقل، بينما عندما يرى في الطبيعة فإن كل اختلاجات نفسه، تجد صدامًا في قلوبنا.

كانت الحوارات والإعترافات رغم شدة صدقها هي محض خوف شديد على نفسه لعلّها تقع في يد أعداءه فيتخلص منها بينما في أحلام اليقظة كانت حالته أكثر هدوءًا في كتابة جولاته. يقول "لو أنني عرفت منذ أن حلّت بي أولى المصائب كيف لا أقاوم قدري وأن ألتزم الجانب الذي ألتزمه اليوم لما استطاعت جهود الناس ولا خططهم الفظيعة أن يكون لها أثر عليّ ولما استطاعوا إقلاق راحتي بكل ما يدبّرون أكثر مما يستطيعون منذ الآن".

"هأنذا وحيد في هذه الحياة، لم يعد لي أهل أو أصدقاء أو حبيبة، ليس هناك ما آمله أو أخشاه في هذه الحياة، كائن مسكين تعس لكنه صامد".

قسّم روسو "أحلامه" لعشر جولات، بدأها بشكوته السابقة من الوحدة التي عاشها طوال حياته، والتي لم يستطع تجاوزها. لكن الشيء المشترك خلال جولاته الباقية كما يُرى في اعترافاته أيضًا، أنه يلفت النظر لسيطرة الخيال أو ربما "الوهم" على حياته ورفض الواقع.

في جولته الثانية قال إن هذه الساعات التي تنقضي في وحدة وتأمل هي الساعات الوحيدة من اليوم التي أكون فيها أنا نفسي ولنفسي دون شاغل أو حائل. في حين يبدأ جولته العاشرة والأخيرة قائلًا "لقد قضيت فوق الأرض سبعين سنة عشت منهم سبعة فقط". على ما يبدو أنه أشار للأوقات الحلوة التي صنعها خياله فأتقنها أكثر من أي شيء آخر، كان فيها بصحبة حبيبات فرّقتهم الحياة. وأصدقاء اختفوا أو حتى مناصب لم ينلها.

"وإيه يفيد الزمن مع اللي عاش في الخيال" كان تساؤلًا أو تعجّبًا من الشاعر أحمد رامي على لسان أم كلثوم، هو التعبير الأدق لوصف حياة روسو،، ذلك الولد "اللي شاف بكرة والوقت بدري" فلم يعد يحتمل ثقل الحياة ونتائجها غير العادلة. حياته تلك كانت غير كافية، ظلت حبيسة أمنياته غير المتحققة التي كانت تفوق واقعه وتتجاهل حظه من الدنيا.

كان السؤال الأكثر إلحاحًا بالنسبة إلي الذي طرحته ذكرى روسو؛ هل يمكننا امتلاك نفس الصدق والوضوح أمام أنفسنا قبل أي شيء إذا أُتيحت لنا فرصة الكتابة عن حياتنا؟