تصميم: يوسف أيمن

قبل عام الانتخابات: الهدف ليس مجرد عزل ترامب

منشور الخميس 19 ديسمبر 2019

في المؤتمر الصحفي الذي عقد عقب التصويت على مساءلة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وضعت نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب، مجلس الشيوخ الأميركي الذي تسيطر عليه أغلبية جمهورية في المواجهة، وألقت بشكوكها حول نزاهته.

بيلوسي نوهت بشكل خاص إلى رسالة زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ متش ماكونيل فيما يخص إجراءات عزل ترامب، وبالأخص رفضه دعوة مسؤولين من الإدارة، ترامب منعهم من الإدلاء بشهاداتهم أمام مجلس النواب، للإفادة بها في خلال المحاكمة بمجلس الشيوخ. الأسماء المعنية تضم كبير موظفي البيت الأبيض مايك مولفاني، ووزير الخارجية مايك بومبيو، فضلا عن محاميه رودي جولياني، ويبقى الأخطر من بينهم بالطبع هو مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، الذي بادر ترامب بعزله قبل بضعه أشهر، يومكن لشهادته أن تعزز عزل ترامب.

وصفت بيلوسي ما قاله ماكونيل بالدليل على افتقار المجلس لإجراءات تتسم بالنزاهة، واعتبرت أن عموم الوضع في مجلس الشيوخ لا يؤشر بحال لإمكان النهوض بمحاكمة عادلة. وأضافت أنها والمجموعة التي تدير إجراء العزل في مجلس النواب معنيون بالنظر في توقيت إرسال مواد الإحالة إلى المحاكمة وقرار العزل الصادرين عن مجلس النواب إلى مجلس الشيوخ؛ الآن، أم تأجيل ذلك إلى حين توفير مجلس الشيوخ ضمانات تزيل المخاوف، وتبرهن على نيته عقد محاكمة "تتسم بالشمول وعدم الانحياز".

وعلى الرغم من الحجية التي تسم المطالبة بهذه الضمانات، يظل الواضح منذ البداية أن التسويف من جانب بيلوسي هو جزء من استراتيجية يتبناها الحزب الديمقراطي، قوامها عدم الاكتفاء بإنهاك ترامب وعزله، وإنما توسيع نطاق المواجهة، لاستنزاف حزبه ذاته في عام الانتخابات الرئاسية.

تعي بيلوسي ومعها أقطاب الحزب الديمقراطي نتائج التصويت الذي جرى، وحقيقة أنه التزم بصرامة خطوط الانقسام الحزبي ولم يبارحها. وهو وضع يشي بالقادم، حيث لا مجال لتمرير القرار في مجلس الشيوخ ذي الأغلبية الجمهورية بنفس طريقة تمريره في مجلس النواب ذي الأغلبية الديمقراطية. وقد برهنت المداخلات التي غلبها الانفعال في خلال المداولة حول قرار العزل على عمق المدى الذي بلغه الاستقطاب بين الحزبين.

تبقى هذه المعركة في الأخير معركة سياسية، بحسب وصف ماكونيل. لكن هذا لا يعني أبدا تغييب البعد القانوني لدى تناول مجلس الشيوخ إجراءات العزل، إنما المعنى هو أن الجانب القانوني يظل الأقل اعتبارا في حساب الطرفين لاستراتيجياتهما.

وبالعموم، يظل مجلس الشيوخ ملزما بتشكيل محكمة على غرار المحاكم الفيدرالية، يكون محلفوها هم أنفسهم الشيوخ أعضاء المجلس، ويرأسها رئيس المحكمة العليا الأميركية بنفسه. والمتصور أن يلتزم المجلس بما تفرضه ضمانات العدالة وفق العرف القضائي الأميركي، وإلا سيكون الأمر مجرد مزحة، تلقي بعواقبها في وجه الجميع.

ما يخشاه الجمهوريون فعلا ليس نتائج المحاكمة، وإنما علانيتها، وتوسع دائرة الاتهام فيها. الأمر يثير قلق من لا تتمتع ولاياتهم بكتل تصويت صلبة، ولا يقعون ضمن "الولايات الحمراء" ذات الكتلة التصويتية التقليدية الكبيرة المضمونة للحزب الجمهوري. ويزداد الأمر لدى البرلمانيين من تلك الولايات التي ترجح فيها القضايا الأخلاقية تصويت الكتل العائمة، حتى وإن كانت تميل لليمين الجمهوري.

على ضعف هذا الاحتمال، تبقى الحسابات المحلية دائما بابا للمفاجآت. من ثم، يختار الحزب الديمقراطي لمعركته أن تكون شاملة، وأن تتخطى شخص ترامب، بالضغط على نوابه بأسلوب الهجوم واحد لواحد، كل في دائرته سيواجه بعضا من ظلال عزل ترامب.

والنواب ممن ستتملكهم الخشية من أن تنالهم المحاكمة، هم دون شك لقمة سائغة للديمقراطيين، ولن يرحمهم حضور إعلامي نهم لهذه القصص، وحتما سيعمل على إبراز كل ما سيتكشف في خلال المحاكمة حول من تنالهم ظلال عزل ترامب، سواء بسبب ورود ما يفيد بارتباطهم المباشر بتهمة سوء استغلاله السلطة، أو من جهة التورط في ممارسات الفساد السياسي، ناهيك عمن سيوبخون على خلفية رداءة مواقفهم التي تتجاهل القيم القانونية والأخلاقية.

سيراهن الديمقراطيون في هذه النوعية من الحالات على خلخلة الموقف الانتخابي للكتل العقائدية والأخلاقية التي تصوت للجمهوريين. صحيح لا مجال لتعويل كبير في الانتخابات الأميركية على الحرج الأخلاقي، لكنه قد يكون أحد العوامل التي تغير خارطة التصويت في مجلس الشيوخ إذا ما أضيفت إليه عوامل أخرى تتعلق بذمم الأعضاء. 

ستدور فصول دراما العزل بين محددات قانونية وأخلاقية وبين ألعاب البراجماتية السياسية. وستتأرجح معها الإجابة عن سؤال أي فرص لترامب في الفوز بالانتخابات القادمة. قد يعول البعض على أن تاريخ الانتخابات الأميركية يبرهن على ميل الأميركيين إلى تجديد الثقة في شخص الرئيس الجالس في البيت الأبيض، بغض النظر عن انتمائه الحزبي، وعن بعض خطاياه، طالما لم يسبب كارثة كبيرة ولم يمس جيوبهم. وقليلا ما نحوا رئيسا دون أن يمنحوه مدة ولاية ثانية. لكن الظروف المحيطة بترامب تقربه من حال القلة من المستبعدين بعد فترة رئاسية واحدة، بأكثر من حال غالب الرؤساء السابقين، الذين نعموا بتجديد الثقة لولاية جديدة.

يبرز السؤال عن الحزب الديمقراطي نفسه، هل بمقدوره استثمار وتعظيم هذه الفرصة لحسم معركته الرئاسية؟ قبل أي إجابة، ثمة حقائق تشكلت إثر انتخابات التجديد في 2018 وعززت المواقع الانتخابية للديمقراطيين، وبما يفسر حالة التمترس الحزبي الراهنة، والتي عكسها التصويت على قرار عزل ترامب بمجلس النواب الأميركي.

لقد أسفرت تلك الانتخابات عن اقتناص الديمقراطيين سبعة مواقع عزيزة لحكام الولايات، وبما قلل الفجوة بينهم وبين الحزب الجمهوري الذي كان يسيطر على أغلب هذه المناصب. أصبح للديمقراطيين 23 منصبا لحكام الولايات في مقابل 27 حاكما للجمهوريين؛ كذلك وبالرغم من فقدان مقعدين بمجلس الشيوخ، ذهبت للحزب الجمهوري، تعززت مواقع الحزب الديمقراطي في مجلس النواب، وحدثت طفرة بوصول عدد نوابه إلى 235 نائبا في مقابل 199 للجمهوريين.  هذا العدد من النواب هو ما منح تمريرا مريحا لقرار العزل في مجلس النواب.

الأمر ليس مربوطًا بأطراف أصابع قادة الحزب الديمقراطي على الإطلاق؛ إذ تقف العديد من الحقائق والمحددات التي ترسم السياسة الأميركية بوجه الرهان على محاكمة العزل وحدها. يدرك الديمقراطيون أهم ملامح التحدي في عام الانتخابات، وهي أن يستطيعوا تحييد القضايا الانتخابية الأساسية.

فرغم من انخفاض واضح في شعبية ترامب بالعموم، وانقسام المجتمع الأميركي بشأن عزله، لكن انتخابيا، لا زال ترامب يتمتع بكتلة تصويت صلبة، يوفرها له الحزب الجمهوري، قوامها مؤيديه التقليديين في ولايات ما يسمى بالحزام الأحمر، فضلا عن تلك الكتلة الإيديولوجية التي أثبتت قوة وجودها، من المؤمنين بسمو العنصر الأبيض.

كتلة عقائدية تؤيد على طول الخط خطابه التمييزي الحاد. يضاف إلى هذا العامل أن ثمة ما يؤشر إلى تعزيز مواقعه في بعض الولايات المرجحة، مثل متشجان وبنسلفانيا وفلوريدا، التي راوحت في انتخابات 2016 ضمن هامش بسيط جدا بينه وبين هيلاري كلينتون. 

والتوقع هو أن تبقى نتائج هذه الولايات على تأرجحها، وبما يجعلها المواقع الانتخابية الأكثر إقلاقا بالنسبة له، إن أعاد الحزب الجمهوري ترشيحه، ولمنافسه المحتمل من الحزب الديمقراطي، والذي يرجح أن يكون أحد أربعة، إليزابث وارن أو بيرني ساندرز أو مايكل بلومبرج، وبالطبع الأكثر حظا من بينهم حسب استطلاعات الرأي في داخل الحزب الجمهوري جو بايدن، الذي كان نائبًا للرئيس السابق باراك أوباما. 

وهنا لابد من القول بأن جزءًا من الإشكال كامن في شخوص المرشحين الذين يطرحهم الحزب الديمقراطي في مواجهة ترامب؛ ليس من بين الأسماء المطروحة من بمقدوره أن يمثل أمام الناخب الأميركي الاعتيادي "خيارا مبهرا"، يهز ميله التقليدي إلى التجديد للرئيس شاغل المنصب. لكن يبقى الأمل وحسب في أن يبرز من بين المرشحين العديدين، الذي قاربوا العشرين مرشحا، من يمكنه أن يوظف نواتج إجراءات العزل والتوبيخ، في اقناع الجماهير بتجاوز ترامب وحكمه، وأن يشتغل والحزب برمته على معركة حقيقية لإعادة الرهان على الديمقراطيين.

يجدر قبل الإقرار بهذا أن نعيد التذكير بأن القضايا الصلبة في سؤال تجديد الثقة الانتخابية لن تتنحى أمام موجة العزل ومحاكمة ترامب، وعلى رأسها قضية الاقتصاد. فالحقيقة الماثلة أمام الأعين هي أن صورة ترامب المرشح متماسكة من الوجهة الاقتصادية؛ فالرجل لم يعانِ في خلال سنوات حكمه الثلاث التي مضت من هزات اقتصادية عنيفة، على غرار تلك التي مرت بها الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي في 2008.

وبعيدا عن توقعات متشائمة بعودة شبح الكساد، تبقى ثقة الأميركيين في اقتصاد بلادهم عند مستوى عال، ولا زالت تسجل ارتفاعًا لافتًا. هذا ما يظهره استطلاع للرأي المعروف باسم مؤشر ثقة المستهلكين، والذي أفاد بأنه على الرغم من انخفاض الثقة الاقتصادية في شهور بعينها، ومنها شهر يناير/ كانون الثاني من هذا العام الذي أقدم فيه ترامب على الإغلاق الجزئي للحكومة، تظل المدة من يناير 2017 وحتى الآن هي "الأسعد" بالنسبة للمستهلك الأميركي، ولم تجاوزها عبر ما يزيد عن نصف قرن كامل من عمر هذا الاستطلاع إلا حالة رضا المستهلكين في الفترة ما بين مايو 1999 إلى ديسمبر 2001.

ويقدر الاستطلاع أنه بالنسبة إلى قضية البطالة، التي تبقى الأكثر حساسية تصويتيا، ستفيد مؤشرات الارتفاع في الأجور السنوية والانحسار النسبي للبطالة في سنوات حكم ترامب، وهو وضع يقدرون استمراره في الربع الأول من عام 2020. وثمة نسب مقاربة لهذه الصورة تبرزها دراسة ميول المستهلكين التي تجريها جامعة متشجن.

هكذا الحال، فترامب -على الرغم من كل ما يحيط بشخصه وبأدائه السياسي- لم يكن فاشلا على المستوى الاقتصادي. وهي حقيقة يدركها الديمقراطيون، إذ يعون أن لا مجال لنصب فخ "الغضب الاقتصادي" لاصطياده. وبالقدر ذاته يدرك خصومهم الجمهوريون هذا الملمح، فيستعينون بديباجة الاستقرار الاقتصادي لتعويض انخفاض الشعبية المزمن الذي يعانيه ترامب منذ وصوله للرئاسة.

والتبجح بالاقتصاد هو أيضا وسيلتهم لحصار أطروحة يسار الحزب الديمقراطي التي تجد صدى لدى الفئات الشابة والمجموعات المهمشة والأكثر معاناة في المجتمع الأميركي. ولعل هذه الصورة هي التي تسند توقعات المحللين الاقتصاديين الذين يقولون بأن لترامب فرصة جيدة لتجديد ثقة الأميركيين في رئاسته.

يبقى الاقتصاد مفتاحا لفهم تصويت غالب المواطنين الأميركيين، ممن لا تعنيهم كثيرا القضايا المشتعلة على صفحات وشاشات الإعلام؛ فتحسين واستدامة أوضاعهم المعيشية وتوفير المزيد من فرص العمل، وحتى تخفيف قيود النظام الضريبي على الفئات الغنية، تبقى عناصر مؤثرة وأساسية في قرار التصويت. وترتبط بها أيضا قضايا عديدة، كالهجرة والرعاية الصحية والعلاقات الخارجية مع الصين وأوروبا، وهي قضايا مؤثرة لدى قطاعات بعينها، وتوجه فئات اجتماعية عديدة يرتبط موقفها السياسي بهذه القضايا.

أخيرا، من الصعب التكهن بنجاح استراتيجية الإنهاك، في ضوء عاملي الاستقرار الاقتصادي وثبات الكتل التصويتية التقليدية، لكن الأمل يحدو الديمقراطيين، في ظل تقارب نسب التصويت في الانتخابات الماضية، وتعدد الولايات المتأرجحة، وعلو موجة التصويت الأخلاقي، أن يتمكنوا من سحب المعركة لمستوى الولايات، ويصلوا بها إلى وضع يدفع بالحزب الجمهوري إلى استشعار الخطر في تلك المناطق التي لا يملك فيها أغلبية مريحة، وتشكل في مجموعها وازنة للمعادلة لصالح الديمقراطيين. عندئذ سيسعى مضطرا إلى تجنب السقوط الشامل، وقد يضحي بفرصة الرئاسة، ناصحا ترامب بالاستقالة، في ظل تقويض شرعيته القانونية بالمحاكمة، وليطرح مرشحا يعرف أن قدره هو أن يسقط.

هذا التفكير الاضطراري سيحتاج استعادة كتلة البراجماتية السياسية في داخل الحزب الجمهوري صوتها، وبعضها كان قد عبر صراحة عن خشيته من تورط الحزب بالكامل في دعم ترامب لآخر مدى، وبالخصوص النواب القدامى ممن خشوا من ممارسات ترامب التي تقفز على قواعد عمل الحزب وتتخطى مؤسساته.

بالعموم فإن نجاح الديمقراطيين في هذه اللعبة - الأعقد والأبعد من مجرد استهداف ترامب - يظل مرهونا بعوامل ثلاثة؛ أولها، أن يتسم تحرك الديمقراطيين في المواجهة على مستوى الدوائر بالجودة والحرفية العالية؛ وثانيها ألا تقرر قوى السيطرة الرأسمالية في الاقتصاد والميديا وضع ثقلها لصالح الجمهوريين، وهم أقرب تقليديا إليها؛ وأخيرا، أن يسمع صوت أصحاب الحسابات البراجماتية في الحزب الجمهوري، فيحدون من توجه الحزب لاستراتيجيات اللعب الخشن والخيارات التي تضع سمعة الحزب على الحافة.